اختتم المنتدى الاجتماعي العالمي أعماله في تونس. وعلى مدى أيام عدة، ناقش آلاف المشاركين أموراً شملت النظام الاقتصادي العالمي والنضالات الشعبية من فلسطين إلى فنزويلا وقضية تحرر المرأة. وأسهمت أعداد لا تحصى من شابات محجبات وغير محجبات في المناظرات، وتشاركن تجاربهن، ما أظهر إلى أي حدّ يكتفي اليمين وجزء كبير من اليسار في فرنسا بالمرور إلى جانب الواقع فقط.
شاركتُ شخصياً بمناظرة في الديموقراطية والإسلام إلى جانب طارق رمضان ونجم الدين الحمروني في لقاء ساهم فيه أكثر من 600 شخص. وتمكنت خلال هذه الأيام التي قضيتها في تونس من استكشاف توقعات الأطراف المختلفة وآمالهم ومخاوفهم على مستقبل البلاد، على الأخص بعد اغتيال القيادي اليساري شكري بلعيد.
فقد أطلّ الرئيس منصف المرزوقي من الدوحة، ليهدّد معارضيه بالمشانق (قراءة «المرزوقي يهدّد بالمشانق» لابريس، 27 آذار)، في ما عُدّ ردّاً على تصريحات حمّة الهمامي، القيادي في الجبهة الشعبية خلال مراسم إحياء أربعين بلعيد (16 آذار). قال الهمامي إن الشعب الذي أطاح نظام بن علي، سيتمكن من إطاحة الحكومة الحالية برئاسة علي العريض.
بدا من عرض العضلات هذا أننا نسير باتجاه مواجهة عنيفة بين معسكرين: الإسلامي والعلماني. لكن بعد الحديث مع قيادات المنظمات المختلفة، نتوصل إلى استنتاج مختلف قليلاً. فيتوسط هذه اللعبة الشيخ راشد الغنوشي، الزعيم التاريخي لحركة النهضة، الذي تعود له الكلمة الفصل في الحركة. ورغم أن الحديث تناول في المرحلة الأولى فرنسا وتصاعد رهاب الإسلام (الإسلام فوبيا)، حرص في وقت لاحق على التعبير عن وجهة نظره في التطورات الداخلية.
«النهضة لا تقدر ولا ترغب أن تقود وحدها، فتحالفنا مع حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي ينتمي إليه المرزوقي وحزب التكتل الذي ينتمي إليه مصطفى بن جعفر (الحزبان اللذان يشكلان الترويكا الحاكمة إلى جانب النهضة) ليس تكتيكياً، بل هو أمر طبيعي يجب أن يستمر حتى الانتخابات وما بعد ذلك. لقد فكرنا في التجربة الجزائرية عام 1991 والانتخابات التشريعية التي عطّلها الجيش. فقد حصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على 80% من الأصوات، ولكن الـ20% الباقين كانوا ذوي وزن (من جيش وكادرات وصحافيين وأصحاب علاقات مع الخارج). ولهذه الأقلية وزن مهم عندنا أيضاً، فحتى لو حصلنا على 51% من الأصوات، لن نتمكن من الحكم»، وتابع: «لدينا الكمية لا النوعية».
ملاحظة: في انتخابات عام 1991، حصلت الجبهة الإسلامية للإنقاذ على 47% من الأصوات، وكان يتوقع وفق النظام الانتخابي السائد في حينها، أن تحصد ثلثي عدد المقاعد.
من هنا، لا بدّ أن نتذكر أنه في أيلول عام 1973، غداة الانقلاب العسكري في تشيلي الذي وضع حدّاً لتجربة الديموقراطية الاشتراكية، تعلّم إنريكو برلينغوير، الأمين العام للحزب الاشتراكي الإيطالي في حينها، الدروس، وأعلن ذلك عبر ثلاث مقالات شهيرة دعا فيها إلى تسوية تاريخية بين الشيوعية والديموقراطية المسيحية. فبالنسبة إليه، من غير الممكن تغيير إيطاليا مع 51% من الأصوات.
بالطبع، السياق مختلف تماماً اليوم، لكن في ظلّ الظروف الفوضوية المرافقة للعملية الانتقالية في تونس (ومصر أيضاً)، ألا يجب التوصل إلى تسوية تاريخية مع مختلف القوى السياسية؟ وهنا لا نتحدث عن إنكار التناقضات العقائدية، ولا الأفكار المتباعدة حول مستقبل هذه المجتمعات أو مكانة الدين، ولا ضرورات التحديات الاجتماعية، ولكن عن تحديد الأطر المشتركة التي يمكن هذه الصراعات أن تخاض في داخلها. بالنسبة إلى الغنوشي «يجب تفادي المواجهة بين معسكرين، أي المواجهة العقائدية. في ما يتعلق بالعقيدة، لا يرغب أي أحد في التسوية، ولكن يمكننا التوصل إلى أرضية تفاهم سياسي. ولهذا السبب نؤيد التفاهم، حتى أننا قبلنا في حزبنا التخلي عن أربع وزارات سيادية، على الرغم من أن شيئاً لم يجبرنا على ذلك».
ويتابع: «هدفنا التوصل سريعاً، بعد إنجاز الدستور، إلى انتخابات تكون نتائجها مقبولةً من الجميع، بمن فيهم المعارضة. فلا يفيد بشيء أن يتكرر ما حصل في مصر، أي الفوز بالاتخابات مثلما فعل الإخوان المسلمون إن كانت المعارضة تقاطع». ولهذا السبب، يقول الغنوشي: «قبلنا القيام بتنازلات في ما يتعلق بالدستور»، ويضيف: «نريد دستوراً للجميع، فقد رفضنا أولئك الذين طالبوا بتطبيق الشريعة، ولم يكن ذلك سهلاً في النهضة، لقد أزلنا البند الذي يشير إلى التكامل بين الرجل والمرأة وقبلنا بالمساواة، كذلك امتنعنا عن صياغة التحفظات حول ضرورة تطبيق النصوص الدولية لحقوق الإنسان. فنحن لا نريد الذهاب إلى الاستفتاء (وهذا ما سيحصل في حال عدم التوصل إلى توافق على النصّ)، لأننا نريد تقصير الفترة الانتقالية، ونريد التوافق».
فهل تصريحات زعيم النهضة نابعة من إدراكه لمعايير القوى بعد التحركات التي تلت اغتيال بلعيد، التي تحمّل المعارضة مسؤوليته بشكل مباشر أو بالأغلب بشكل غير مباشر للنهضة؟ هل تشير إلى استدارة حقيقية في سياسة الحزب؟ حتى الآن لا تثير هذه التصريحات إلا الشكّ وعدم الثقة في صفوف المعارضة.
يقول الطيب بكوش، الأمين العام لحزب نداء تونس، والأمين العام السابق للاتحاد العام التونسي للشغل (1981 - 1984)، وعضو الحكومة الانتقالية بعد سقوط بن علي إن «الحكومة الجديدة ما هي إلا نسخة مجددة للحكومة السابقة مع بعض التغييرات الطفيفة التي لا تمسّ بالعمق. لقد فشلت في الماضي، إذاً لماذا إعداد نسخة جديدة؟ هذا نوع من الغطرسة». وعن تخلي النهضة عن حقيبتين سيادتين، يقول: «الأمر شكلي، لسببين: من يتحكم بالأمور لم يتغير، لقد جرى التغلغل بالإدارة، أجري 1200 إلى 5 آلاف تعيين من بينهم جزء كبير من النهضة».
وأضاف: «لدينا انطباع بأنهم يريدون دولة ثيوقراطية من خلال كافة الوسائل، بما فيها العنف». ولكنه رفض التشبيه الذي يقوم به البعض مع ما جرى في ثلاثينيات القرن الماضي في أوروبا وصعود الفاشية. فيقول إنه لا يمكن المقارنة فـ«النهضة جزء من المشهد السياسي».
لكن المفاجأة كانت في نهاية المقابلة؛ فقد طرح عليه سؤال عمّا إذا كان على استعداد، بعد الانتخابات، للدخول في حكومة وحدة وطنية تضمّ النهضة، فرفض التعليق دون أن يستبعد نهائياً هذا الاحتمال.
وفي المشهد السياسي طرف ثالث، الجبهة الشعبية، التي ترفض النهضة بقدر ما ترفض نداء تونس، الذي يُعَدّ خليطاً من النظام السابق وليبراليين. وتتفق هاتان القوتان على بعض السياسات الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما في ما يتعلق بالاتفاق مع صندوق النقد الدولي.
يرى المتحدث باسم الجبهة الشعبية الجيلاني الهمامي أن «الحكومة الجديدة نسخة عن حكومة الجبالي، وهي عاجزة عن اتخاذ إجراءات للتخفيف من أوضاع الجماهير. هذا العام، مستحقات الديون المتكبدة منذ حكم بن علي ستبلغ بين 17 و18% من نفقات الموازنة، والهدوء الاجتماعي السائد نسبياً ليس إلا السكوت الذي يسبق العاصفة».
وماذا عن التباعد في داخل النهضة بين الجبالي والغنوشي؟ «الأول يرغب في جمع البورجوازية في البلاد في جبهة مشتركة، فيما يريد الآخر أن تكون النهضة الممثل الوحيد لهذه البورجوازية».
يقول الهمامي إن «الجبهة الشعبية تريد كسر الاستقطاب الثنائي؛ فالنهضة تشكل نواة نظام استبدادي، ولكن نداء تونس هو ثمرة نظام استبدادي. وتعطينا استطلاعات الرأي ما بين 12 و13% من الأصوات».
ولكن كما يعترف قيادي آخر في الجبهة، محمد جمور من حزب «الوطد»، فإن الحديث عن تحديد «العدو الأساسي» مستمر في قلب الجبهة، وتصاعد العنف قد يستدعي تحالفاً من أجل الديموقراطية قد لا يستبعد منه «نداء تونس». ففي داخل الجبهة يدرك الجميع أن «تصاعد العنف يستدعي إنشاء جبهة واسعة لمواجهته».
إن أنور بن قدّور هو الأمين العام المساعد للاتحاد العام التونسي للشغل، المنظمة النقابية التي تؤدي دوراً أساسياً في تونس. أصله من قفصة، وهو نجل أحد قادة الاتحاد السابقين ونقابي بامتياز. يقول: «لا يزال الجميع تحت وقع صدمة اغتيال بلعيد. لقد أوقف بعض العملاء، ولكن المحرّض الرئيسي لا يزال فارّاً. هذا اختبار للحكومة: يجب أن يدرك الناس أنه يمكن الشرطة أن تتعامل مع وضع صعب. ولا نزال ننتظر».
ويشير إلى أن بعض المشاكل الحالية ترتبط بـ«الخطاب المزدوج للنهضة والصعوبة التي تواجهها في الانتقال من قوة معارضة إلى حزب في الحكومة».
والمثال على ذلك؟ الاتحاد العام التونسي للشغل بحدّ ذاته؛ فرئيس الوزراء الجبالي وقّع اتفاقية مع أرباب العمل في كانون الثاني وسلمني نصّها الذي يشكّل «تقدماً للحوار الاجتماعي». ويضمن النصّ حقوقاً عدة للعمال، وإدارة مشتركة لصندوق الضمان الاجتماعي، وصندوقاً للتعويض عن البطالة والاعتراف بحق الإضراب. لكن في الدستور، يسعى بعض نوّاب النهضة إلى فرض قيود على هذا الحق. ورغم أن النهضة امتنعت عن ضمّ الشريعة إلى النص، لا يزال عدد من نوابها يناضلون بهذا الاتجاه.
فهل هي لغة مزدوجة إذاً؟ (حول حزب النهضة، قراءة المقال الممتاز لفابيو ميروني وفرانشيسكو كافاتورا «النهضة: حزب في مرحلة انتقالية»، جدلية 25 آذار 2013)، لماذا إذاً لا تزال اللجان العليا لإعداد الانتخابات ومراقبة القضاء في مرحلة المشاريع ولم تنفذ بعد؟ ولماذا لم تنشأ بعد الهيئة العليا لتنظيم وسائل الإعلام؟ (قراءة «رسالة مفتوحة إلى الرؤساء الثلاثة»). لقد تغير المشهد الإعلامي كثيراً، وباتت وسائل الإعلام تتميز عموماً بعدائيتها تجاه السلطة، ولم تعد محافظة كثيراً. ونلحظ في تونس ومصر تراجعاً لتأثير قناة الجزيرة، لسببين: أدى الانفتاح إلى إنشاء العديد من القنوات المحلية تفتح الباب أمام المناظرات والمواجهات، كذلك إن الربط بين القناة والإخوان المسلمين طاول صدقيتها.
وتثير أمور أخرى قلق المعارضة، أيضاً، مثل الرفض حتى الآن لحلّ رابطة حماية الثورة وعدم تحقيق نتائج واضحة في التحقيقات بأعمال العنف التي حصلت. وفي الوقت نفسه، لا يزال بعض نواب النهضة وقادتها يتحدثون عن الشريعة وحتى عن ختان الإناث، ما يثير الشكوك في مدى صدقية الحركة.
يمكن أن نرى استراتيجيةً مكيافيلية، ويمكننا أن نرى أيضاً انعكاساً للتناقض في قلب النهضة، الممزقة بين خطاب الأمس وضرورة إدارة الدول. ويقول الغنوشي إنه لا يجوز قطع العلاقات بنحو كامل مع من وصفهم بـ«العلمانيين المتشددين»، ولا يجوز دفعهم إلى العنف الذي تمارسه التيارات السلفية، التي باتت قويةً الآن.
ويعترف أحد كادرات النهضة بأن عليها أخذ قاعدتها في الاعتبار؛ فـ«لا يمكن أن ننسى التاريخ والقمع الذي طاول المناضلين والعائلات مع السجن والتعذيب. وثمّة خوف من العودة إلى الخلف إن فقدت النهضة السلطة». وتميل المعارضة غالباً إلى نسيان هذا البعد: فعشرات الألوف من عناصر النهضة الذين تعرضوا بأجسادهم للقمع، يخافون من وصول نداء تونس إلى السلطة، الذي يضمّ بين أعضائه كادرات من النظام السابق.
فهل يمكن الموافقة بين هذه المخاوف ومخاوف جزء كبير من المجتمع الذي يخشى أسلمةً استبدادية؟ في أيلول 1973، غداة خطاب برلينغوير، صرخ عشرات الآلاف من اليساريين قائلين: «رفيق برلينغوير، هل تعرف أن التسوية التاريخية بتشيلي حصلت بواسطة السلاح؟». فهل يتمكن التونسيون من تفادي هذا المصير الكارثي؟ أم أن الفوضى لا تزال تهدد التحالفين الذي يتمتع كلّ منهما بالقدرات لمنع الآخر من الحكم بفعالية؟ تقع الإجابة على عاتق كلّ الأطراف السياسية، ولكن بالدرجة الأولى على الطرف الأقوى: النهضة.
ملحق: طرح خلال الحديث مع الغنوشي مسألة تحديث تونس، وقال: «يجب أن ننطلق من حلم القرن التاسع عشر حين أدركت تونس تأخرها مقارنةً بجيرانها في الشمال واختارت العودة إلى الإسلام الحقيقي. لم ترفض الإسلام، ولكن القراءة الخاطئة للإسلام. كان الحلم يقوم على التمسك بالدين ولكن مواكبة العصر. وقد حطم الاستعمار هذا الحلم الذي حمله خير الدين باشا (الذي توفي عام 1890). وفرض مشروعاً آخر: وضع الإسلام جانباً وسلوك المنحى الفرنسي. وقد اتبع بورقيبة المشروع الفرنسي، وتم تهميش الإسلام. استند هذا المشروع إلى الديكتاتورية والعنف باسم الحداثة»، ولكن مشروع القضاء على الإسلام لم ينجح، واختتم مبتسماً: «حتى إن شرب الكحول، يستمر التونسي في القول إنه مسلم».
(ترجمة هنادي مزبودي)
* رئيس التحرير المساعد في «لو موند ديبلوماتيك» (فرنسا)