قد يصح أن نطلق على هذا العصر، عصر المفارقات الكبرى، وعلى هذه الفترة المسماة «الربيع العربي» فترة المخاطر الكبرى.أما لماذا عصر المفارقات الكبرى، فلأن العالم يصطخب على وقع اتجاهين متناقضين، الأول: إنسانوي عقلاني انفتاحي. والآخر: ظلامي صدامي انغلاقي.
وأما أنّ هذه الفترة هي فترة المخاطر الكبرى، فلأنها تختمر بالتفاعلات الحادة والارتدادات الكارثية، بعدما شاهدنا كيف أن القوى العظمى تبدو في عجلة من أمرها لاستعادة أمجاد وتراث الغزوات البربرية. وكيف أنّ المجتمعات العربية محضن «الثورات» مدفوعة إلى غرائزها، فيما تستعد الجماعات الموزعة فيها لصدام انتحاري مرعب لا يعبّر في الحقيقة إلا عن الخلل في نظام القيم والأخلاق والمعرفة، ولا يشير إلا إلى الهشاشة الأمنية التي أسهمت في تشجيع الفوضويين على تحويل الحياة إلى جحيم، وإخضاع المجتمعات لسلطان الرعب.
في الواقع عندما نأتي لدراسة النظم الاجتماعية والثقافية والدينية المرتبطة بالبنية التحتية لهذه المنطقة التي تقطنها جماعات من أديان وأعراق مختلفة، نجد أنّ هذه الجماعات قادرة على تنظيم سلامها الداخلي وتنمية حراكها ومصالحها المشتركة، لأنّ القواعد الحضارية التي تقف عليها هذه الجماعات ثابتة وراسخة وبإمكانها امتصاص الاهتزازات الداخلية ولو بلغت في مخاطرها مستويات عالية.
إلا أنّ الأمر يختلف كلياً عندما تتدخل القوى الخارجية. يمكن تشبيه تدخلها بالفيروسات الالكترونية التي لها خواص التجسس والتسلل والانتشار وتخريب الشبكات والنظم المعلوماتية أو السيطرة والتحكم فيها وصولاً إلى نسفها وتدميرها إن اقتضى الأمر ذلك. فهذه القوى من خلال تحريكها للقوة الناعمة أو الصلبة التي تمتلكها يمكنها الاختراق والتأثير والاستحواذ على كيان المجتمعات، ناسفة ومدمرة المواقع والحصون القيمية والأخلاقية فيها، ومحدثة تغييرات عنيفة في بيئاتها الاجتماعية والأمنية.
وقد لا يسع الجماعات التي تعيش داخل هذه المجتمعات إلا أن تتخوف على نحو مضاعف من مآلات ونهايات دموية، ولا سيما أنّ القوى الخارجية تستعين عليها بالحروب الدينية حتى تفترق وتتصادم، وسيكون الدين في هذا السياق موظفاً لزيادة منسوب التوترات والنزاعات الطائفية والمذهبية لكي تسير هذه الجماعات على غير هدى، وتدخل في تناقضات حادة مع مبادئها!
ومن الأهمية بمكان فعلاً أن نلحظ أنّ جريمة القوى المسماة عظمى لا تنحصر في ممارساتها وأفعالها في ذاتها، على فظاعاتها. بل بما تولده وتنتجه من انقسامات فتاكة داخل الدول التي ترى مصلحة في تفتيتها كدول العالم العربي على سبيل المثال. وقد استطاعت بالفعل أن تصدّع جسوراً إنسانية بنتها الشعوب لبنة لبنة ومدماكاً مدماكاً. وأثبتت أنها لا تتورع عن تغيير المجتمع الواحد نحو الأسوأ والأقبح فتحيله مقسماً إلى أقليات وشعوب ومجموعات دينية تهيج على بعضها البعض لأتفه سبب وسبب!
ولذلك لا بد أن تتضح مبكراً مصادر التهديد التي تتجه اليوم بقوة إلى المجتمعات العربية وانعكاسها الخطير على التفاعلات الإنسانية والديناميات الثقافية والوشائج الاجتماعية، حتى أصبحت عرضة للتفكك والانحطاط والتلف.
لا بد إذاً، من معرفة حقيقة هذه القوى، والمسارعة إلى مواجهتها فكرياً وعسكرياً لأنها تهدد أسس الحياة المشتركة والوجود الثقافي والديني لكل المكونات التي تسعى إلى بناء استقلالها على القيم الإنسانوية والديمقراطية.
والمهمة الأولى تقتضي منع تمدد الكارثة إلى بقية المناطق في العالم العربي التي لم تصل إليها بعد الفتن والنزاعات.
والمهمة الثانية، هي العمل لإيجاد قواعد ناظمة وضمانات تحصن المجتمعات العربية من الصراعات والفتن.
وذلك في الوقت الذي يجب أن يكون معلوماً فيه أنه لا يمكن الركون إلى الضمانات الخارجية لأنها كارثية (نموذج المعارضة السورية). ولا يمكن الاعتماد على الضمانات العسكرية لأنها فاسدة وخطيرة ومدمرة. ولا يمكن الاطمئنان إلى الضمانات السياسية التقليدية لأنها اختزالية وقاصرة وعاجزة عن العمل وقت احتدام الأزمات.
أدهى ما في المسمى «ربيعاً»، أنّه لم ينتج توازناً ضابطاً لمرجعياته. تصدّعت كل المرجعيات القديمة أمام دفق التحولات الجامحة، فلم تعد هناك مرجعيات قادرة على ضبط إيقاع الخلافات والتوترات واحتوائها من خلال المؤسسات السياسية أو الاجتماعية أو الدينية المعهودة. فجأة باتت المجتمعات أمام مرجعيات هزيلة ومتفلتة وشاذة وضائعة تنامت كالفطر وتكاثرت على نحو بائس وغير منطقي. حتى أصبح كل زاروب يحظى بأمير أو زعيم يُخضع الناس لسلطانه، ويُجري عليهم مختلف أساليب الاستغلال المبتذل والاستبداد والتعسف.
إنّ واحداً من الأهداف الأولى في مشروع شرذمة المنطقة هو تعميم الرعب على كل الجماعات فتصبح جميعها مهددة بمصائرها، ولا تجد إلا العنف للرد على العنف. وحينئذٍ تختلط الحسابات الداخلية وتضطرب الموازين الخارجية. فلا يجد أحد لنفسه ولا دولة لنفسها مقدرة على ضبط إيقاع العنف والاعتدائيات المتبادلة ووقف وتيرة التهشيم والتخريب في الأبنية الاجتماعية والدينية والسياسية والاقتصادية.
وأمام هذا الواقع يمكن كل جماعة أن تستدرج طرفاً خارجياً للتدخل، وكل طرف خارجي أن يحوّل المأزق الداخلي إلى كارثة عالمية، فيصبح لا أمن الجماعات والأقليات فقط هو المهدد، بل أمن الإنسانية كلها أيضاً.
فما الذي يمكن أن نفكر فيه إزاء العنف المتمادي في منطقتنا، والذي بدوره يهدد العالم بمصير رهيب داهم.
أولاً: هل لا بد من الاعتراف بأنّ شعوبنا قد فشلت تحضرياً فاتجهت إلى العنف؟ وما الذي جعل مهبط الديانات والحضارات مرتعاً لكل قبيح وسيئ من الأفعال والممارسات. وما الذي حصل لكي تتدهور حضارة هذه المنطقة وأخلاقها من مستوى عبقرية النبي محمد (ص) ومحبة المسيح (ع) إلى مستوى الوحشية والجهل والتخلف والبربرية التي فاقت كل تصور.
ثانياً: أليس يجدر التأكيد أن عنف الأقليات والجماعات المتصارعة لا يستهدف فقط شعوب هذه المنطقة، بل يشمل شرائح واسعة وشعوباً متعددة في هذا العالم أيضاً.
أليس المطلوب أن ندخل في استكشاف معمق للأسباب الكامنة لا في انتشار العنف بين جماعات هذه المنطقة فحسب، بل في تجذره وتماديه في مناطق أخرى من العالم أيضاً. وأن الخطر المتزايد يُعلي من منطق الحرب وتوسيع حدودها، وأن تجاهل هذه الحقيقة وواقع الصراعات التي تهز العالم وتستثير قلقه واهتياجه يشير إلى عطب في السياسات المعتمدة وفي النظام الإدراكي لدى المؤسسات الدولية ومراكز صناعة القرار حال مقاربة الأزمات في المنطقة والعالم.
ثالثاً: إنّ سياسات الولايات المتحدة الأميركية وشريكتها إسرائيل في المنطقة أدت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي وتمزيق قواعد وأصول العيش بين الطوائف الدينية، وأفضت الاحتلالات القاسية والتدخلات المتعاقبة إلى زيادة التوتر وتصاعد أعمال العنف على نحو غير مسبوق.
رابعاً: إنّ السياسات الأميركية التي أسّست لمفهوم صدام الحضارات عمدت من أجل تحقيق غاياتها الاستراتيجية إلى تعزيز الاتجاهات السلفية والعنصرية وإنعاش الحركات المتطرفة الدينية على وجه الخصوص. وقد لمس العالم خطورة هذه الحركات في نيجيريا وباكستان والصومال وأندونيسيا، وصولاً إلى العراق، وسوريا التي تشهد أعمال عنف مبالغاً فيها، بحيث فاق كل عنف سابق أمكن مشاهدته في مناطق أخرى.
إنّ هذه الظروف الاستثنائية جعلت الأقليات في الشرق، ولا سيما المسيحية منها، تشاهد بأم العين العواقب الدراماتيكية الخطيرة لربيع سلّم مصير المسيحيين ودفة تاريخهم إلى المجهول، وبدأت تدرك أنّ هناك مشروعاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً كبيراً يتوارى خلف شعارات الحرية والديمقراطية. والغرب الذي كان يظهر في صورة الداعم للوجود المسيحي في الشرق يخرج اليوم على نحو متناقض. أسطورة الديمقراطية سقطت وأسطورة العقلانية سقطت أمام فتن دفعت بآلاف المسيحيين في العراق وسوريا إلى مغادرة أراضيهم بعد تفجر الأعمال الإرهابية العنفية التي غالباً ما يتولاها أو يرعاها الغرب نفسه بأدوات يعرف كيف يصنعها. وهذا الأمر في الواقع يلخص تناقضات الفكر الغربي ـــ الأميركي والأوروبي والنزعات المناهضة للعقلانية التي تختلج داخله، ما جعل مسيحيي الشرق مترددين بل معارضين لتسليمه أي عملية ضمان لوجودهم في المستقبل. وعلى الرغم من أن سادات الغرب يزعمون زوراً أنّ ما يحصل هو ثمرة الصيرورة التاريخية للقيم والمبادئ الفريدة المنتجة في الغرب، التي ستحقق للبشرية مستقبلاً أفضل، إلا أنّ الواقع يعكس تماماً تخلّف الكثير من هذه المبادئ التي تجتاح العالم بسرعة قياسية بل خطرها وعواقبها التي تفوق في فظاعتها ومأساويتها ما حلّ من كوارث في العصور السالفة، حيث باتت السياسات والممارسات التي تندرج في إطار العولمة النيوليبرالية تلغي الضوابط الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتحوّل الأزمات إلى أزمات عالمية، والكوارث إلى كوارث عالمية تهدد أمن وحياة البشرية على نطاق واسع. وهنا يجب أن نقول إن الصدامات المذهبية والطائفية بين الأقليات وبينها وبين الأكثريات هي بفعل هذه المفاهيم والخُلقيات الاعتدائية الحادة التي مدّت الجماعات الدينية وغيرها بمسوغات لتبرير العنف.
وتأسيساً على هذه المسارات المضطربة في المنطقة على ضوء «الربيع العربي» وفي العالم على ضوء المواقف المتعارضة بين القوى والمجموعات الكبرى في إدارة العلاقات الدولية، يمكننا أن نقف على بعض النقاط لفهم طبيعة التحول النوعي العنيف الذي حلّ على شعوب المنطقة، وأدى إلى تزايد المخاوف لدى الأقليات.
أولاً: إنّ ما حصل مثّل زلزالاً كبيراً هشّم التكوينات الاجتماعية والسياسية والدينية، وخلق حالة من العداء والكراهية لوثت معظم البيئة التي كانت لسنين مضرب مثل في الانسجام والتآلف والعيش الأخوي الهادئ.
ثانياً: بروز حالة تخبط وفوضى في المسار السياسي، لكون معظم القوى التي استولت على الحكم عديمة الخبرة السياسية وتفتقر إلى الرؤية القيمية إزاء التحولات التاريخية.
إنّ ما يمكن ملاحظته أنّ هذه القوى لم تمتلك خطة استراتيجية سياسية واقتصادية لقيادة فترة ما بعد سقوط الأنظمة التقليدية، التي سقطت سريعاً أمام التحديات الداخلية والخارجية، ما دفع بهذه القوى إلى استخدام العنف وتبريره لتثبيت وضعيتها في السلطة.
ثالثاً: إن القوى التي تسيطر حالياً على الحكم لم تقدم حالة ناجحة جاذبة، بل حالة نافرة أفزعت وأخافت كل الأقليات الدينية، بعدما خرجت إلى السطح فتاوى تكفيرية صادمة تدعو إلى القتل والإلغاء وتعميم ثقافة واحدة على المجتمع بأسره.
رابعاً: إنّ نموذج الجماعات الاسلامية المتشددة يُعد الأكثر خطورة على المستوى الايديولوجي والسياسي والعسكري، إذ بإمكانه تعطيل أي عقد اجتماعي وسياسي جديد بين مختلف المكونات الدينية والعرقية لأنه لا يقبل الاحتكام إلا إلى مرجعيته الدينية الخاصة، ما يعني أن صورة الدولة وبنية السلطة وفلسفة الحكم ستكون على أسس غير ديمقراطية، وبالتالي ستغيب التعددية السياسية والحريات الدينية، وستتغير الخريطة الاجتماعية والثقافية والدينية وصورة ووظيفة الدولة حين تبدأ التعليمات والمراسيم والفرامانات بالصدور.
في كل حال وأمام هذه التحولات ستغتلي لدى الأقليات مشاعر الذعر والخوف والارتياب، وستجد نفسها أمام حرب تشن عليها في كل المجالات، وستدرك أن حفاظها على وجودها ودورها التاريخي يقتضي منها التحصن بأيديولوجية تعبوية وربما عنصرية لمواجهة تطرف الآخرين، ما يضاعف حتماً من احتمالات عدوى التطرف وانتشاره كوباء يهدد أمن المجتمعات العربية كلها.
وإزاء هذه الامتحانات الصعبة، فإنه ليس على الأمة بمسلميها ومسيحييها إلا مواجهة الأخطار الناشئة عن هذه التناقضات والايديولوجيات الصدامية بالثقافة الانفتاحية التسامحية التعايشية، كما أنه ليس المطلوب الهوس من هذا الخطر، لكن لا يجوز الركون إلى نماذج متلهفة للتفريق وسفك الدماء، ولا يجوز التساهل مع القوى المنساقة بقوة إلى ثقافة الصدام.
ومما لا شك فيه أن النزاعات الدموية التي ولّدها «الربيع العربي» كارثية، وتبدو كما لو أنها تستنسخ العنف المقدس والحروب الدينية التي استشرت في أوروبا. أما المهمة الأصعب والتحدي الأكبر أمام جميع المؤمنين بالأخوة الإنسانية، فهما العمل عقلاً وخلقاً وسلوكاً لنموذج بديل يقوم على الحوار الحضاري والانفتاح الديني والحرية السياسية التي يجب أن تعكس حقيقة التنوع والغنى على مسرح الكون والانتصار لثقافة الشراكة لإنقاذ المنطقة والإنسانية من الثقافة الظلامية التي تدعو إلى إنكار الآخر وإفنائه.
إنّ مسار البشرية وأوضاعها الجيوسياسية والجيوثقافية على مفترق طرق خطير، ولا أحد يستطيع أن ينكر أننا أمام منظومة مفهومية تدميرية تعمل على إدخال البشرية في حروب دينية جديدة، والعمل على تعطيل هذا الهدف الذي يعمل له مجرمو الإنسانية من أعظم التحديات الحالية، ومنع الكارثة من التمدد يكون بدعوة الشعوب إلى الانفتاح وتحصين مصالحها بالتعايش، وهو باعتقادنا اختبار دائم وامتحان دائم يحتاج إلى تضامن إنساني يؤكد جدارة الإنسان بالوجود والحياة.
التعايش سيرورة حياة وتفسير دائم لقدرة الإنسان على البقاء والاستمرار مع الآخر المختلف على مقربة من خطوط النور والفكر والسلام، وبعيداً عن خطوط النار والظلام. نعم ثمة مصلحة حيوية إنسانية في التعايش لأن الطريق الآخر كما نرى جميعاً ليس سوى المحرقة الكبرى!
* أستاذ جامعي وحوزوي