تقول المادّة التاسعة من الدستور اللبنانيّ: «حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها على أن لا يكون في ذلك إخلال بالنظام العام، وهي تضمن للآهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصيّة والمصالح الدينية». في هذه المادة خطر كامن وادّعاء منطق سرعان ما يتّضح انكساره في أكثر من مفصل عند التشريح. أمّا المنطق المكسور، فيتّضح، ومن خارج نقاش فصل الدين عن الدولة، في:أوّلاً، تضع المادّة التاسعة نظام الأحوال الشخصية الطائفية المعمول به فوق الدولة، فيما تضمن الدولة حراسته. فهو بحسب المادة موجود قبل الدولة. وإن كان هذا صحيحاً من ناحية الأسبقيّة الزمنيّة، إلّا أنّ نشوء الدولة، دولة لبنان الكبير، يفترض حصول أسبقيّة منطقيّة لها على كلّ ما عداها، فلا يجوز أن تتعامل مع نظام أحوال شخصيّة هو من بعض أنظمتها الاجتماعية والاقتصادية، كأنّه سابق لها وسيدّ عليها، أو كأنّه وجود بديهيّ a-priori، أو كأنّها مَدينة له بوجودها أو أنّه فوقها أو متفوّق عليها. إنّ الدولة هي البدء، وهي مصدر الشرعيّة والقانون، فلا أنظمة قبلها ولا فوقها ولا خارجها.
ثانياً، ما أن تعلن المادّة التاسعة أنّ «حرية الاعتقاد مطلقة»، حتى تُتبِعها مباشرة بما ينفيها من خلال «والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى...»! أي قبل أخذ أوّل نفَس حرية، ينخطف النفَس! فاعتقاد الدولة محسوم مسبقاً: اعتقاد بالله ووُجوب تأدية الفروض له تعالى. النتيجة، لا حرية ولا مَن يحزنون.
ثالثاً، تلعب المادة الدستوريّة على حبْلين: حبْل الأفراد فتمنحهم حرية الاعتقاد، وإن شكلاً، وحبْل الدولة التي تلزمها المادّة بالاعتقاد بالله. دولة منحازة إلى اعتقاد إذاً، وتُعَرِّف نفسها به. ما يشير إلى أنّ المقصود بحرية الاعتقاد ليس أكثر من حريّة الاختيار بين الأديان والمذاهب. والحال، فالمواطن/ة الذي لا يعتقد بالإله الإبراهيميّ ولا يفترض وجوده هو مواطن/ة من الدرجة الثانية، هذا إن كان معتبَراً من الدولة وفي الدولة. تكشف المادّة التاسعة الإلزام الدينيّ للدولة وديكتاتورية معتقدها «الألّاوي» فيما تخدع المواطنين/ات بإيحاء حرية الاعتقاد وديموقراطيّته فتفرّغ المادّة 13: «حرية إبداء الرأي قولاً وكتابة وحرية الطباعة وحرية الاجتماع وحرية تأليف الجمعيات كلّها» من معناها وتجعلها مخاتِلة مخادعة، المخفيّ منها مخيف لأنّه يضع سقفاً متدنياً جدّاً للفكر لا يعلو فوق الاعتقاد بالله!
رابعاً، تقول المادة إنّ تأدية الدولة فروض الإجلال للتعالى هي الوسيلة التي بها تحترم جميع الأديان والمذاهب وبها تكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها وبها تضمن للآهلين احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية. لكن ما هو الرابط المنطقيّ أو الوظيفيّ أو السببيّ بين تأدية فروض الإجلال لله واحترام نظام الأحوال الشخصيّة والمصالح الدينية؟ أي كيف ننتقل من تأدية الدولة للفروض إلى ضمان النظام والمصالح؟
الحقيقة أنه لا رابط منطقياً بينهما. فمن ناحية، لا تعني تأدية الفروض بالضرورة احترام أحد أو شيء أو جهة، ومن ناحية أخرى، يمكن الدولة أن تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، وحتى أن تضمن للآهلين على اختلاف مللهم احترام نظام الأحوال الشخصيّة والمصالح الدينية من دون أن يكون ذلك من خلال تأدية الفروض.
خامساً، لا تكتفي الدولة بضمان الشعائر والطقوس أو التصوّرات والتخيّلات أو الأعياد والمناسبات، بل تلتزم صراحة ضمانها للـ«مصالح» الدينية. دولة، من المفترَض أن تكون مصالحها هي فوق كلّ مصلحة، وأن تُذعن للمصالح الدينية وتقرّ بأفضليّتها عليها وتقدّم وعد الطاعة لها وضمانها. فماذا لو تناقضت المصالح الدينية مع مصالح الدولة؟ ثمّ ما هي المصالح الدينية، ومَن يحدّدها ويمثّلها؟ وهل المقصود بالمصالح الدينية المصالح الطائفيّة؟ علماً أنّ مَرابط الطوائف دينياً وسياسياً ومالياً كلّها تقريباً خارج لبنان، ومن الممكن جداً، كما بيّن تاريخ لبنان ويبيّن، أنْ تتضارب مصالح طائفة سياسياً في الإقليم أو في العالم مع مصلحة الدولة.
سادساً، تنظر الدولة إلى مواطنيها كآهلين! لم يكن ينقص إلا أن تعتبرهم لاجئين! آهلون ومن مِلل. فهم بحسب المادّة رعايا طوائفهم أولاً وأخيراً، وأمّا الدولة على ما يظهر، فهي فندق يقدّم الخدمات، وشركة تؤمّن الضمانات ومعبد للطاعة.
سابعاً، يُفهَم من المادة تراتبيّة في الأهمية والأولوية مخيفة: نظام الأحوال الشخصيّة فالمصالح الدينية فالآهلين فالدولة. والحال، تنعى الدولة نفسها بنفسها وتدخل إلى التشريع زحفاً على البطون متوسلةً متسولةً متسللةً!
ثامناً، أحجية، للذين يهوون حلّ الأحاجي، لا تُحَلّ: دولة... «تؤدّي فروض الإجلال لله تعالى». كيف؟ وما هي فروض الدولة وكيف تكون؟ أتصوم الدولة؟ أتركع؟ أتبتهل فاتحة اليدين أم شابكتهما؟ أتنشئ مؤسّسة بميزانية لرشّ البخور؟ أتطوف؟ أتتعبّد مطأطئةً الرأس أم رافعة الجبين؟ أم لعلّ الله طلب من الدولة فروضاً هي غير فروضه وأوامره سبحانه على الأفراد؟
تاسعاً، تنسف المادّة التاسعة فقرةَ «ج» من مقدّمة الدستور التي يقوم فيها لبنان كجمهورية ديمقراطية برلمانية «على احترام الحريات العامة وفي طليعتها حرية الرأي والمعتقد، وعلى العدالة الاجتماعية والمساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين دون تمييز أو تفضيل». فبعد أن تنفرش «ج» مقدّمة الدستور سجّاداً أحمر للمواطنين/ات وتتهيّأ أجواء تنويمهم/هنّ مغناطيسياً بالكلام المعسول، تكشف المادة التاسعة عن أنيابها والمخالب وتنقضّ لتعلن أنّ الدولة، أي شعباً ـــ أرضاً ـــ ومؤسّسات، منحازة إلى معتقد الإيمان بالله، وتلزمها بكلّ مَن وما فيها بتأدية فروض الإجلال لجلاله. فنِعم الاحترام والحرية والعدالة والمساواة! والحال، ليس العجب ما بدولة لبنان من مصائب، بل العجيبة هي لبنان رغم الدولة ـــ المصيبة.
■ ■ ■
المادة التاسعة وخطر الدولة الدينية
أمّا الخطر الكامن، فهو في أن تبدأ الدولة بتأدية الفروض له تعالى وتنتهي بفرضه مشرّعاً أعلى لها!
ولكن أن تكون اليهودية مصدراً للتشريع في لبنان، فذلك أمر أقرب إلى المستحيل، وأن تكون الكنيسة مصدراً، فذلك مستبعَد أيضاً وإن كان لأسباب مختلفة كلّياً ليس هنا مجال بحثها. أمّا أن يصبح القرآن شرع الدولة أو أحد مصادر التشريع، فذلك ليس بالأمر الذي يصعب تصوّره في الربع الأوّل من القرن الواحد والعشرين للأسباب التالية:
أوّلاً، يطرح معظم رجال الدين الشيعة والسنّة في لبنان، كما في العالم، القرآنَ كتاب دين ودولة. فالقرآن جاهز بحسب المؤمنين به لأن يكون دستور أيّ دولة في أيّ لحظة مناسبة. إنّه الدستور الأبديّ الجاهز دائماً وفي طور الانتظار.
ثانياً، تزداد الحياة الاجتماعية ـــ السياسية اللبنانية تديّناً، من خلال أحزاب دينية واضحة الهويّة كحزب الله والجماعة الإسلاميّة والقوّات اللبنانيّة وأخرى مواربة مُرَكَّزة الطائفيّة كأمل والتقدمي الاشتراكي والمستقبل والتيار الوطني الحر.
وممّا يزيد في سرعة الأسلمة والتديُّن ـــ التطيُّف عامّة انكفاء فاعليّة الحزبين العلمانيّين التاريخيّين في لبنان، السوري القومي الاجتماعي والشيوعي، وعدم نشوء أحزاب علمانيّة جديدة فاعلة. لذا تتفشّى عقليّة «النصرة» فطرياً من دون منازع في المكاتب والوظائف كما وفي الطرقات والزواريب، في المدن كما وفي القرى، بين الأغنياء والميسورين بأشدّ من الفقراء والمعدَمين، بين الحليقين والسافرات كما والملتحين والمنقّبات والمحجّبات، بين المتعلّمين بأكثر من الأميّين، بين الشيعة كما وبين السنّة، بين المسلمين كما وبين المسيحيّين!
ثالثاً، منذ غزت الشركات الأميركية المتحدة العراق عام 2003، تتّجه منطقة الهلال الخصيب وفي صلبها العراق والشام، الدائرة الشعاعية الأولى للبنان، نحو الأسلمة اجتماعياً وسياسياً من خلال اقتتال المذهبيّتين السنية والشيعية وإثارة المخاوف والغرائز والأحقاد. واللافت أنّ سنيّة المشرق المعتدلة تاريخياً، المعتزلية والصوفية، تنهار باطراد أمام زحف السنية الوهابية التكفيرية، والشيعية الجبل ـــ عاملية تتراجع أمام ضغط الشيعية المتفرسة.
رابعاً، يتأسلم العالم العربي، الدائرة الشعاعية الثانية للبنان، سياسياً وإعلامياً وثقافياً وبسرعة مريبة وتطفو حركة الإخوان المسلمين على سطح السلطات من طنجة إلى الأنبار، في تطوّر لافت منذ أن هبّ البوعزيزي. فصعود الإخوان نشَر قبّة الأسلمة السياسيّة من فوق وأنبت الأسلمة الشعبيّة الكامنة من تحت في عالم عربيّ «مسلم» على مرّ القرون، ثمّ جرّ القوى المناوئة لهم إلى موقع أقرب إلى الدّين منه إلى اللا-دين. فلم تعد لغة الشارع العربيّ أكثر تديّناً على المستويات كلّها وحسب، بل مالت الأحزاب إلى الهوى الإسلامي على نحو عام، ومَن هو منها ممعن في العلمانية والعلمية والعقلانية، صمت، تاركاً لصفوفه أن تميل أيضاً.
خامساً، رغم الفرق في الدور والخطر بين إيران وتركيا والكيان اليهودي الصهيوني، تتّخذ هذه الدول، القوية المكوِّنة للمحيط الإقليمي للبنان، من الدين مرتكزاً إما دستورياً (إيران) أو سياسياً طاغياً (تركيا) أو ثقافياً ـــ استعمارياً (إسرائيل) ويزداد يوماً بعد يوم، ممّا يرخي بثقل ديني ـــ طائفي هائل على أجواء الصراع وأرض الالتحام.
سادساً، ينفتح العالم الغربيّ على الإسلام السياسي السلطوي في العالم العربي بعدما كان مشكّكاً فيه في العلن ومغذّياً إيّاه في الخفاء على مدى قرنين، ومستخدمه الأوّل في السياسات الدوليّة لمناورة الأنظمة وابتزاز الحكّام والحكومات. وتالياً، ما عادت فرنسا، مثلاً، حامية حمى لبنان تاريخياً ومعلنته دولة مستقلّة عن سوريا بصوت غورو من على شرفة قصر الصنوبر عام 1920، بحاجة إلى دولة كاثوليكيّة ـــ مارونيّة شرق المتوسّط لتضمن لنفسها موطئ قدم دائم في الشرق الأدنى. فسياسيّوها الآن يغرّدون بلغة إخوان ليبيا، ومستشرقوها يتكلّمون اليوم العربيّة بطلاقة بلهجة شيشانيّي بابا عمرو وتونسيّي أحياء حلب الأرمنية! كان لبنان ـــ غير الديني إنما المسيحي الهويّة وإن المختلِط الطوائف، مهماً لفرنسا طالما شكّل المسيحيون فيه الأكثرية والقوة مالياً واستثمارياً وحجّة للتدخّل. أما وأنّ السنية السياسية والشيعية السياسية قلبتا المعادلة بأكثر من الاجتهاد الشخصي العلمي والعملي، وبأكثر من الديموغرافيا: السنّة بفضل آل سعود والشيعة بمساعدة إيران؛ أما وأنّ النتيجة هي تراجُع فاعليّة «المارونية السياسية» وانفكاك شبه استئثارها بقرارات المصالح الاقتصادية والسياسية؛ فما عادت «مسيحية» لبنان ولا شبه علمانيّته الضبابية ذات أهمية لفرنسا، وحتماً لغيرها من دول الغرب، طالما أنّ المصالح الفرنسية أو الغربية عامة تؤمنها الطوائف المقتدرة على الأرض اللبنانية. اتضح للغرب على مدى العالم العربيّ، وقبله في آسيا، أنّ الإسلام السياسي رأسمالي مثله، ويعقد «الكرافات» مثله، ويحاور إسرائيل مثله، ويتعلّم الإنكليزية عند الحاجة مثله، فما عاد القرآن دستوراً في الدول العربيّة مصدر خطر أو انزعاج طالما أنّ هناك مَن يُفتي ويَخضَع ويُخضِع، ولن يكون غير ذلك في وطن اللبن واللبنان.
للأسباب أعلاه كلّها متضافرة متضامنة، وإن زدنا عليها إمكانية توافر ظروف أخرى إضافية، كانتصار آل سعود وآل ثاني والعثامنة، ومن خلفهم الصهاينة والأماركة، في الجمهورية العربية السورية وإعلانها دولة على سنة الله ورسوله، أو تقسيمها وإعلان أحد كياناتها دولة دينية، فقد لا يكون اليوم بعيداً حين يصبح النقاش والصراع في لبنان محتدماً بين مَن يريد فرض القرآن شريعة على اللبنانيّين/ات، أو على الأقل أحد مصادر التشريع، ومَن يرفض!
أمّا الذين ينفون إمكانية قيام الدولة الدينية في لبنان، وحجّتهم الضيقة خطاب حزب الله الاستيعابي العقلاني حالياً والتزام تيّار المستقبل الصُوَريّ بالمناصفة، فيخلطون بين الثابت والمتحوّل، لأنّ السياسات تقلبها سياسات، وعندما يأمر الله يأتمر عبيده!
على البرلمان اللبناني في أول جلسة مقبلة أن يبدأ جلسته بتعديل دستوري يشطب مهزلة - مقتلة - قنبلة المادّة التاسعة من الدستور. لن يقضي ذلك على الخطر، لكنّه من علامات المقاومة!
* أستاذ جامعيّ في الحضارات والفلسفة