ليست مصادفة أن يتم اختيار الرئيس نجيب ميقاتي لترؤس الحكومة في مرحلتين، كانت كلّ واحدة منهما في أشدّ الظروف حساسية. كان اختياره في المرة الأولى من أجل إنقاذ البلد في مرحلة ربما كانت أخطر المراحل التي مر بها في تاريخه على الإطلاق، حكومة عام 2005 التي أعقبت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، واستقالة الرئيس عمر كرامي. والثانية، لمواجهة تداعيات الأزمة السورية على لبنان، وما يحدق بالبلد من مخاطر في ظل التطورات على الساحة العربية.استقال ميقاتي في ظروف فيها الكثير من الغموض. وجّهت لاستقالته الكثير من التهم، كمثل أنه ترك البلد في الوقت الذي يمر فيه بظروف أمنية متفجرة، أو أنه استقال من أجل مصلحة انتخابية ضيقة، حيث إن الاستقالة قد ترضي جمهوره الطرابلسي، وما شابه من أقوال. حتى صح كلام أحد الصحافيين من خصوم لبنان الذي قال: لبنان أكثر خيانة من بيت القمار، فهو يعاقب الفائز والخاسر على حد سواء.
لكن إذا نظرنا إلى ما حققه الرجل في حكومتيْه، نجد أنه قام بالكثير لمصلحة لبنان، وخصوصاً في الملفات الوطنية المتعلقة بجوهر البلد ومصيره الكبير.
في الحكومة الأولى، جاء ميقاتي إلى الحكم ليحمل أعباء اغتيال الرئيس الراحل رفيق الحريري، مع ما كانت تستدعيه انعكاسات الاغتيال من وقائع صعبة وشديدة التعقيد. يضاف إليها تفاعلات صدور قرار مجلس الأمن 1559 مع ما يعنيه من مسار سياسي كان من المعروف أنه سيفتح الباب على مصراعيه أمام التجاذبات الحادة في بلد تتعدد فيه المشارب السياسية، وتشهد تركيبته حساسيات طائفية ومذهبية في كل اتجاه.
ومن تحديات تلك الفترة، أيضاً، خروج القوات السورية من لبنان بشكل سريع، ما وضع لبنان في حالة من الفراغ الأمني والعسكري، حيث إن التركيبة الأمنية التي كانت سائدة لم تعد صالحة بطبيعتها، وبخلفيتها السياسية للمرحلة الجديدة، وكان يجب التقاط المبادرة بسرعة، وفهم معطيات المرحلة والتعامل معها بما يقي البلاد شر الفراغ الأمني الداهم.
التقط نجيب ميقاتي لحظة التحولات السياسية التاريخية رغم أنه لم يكن أمامه إلا مهلة زمنية قصيرة تفصل مدة ولايته عن الانتخابات النيابية. لكنه استطاع في مهلة شهور قصيرة أن يعيد التوازن والاستقرار إلى الوضع العام، ويرسي المركب على حالة من الثبات بعد العواصف التي عصفت به وجعلته متأرجحاً، وفاقداً التوازن، ومهدداً بالغرق.
أعاد تشكيل القوى الأمنية بالطريقة التي تناسب المرحلة، وأسّس قواعد الانتخابات النيابية بسرعة، وتمكن من العبور بالبلد في وسط الأعاصير إلى برّ الهدوء، حتى إذا جاءت الانتخابات النيابية وجرت بنجاح، وضع أمانة البلد بين يدي السلطة التشريعية الجديدة.
وجاءت الحكومة الثانية والوضع السوري متفجّر، والقوى المحلية غارقة في الساحة السورية، ومنها مَن يحمل الكثير من الثأر التاريخي على النظام السوري، منه ثأر قديم، ومنه المستجد. أما أبرز ما كان يتهدد جر لبنان إلى المستنقع السوري فهو أن تحالف الدول الغربية وجّه بنادقه باتجاه سوريا، فكان لا بد لحلفائه المحليين من حمل البنادق إلى جانبه، هناك يمكن أن يثأروا لأنفسهم من جهة، ويحققوا لتحالفهم الدور المطلوب منهم، وكان من شأن ذلك الموقف أن يدخل البلاد في صراعات يُعرَف كيف تبدأ، لكن لا يُعرَف كيف تنتهي، من جهة ثانية.
في هذه الظروف، جاءت استقالة حكومة الرئيس الأسبق سعد الحريري كأنها كانت تجنيباً للبلاد لأحداث كان الرجل سينخرط فيها تمهيداً للأحداث السورية، وقد انخرط فيها بالفعل في وقت لاحق من خارج موقعه في الحكومة. تصاعدت في تلك الآونة مخاوف زج لبنان بحروب الآخرين، وهو الضعيف، غير القادر على تحمّل أعباء ذلك الموقف، والمهدد بالتفكك جراء تداعياتها المحتملة. ألم ينهك كيانه عند انخراطه في حلف بغداد عام 1958؟ وفي انخراط قوى السلطة فيه لضرب المقاومة الفلسطينية أوائل السبعينيات؟
وجاء الرئيس ميقاتي ليتولى الحكم وليترأس الحكومة، وعلى عاتقه ألقيت مهمة أن يكون صمام أمان بوجه فتنة متفجرة، وأن يجنب البلد ويلات انعكاسات الأحداث والتطورات الإقليمية عليه. فطرح منذ البداية سياسة «النأي بالنفس» التي نجحت بنسبة معينة ولم ترضِ كثيرين بنسبة أخرى. وفي ولايته، لم يصدر من الحكومة ورئيسها أي موقف كان من شأنه أن يزعج المقاومة أو يؤثر سلباً في الأحداث السورية. مرّت مرحلة حكمه بشيء من الاستقرار على صعيد القوى الداخلية، وإنْ شهدت حكومته تجاذبات، إنْ من الشارع، أو من القوى المتضررة من الخروج من السلطة، أو من الحلفاء الذين شاركوه السلطة. سعى قدر الإمكان لعدم استفزاز الشارع الذي كان متأهباً، لا بل شغوفاً بالتوتير، فلم يمنع الخيم من حول السرايا، ولا من الاقتراب من منزله الطرابلسي وتعامل معها بأبوّة كاملة. كان يمر قربها رافعاً التحية لشبابها، ولم يعتبر تصرفهم عملاً عدائياً، بل نظر إليهم نظرة رجل الدولة نحو أبنائه، فرعاهم بعطف، ولم يسبب لهم ما يزعجهم.
وفي كل فترات ممارسته السياسة، إنْ في الحكم وزيراً أو رئيس وزراء، أو في النيابة، حرص على البقاء رجل الدولة فلم يلجأ إلى الشارع لدعم موقفه، ولم يشكل تكتلات أو تجمعات أو تياراً، فقد كان دائم الحرص على أن لا يدفع شارعه إلى حركات ميليشيوية لا تزال مرحلتها وارتداداتها مؤلمة حتى اليوم على الساحة اللبنانية منذ بدء أحداث 1975. واكتفى بمسار التزام القانون والاستقواء بالحق الدستوري الذي يحميه ويؤمّن استمراريته الوطنية، فكان ذلك سبباً لغالبية دول العالم، وخصوصاً منها الكبرى الفاعلة والمؤثرة، لدعمها له.
وتعبيراً عن تغليبه للخط الدستوري القانوني، إنْ في السلطة أو خارجها، لم يشأ أن يترك السلطة دون أن يحافظ على ما يحمي البلد من مخاطر الفراغ الدستوري، فقام قبل مغادرته سدة الحكم، بتطبيق بنود الدستور المتعلقة بالانتخابات النيابية وهو مدرك أن القوى السياسية لم تصل إلى توافقات على مختلف الشؤون الانتخابية، من تاريخ إجراء الانتخابات حتى القانون الانتخابي الذي ستجرى الانتخابات على أساسه. كان همه أن يحافظ على الدستور باحترام المهل الدستورية المتعلقة بالانتخابات وعلى قانون انتخابي قد لا يرضيه، لكنه لا يترك الانتخابات في مهبّ الريح، وبذلك حمى البلد من احتمالات الفراغ التشريعي، وما يمكن أن يهدد البلاد لاحقاً في ظروف قاتمة، مضطربة، مجهولة، من احتمالات أقلّها...
الانهيار.
* كاتب لبناني