بعد اكتمال انسحاب الجيش الفرنسي من سوريا في نيسان/ أبريل سنة 1946، نهض الحكّام الوطنيون بمسؤولية بناء دولة الاستقلال في أجواء دولية وإقليمية بالغة التعقيد، نظراً إلى تغيّر نسب القوى وإعادة رسم خارطة المصالح والنفوذ، في ضوء نتائج الحرب العالمية الثانية، وانعكاسات تنافس القوى الكبرى على تعزيز حضورها في هذه البقعة من العالم، لأنّ «من يقود الشرق الأوسط، لا بد له من السيطرة على سوريا»، بعبارة الصحافي البريطاني الشهير، باتريك سيل.ورغم الاضطرابات السياسيّة، نتيجة للانقلابات العسكريّة في السنوات الأولى التي تلته، حافظ السوريون على استقلالهم في مواجهة طموحات الأسرة الهاشمية، في كل من العراق والأردن، بضم سوريا، وكذلك سعي مصر إلى التأثير في السياسة السورية، بما يخدم حكام مصر في صراعهم مع الهاشميين. وحتّى حين فرّط العسكر وبعض القوى السياسية بالاستقلال لمصلحة الوحدة مع مصر الناصريّة، رفضت غالبية السوريين الهيمنة المصرية واستعادوا دولتهم، دون أن يكفّ موقع سوريا الجيوسياسي عن جعلها، على الدوام، في عين العواصف الشرق أوسطية المتكرّرة.
غنيٌّ عن البيان أنّ النزاع الدائر اليوم في سوريا، في أحد جوانبه، هو فصلٌ جديدٌ من فصول الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط، بدليل الاهتمام الدولي غير المسبوق بأزمة هذا البلد، وما شهدته بعض اجتماعات مجلس الأمن الدولي، التي نوقِشت فيها الأزمة السورية الراهنة، من استخدام حق النقض مرّات عدّة، على يد روسيا والصين، الدولتين الدائمتي العضويّة في المجلس. على أنّ ذلك ليس غريباً عن تاريخ سوريا، إذ إنّ لـ «حقّ النقض (VETO)»، حكاية مع التاريخ السوري منذ الاستقلال.
المرة الأولى التي استُخدم فيها الفيتو في مجلس الأمن الدولي، وكانت في 16 شباط/ فبراير سنة 1946، جرت في سياق مناقشة مشروع القرار المتعلّق بانسحاب القوات الفرنسية من سوريا، وذلك من قبل المندوب السوفياتي آنذاك فيشنسكي (ما هذه المصادفة!)، حين اعترض على مشروع القرار الذي قدّمته الولايات المتّحدة الأميركية، ويتضمّن عبارة «الانسحاب بأسرع وقت ممكن»، وأصرّ فيشنسكي على عبارة «الانسحاب فوراً». وبالفعل، بدأت القوات بالانسحاب بسرعة، إلى أن جرى الجلاء عن سوريا صباح يوم 15 نيسان 1946، واحتفل السوريون بهذا الحدث التاريخي في يوم 17 نيسان، الذي بات العيد الوطني لسوريا.
لم يكن انتصار السوريين في انتزاع استقلالهم عن فرنسا فحسب، بل الأهم أنّ سوريا استقلّت موحّدة، رغم كل محاولات الانتداب الرامية إلى تقسيمها. ذلك أنّ الفرنسيين، منذ بدء انتدابهم على سوريا، شرعوا مباشرة في تقسيم البلاد إلى عدّة دويلات، على أساس طائفي ومذهبي، بغية تسهيل السيطرة عليها. قام الجنرال غورو، المفوّض السامي للجمهورية الفرنسية في سوريا وكيليكيا، بتقطيع جسم سوريا، فبعدما أنشأ دولة لبنان الكبير، في الأول من شهر أيلول 1920، جزّأ الباقي إلى دويلات: دولة دمشق، دولة حلب، حكومة جبل الدروز، حكومة العلويين. وما كان لوحدة البلاد أن تتحقّق لو لم يتمسّك السوريون بها، ويرفضوا تلك التقسيمات الطائفيّة.
وخلافاً لما تحاول ترويجه، في الأزمة الراهنة، أوساطٌ في المعارضة السورية، خدمةً لأجنداتها الطائفيّة، من اتّهام وتشكيك في «وطنيّة العلويين والدروز تاريخيّاً!»، على خلفية انحياز غالبية المنتمين إلى هاتين الطائفتين للنظام، تجدر الإشارة إلى رفض هؤلاء لفكرة الانفصال عن سوريا، وتمسّكهم، مع بقيّة مكونات الشعب السوري، بوحدة البلاد واستقلالها، بل إنّ المقاومة المسلّحة في وجه الفرنسيين برزت بصورة أساسيّة في مرحلتين، الأولى بين عامي 1919 و1921، في مناطق الساحل السوري ذات الأغلبية العلوية، بقيادة الشيخ صالح العلي، حيث تمكن العلويون من صدّ الجيش الفرنسي ومنعه من احتلال الجبال الساحلية لمدة عامين. أما المرحلة الثانية، وهي الأهم، الثورة السورية الكبرى، التي امتدت رقعتها لتشمل المدن الرئيسية وجنوبي البلاد، في الأعوام 1925 إلى 1927، فكانت بقيادة الزعيم الدرزي سلطان باشا الأطرش.
المفارقة أنّ مشاريع التقسيم التي تلوح اليوم في الأفق، تتكئ على سلوك تلك الأوساط المعارضة (جماعة الإخوان المسلمين على نحو خاص)، المرتهنة لداعميها ومموليها الإقليميين. وإذا كانت مساحة سوريا قد تقلصت، عشيّة الاستقلال، من 300 ألف كلم مربع إلى 185190 كلم مربعاً، بعدما عملت فرنسا على اقتطاع أجزاء من حلب في الشمال ومنحتها لتركيا في تشرين الأول 1921، ثم منحت امتيازات خاصة لتركيا في مناطق انطاكيا – الاسكندرون، إلى أن تنازلت عنها للأتراك نهائيّاً عام 1939، فإنّ قيام تركيا بقضم مساحات إضافية من الأراضي السوريّة بات اليوم خطراً واقعيّاً، يعززه سلوك «الجماعة» ومقاتلوها على الأرض.
إنّ فشل النظام والمعارضة في إدارة أزمة البلاد داخليّاً بادئ الأمر، وعدم قدرة أي من الطرفين على حسم النزاع لمصلحته لاحقاً، وفي ظل الموقف المتصلّب لكليهما، الذي يحول دون التفاوض على تسوية سياسية، فإنّ دور مختلف الأطراف الإقليمية والدولية، المتورّطة في سوريا ـــ سواء تلك الداعمة للنظام، أو الساعية إلى إسقاطه ـــ يتنامى بصورة متسارعة، بحيث انتقل مركز الثقل السياسي للتسوية إلى خارج سوريا، وباتت تمسك بمفاتيح الحل أيادٍ غير سوريّة.
أمام هذا المشهد يبدو مشروعاً التساؤل: هل أضاع السوريون استقلالهم، الذي يصادف أنّهم يحتفلون بذكراه اليوم، أم أنّ هناك بقيّة من أمل في بناء دولتهم الوطنية الديمقراطية، حلم الانتفاضة السلمية المهدور؟!
* كاتب سوري