عاش السوريون عقوداً عديدة لم يكن يعنيهم فيها من يمثلهم في الحكومة والبرلمان، لإدراكهم أن الظاهر المدني ليس إلا ستاراً للباطن الأمني الذي يحكم من خلف ستار بالقوة والعنف، فالدولة الأمنية هي التي تحكم، والباقي مجرد واجهات. لذا لم يفكروا يوماً في أن يبحثوا في مؤهلات رئيس الوزارة الهابط عليهم بالمظلة الأمنية، ليعرفوا إن كان مؤهلاً لحكمهم أم لا، لمعرفتهم الأكيدة (إضافة إلى خوفهم من الأجهزة) أن هؤلاء ليسوا أكثر من حراس لمصالح الاستبداد وديكوراً خارجياً يخفف وطأته الأمنية، لذا لن يستغرب أحد إن كان السوريون لا يحفظون أسماء وزرائهم بما فيهم الحاليون (وهذا دليل شعورهم بأنه لم يتغير شيء حتى اللحظة!)، إلى درجة أنه يمكن لأي سوري أن يعدد لك ما يحصى من أسماء السياسيين اللبنانيين، ليقف عاجزاً أمام تسمية وزراء سوريين إلا أولئك الذين أبّدوا في وزاراتهم، بالتوازي مع الأبد السوري وخدمة له.لم تكن الحكومة السورية في أي وقت مضى تمثل على المستوى السياسي أكثر من عشرة بالمئة من السوريين على اعتبارها حكومة «بعث» (بلغ عدد أعضائه الرسمي 2.5 مليون في 2011، وعدد سكان سوريا 24.5 مليون نسمة في العام نفسه) يقود جبهة لم يتعد عدد المتحزبين في أحزابها يوماً الآلاف، ليتولى العسف الأمني إخضاع الباقي.
ولنفس السبب لم يهتم السوريون يوماً بمحاكمة أي من وزرائهم الذين كان يضحّى بهم على مذبح الاستبداد وقت الحاجة (الزعبي ومفيد عبد الكريم مثالاً) لأن الحكومة في أنظمة الاستبداد ليست إلا جائزة الترضية التي تقدم إلى شعب حين يثور، فيجري تغييرها لإيهام الشعب بتغيير لن يشمل أي بنية من بنى النظام التي تبقى ممسكة بمقاليد السلطة والثروة، الأمر الذي يضع البلاد على حافة انسداد لا يمكن الخروج منه بغير ثورة أو انتفاضة تأخر الشعب السوري كثيراً للقيام بها بسبب شدة الاستبداد السوري وحجم الأوراق القوية التي يلعب بها.
إذن، جاءت الانتفاضة السورية رفضاً لهذه الحكومة وبنيتها الأمنية العميقة، توسلاً لاستبدالها بحكم يتوسل الفصل بين سلطات الدولة من جهة، والأحزاب والسلطة بأجهزتها الأمنية من جهة ثانية، سعياً إلى حكم شفاف يقطع جزئياً وبشكل متدرج من الأشكال السابقة، بحيث يستطيع الشعب مراقبة السلطات ومعرفة كيفية إنتاجها وتمويلها وصرفها ومن يقف وراءها، نزولاً عند شعارات «الخبز والكرامة والحرية» التي رفعوها واستشهدوا من أجلها.
بعد سنتين من انتفاضة حققت المعجزات بمجرد استمرارها رغم كل العنف والخطايا والأجندة الخارجية التي ركّبت عليها حصل السوريون على حلم موؤود تمثّل في حكومة لا تختلف عن حكومات البعث السابقة بأي شكل من الأشكال، بدءاً من الاسم الذي هبط عليهم بالمظلة الأميركية/ القطرية/ التركية دون أن يعرفه أو يسمع به أحد حتى طيلة سنتي الانتفاضة، ودون أن يقدم أحد تبريراً لما جرى اختياره دون غيره، وما هي مؤهلاته ومدى قدرته على القيادة في ظرف استثنائي تقف فيه سوريا على مفترق طرق، مهددة بوحدتها ونسيجها الاجتماعي وتفكك دولتها! فضلاً عن أسلوب التعيين الذي فرض على مكونات الائتلاف السوري، الذي لا يمثل السوريين بطبيعة الحال، لأن أطيافاً كثيرة من الشارع السوري والمعارضة ليست خارجه فحسب، بل ضده أيضاً بكل ما تعني الكلمة من معنى، فضلاً عن خضوع الائتلاف لسلطة المجلس الوطني الخاضع لسلطة الحزب الواحد (الإخوان المسلمين) مع أحزاب وشخصيات متحلّقة حوله ليمثل جبهة وطنية أخرى! إضافة إلى رفض التيارات السياسية الأخرى لهذه الحكومة من جهة، ورفض أقسام كثيرة من الثائرين على الأرض لها، بما في ذلك أطياف من المعارضة المسلحة.
وكما في حال الحكومة السورية الموالية التي لم تكن إلا ظاهراً مخملياً لباطن أمني تعسفي، فإن الحكومة المعارضة تتقاسم قرارها أجهزة استخبارات تمتدّ من الدوحة حتى أنقرة وواشنطن وباريس ولندن.
البعض يتذرع بأن الظروف السياسية لا تسمح بأكثر من ذلك، وهذا كلام لا يصمد أمام أي تفكيك معرفي، إذ ثمة فرق بين استقلالية القرار الوطني ورهنه بالكامل، فضلاً عن كون هذا الكلام مقدمة لأي استبداد تشكله القوى الخارجية تحت لافتة الديمقراطية/ الطائفية/ الشكلية التي عُممت في المنطقة منذ اتفاق الطائف اللبناني على أساس اقتصاد ليبرالي حر، بعدما كانت الاستبدادات السابقة تتوسل الاشتراكية إيديولوجية لها.
الطامة الكبرى هنا، أن المعارضة تتصرف تصرفات السلطة نفسها وهي لم تزل على مقاعد المعارضة، والأكثر مفارقة أن هذه التصرفات تغطى بنضالات مناضلين قضوا سنين طويلة في سجون النظام السابق، الأمر الذي يحيلنا على البحث في الجذر الأيديولوجي الشمولي الذي تتغذى منه المعارضة السورية ككل، وعلى أن الديمقراطية ليست مجرد شعار يرفع، بل نضال يوميّ دؤوب يبدأ من نقد المؤسسات الاجتماعية والوعي السائد دينياً وسياسياً بالتوازي مع نقد البنية السياسية القائمة، وعلى العكس من ذلك يسعى هؤلاء منذ الآن إلى السيطرة على الحكومة تحت حجة الظروف الاستثنائية، إضافة إلى سعيهم للهيمنة على الثقافة والإعلام، الذي بات يرفع سيوف التخوين منذ الآن تحت حجة مشروعية الثورة، كما استولى البعث عليها تحت حجة الظروف الاستثنائية في الستينيات والهدف واحد: الاحتفاظ بالسلطة، وإلا فلماذا هذا الدعم القطري/ السعودي/ الأميركي/ التركي/ الفرنسي للإخوان المسلمين بمواجهة الدعم الروسي/ الصيني/ الإيراني/ العراقي! أهبل من يظن أن الأموال تصرف لحرية السوريين وهم الذين يشاهدون بلدهم يدمر، وهم الذين يستحقون أفضل من الطرفين المتصارعين على مجرد سلطة ولو دمروا البلد، وهم يفعلون.
* كاتب وشاعر سوري