أخيراً، قدّم الرجل استقالته، التي تكررت أكثر من مرة، والأهم، أن الموافقة جرت عليها، رغم أن «الرئيس» تريث في قبولها، لكن قيادة «التنظيم» لعبت، منذ شهور، على تهيئة الأجواء، الإعلامية والجماهيرية وداخل «فتح»، لدفع رئيس الوزراء إلى الاستقالة. التدخلات الأميركية العلنية، في الموضوع، دفعت قطبي المعادلة، «رئيس السلطة ورئيس الوزراء» إلى اتخاذ موقف نهائي لا رجعة عنه، احتجاجاً، كما عبّرا، كل بطريقته و«ناطقيه» عن «رفضهم للتدخل الخارجي في الشؤون الداخلية الفلسطينية»!؟ جاء سلام فياض إلى وزارة المالية عام 2002 في عهد الراحل ياسر عرفات، بناء على رغبة_تقرأ: تدخلات أميركية، لـ«إصلاح وزارة المالية» بعد فضائح فساد متتالية. رجل الاقتصاد القادم من المراكز القيادية في البنك الدولي، والابن الشرعي للسياسات الاقتصادية/ المالية الرأسمالية المتوحشة، جرت عملية إنزاله بالمظلة الأميركية/ الأوروبية، ليمارس دوره المطلوب، المُقَنّع بـ«الشفافية والنزاهة». مع تكليف فياض تأليف الوزارة، بدأت وظيفته_ تنفيذ نهج وخطة عمل المؤسسات المالية الرأسمالية _ تنتقل إلى مستويات أكثر شمولاً. في أغسطس/ آب 2009، تقدم فياض برؤيته لبناء «الدولة» من خلال خطة عمل برنامج الحكومة تحت عنوان «فلسطين: إنهاء الاحتلال وإقامة الدولة». هذه الخطة التي كانت تراهن على بناء الدولة من خلال بناء مؤسسات تلك الدولة العتيدة، التي ستشكل _كما يزعم_ «رافعة موضوعية/ حقيقية لإنهاء الاحتلال» تمهيداً لإعلان الدولة خلال عامين، من تاريخ إعلانه الوثيقة. وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي بذله الرجل في توضيح أفكاره، إلاّ ان العديد من العبارات والتوجهات، كانت تعلن عن مهمة الرجل. قال فياض وهو يعرض رؤيته «ينبغي للفلسطينيين أن لا ينتظروا التسوية السلمية النهائية مع «إسرائيل، لكن عليهم المضي قدماً في إنشاء دولتهم». هذا المضي في طريق بناء «بديل» يقوم على مؤسسة الخدمات_يسميها فياض وأنصاره_ «مؤسسات الدولة»، في موازاة أو «مواجهة» طريق المفاوضات التي يسعى إليها عباس وطاقمه. هذا البديل الذي بدأت تتبناه وتسوقه كتابات بعض المحللين والكتّاب في الصحف الأميركية، من أمثال توماس فريدمان، لم يكن لدى قطاعات واسعة من الكتّاب والناشطين الوطنيين، سوى سياسة تضليلية عبرت عن زيفها في تصريح الناطق الرسمي للحكومة في 3 كانون الثني 2010 «ماضون في الاعتماد على مواردنا». مضمون هذه السياسة يستند إلى خطة عمل، تخفف العبء عن المحتل، من خلال سياسة جباية مالية لتوفير جزء من موارد السلطة، وتقديم قروض بنكية إلى المواطن، ترهن راتبه، وكل ما يملك، كضمانة لسداد القروض.
لم تتأخر حكومات الغرب الاستعماري ومؤسساته عن تأييد خطة العمل «الفياضية»، فقد أعلنت اللجنة الرباعية في آذار 2010 تأييدها لبرنامج عمل حكومة فياض. كما جاءت شهادة توني بلير حول أداء فياض في «تقوية الـمؤسسات الحكومية الفلسطينية وأجهزة الأمن رغم الصعاب والـمعوقات السياسية» كما نقلت صحيفة الحياة اللندنية في 1/5/2010 لتعزز موقع الرجل في عيون «مريديه»، لكن ما لم يتضمنه البرنامج/ الرؤية، صرح به فياض بدون تردد أو مواربة كما نقلته المحطة الفضائية بذات التاريخ: «ستُعلَن الدولة الفلسطينية عام 2011، لتعيش إلى جانب دولة «إسرائيل» في توافق كامل»، مضيفاً «سيكون للفلسطينيين حقّ الإقامة داخل دولة فلسطين»، مما شكل للرأي العام الشعبي والسياسي، صدمة جديدة، لإسقاطه حق عودة اللاجئين إلى مدنهم وبيوتهم التي هُجّروا منها قسراً.
انعكست السياسات الاقتصادية لحكومة فياض، ارتفاعاً في الأسعار، وازدياداً في رسوم الضرائب، وقلة فرص العمل، مع تأخر متكرر بمواعيد صرف الرواتب، أو اقتطاع نسبة منها. كما أدت بعض الخلافات مع وزير المالية «نبيل قسيس» المدعوم من «التنظيم» على «الصلاحيات» لدفعه إلى تقديم استقالته، التي قبلها «فياض» فوراً، وسارع إلى رفضها رئيس السلطة، مما كشف عن صراع مواقع وصلاحيات في سلطة شكلية/ واهية تقع تحت الاحتلال. لقد شكلت كل هذه العوامل، عناصر التصعيد الدافعة_ بالإضافة إلى سياسة المراقبة والضبط المالية التي نفذها بحق عشرات الآلاف من منتسبي ومتقاعدي «السلطة وحزبها»_، لإطلاق مواقف نقدية صارخة لقيادات بارزة وفاعلة من تنظيم فتح، ضد فياض وبرنامج عمل الحكومة.
رغم هذه الحملة، فقد كان فياض يشعر بأنه يملك دعم الدول المانحة، حتى أن مجلة «التايمز» الأميركية كانت قد وضعته في المرتبة العاشرة في القائمة التي ضمت مئة شخصية الأكثر تأثيراً على مستوى العالم. بل إن بعض الحكومات والمؤسسات العالمية، أعطت إشارات واضحة، بأن وجود فياض هو الضامن لاستمرار هذا الدعم! لكن الوقائع تثبت يومياً، أن التأييد هو للبرنامج والاتفاقيات وبالأساس لوظيفة السلطة.
أصبحت الاستقالة أمراً واقعاً، لكن التكليف بتصريف الأعمال، أو تسييرها لمدة غير محددة، لا يحمل أية إشارات إلى قرب التوصل إلى إعلان وزارة جديدة. بعض «المتفائلين» يأملون أن يكون المخرج بتأليف حكومة المصالحة بين حماس وفتح، المرتبط باستقالة حكومة هنية، وبعدها التوجه للانتخابات، لكن هذا التفاؤل مرتبط بعوامل ذاتية لكلا الفصيلين، وبقدرة المحاور الإقليمية المؤثرة. لكن الاسم الذي يتردد في الأطر المحيطة بمحمود عباس هو «محمد مصطفى» رئيس صندوق الاستثمار السابق، الذي قدم استقالته من رئاسة الصندوق التابع «لمنظمة التحرير» قبل حوالى عشرة أيام ، والذي اجتمع بوزير الخارجية الأميركي جون كيري، مشيراً إلى أنهما اتفقا على إرساء تنمية اقتصادية حقيقية. هذه التنمية التي طرحت قبل استقالة فياض بعدة أيام أثناء زيارة «جون كيري» لكيان العدو ولقائه بنتنياهو، التي اتفق خلالها الطرفان على «التنمية الاقتصادية» في الأراضي الفلسطينية، لتوفير حوافز انطلاق المشروع الاقتصادي». وقد استقال سلام فياض «الشخص»، لكن «السلام الاقتصادي» _بتعريفه الحقيقي: الهيمنة والتبعية_، البرنامج والنهج و«أدواته»، ما ز لت موجودة.
* كاتب فلسطيني