تعدّدت الطرائق التي تتناول ما سمي «هرم مازلو» (أبراهام مازلو 1908 – 1970)؛ فثمة من وصفه ضمن «الاحتياجات»، وآخر ضمن «الانتماءات»(!)، إلا أنه بغضّ النظر عن التصنيفات، وجب علينا أن نعي ما هو كامن خارج ذلك الهرم، بلفظ آخر موقع هذا الهرم بينياً بين فضاءين في أي دولة:المجتمع والمؤسسة (الدولة)، وتأثيرات تراتبية تلك «الاحتياجات» على المسافة البينية/التعاقدية/التأثيرية بين هذين الفضاءين.
«هرم مازلو» هو تمثيل تراتبي «لنظرية تناقش ترتيب الحاجات الإنسانية؛ إذ يشعر الإنسان باحتياج لأشياء معينة بشكل يؤثر في سلوكه، والحاجات غير المشبعة تسبب توتراً لدى الفرد، وآلاماً نفسية، تدفعه إلى الحيل الدفاعية محاولاً من خلالها أن يحمي نفسه من هذا الإحباط»؛ إذ يمكن تناول أثر «هرم مازلو» وتدرجه من «احتياجات فيزيولوجية»، في مرحلته الأولى، لضمان بقاء الكيان المادي/الجسد فيزيولوجياً (التنفس/الطعام/الماء/النوم/الجنس...)، إلى مرحلة أعلى، وهي «الاحتياج للأمان» (السلامة الجسدية/الأمان الوظيفي...)، وبعد ذلك «الحاجات الاجتماعية»، تالياً (العاطفية/الأسرية/الصداقة...)، ومن ثمّ «الحاجة للتقدير» (الاحترام/الثقة/التقدير...)، وأخيراً «تحقيق الذات» (الابتكار/ حل المشكلات/التحرر من الصور النمطية/الأخلاق/...)، وذلك ضمن السياق الحضاري للجماعات (الأمم)، الذي ينتهي بالتفرقة/التدرج من المدنية إلى الحضارة، فتحقيق المؤسسة/الدولة لأكبر ما يمكنها من تراتبية وعلاقاتية تلك «الاحتياجات» لأفرادها في المجتمع ينقلها من «المدنية» بشكلها الإجرائي الأقرب لقاعدة الهرم، وصولاً إلى «الحضارة» الأقرب لقمة الهرم. (ثمة دراسات كثيرة تُحترم، تختلف مع تلك التحليلات).
وبين طرفي هذا الانتقال، تتكثف أدوات السيطرة والهيمنة سلطوياً، ما يجعل بناء هذا الهرم مجتمعياً غير معزول عن علاقات القوى وتأثيراتها على مفهوم «القيمة الإنسانية» الحاكمة، ما يحفر بذلك أدوات مقاومة تلك الهيمنة ومواجهة السلطة وبنيتها الثقافية والأيديولوجية المسيطرة، من دون الاعتماد على آليات «الخطاب» الحداثي (النيوليبرالي) للدولة الحديثة في ذلك، وإلا كانت المقاومة ترسيخاً لذلك الخطاب (مثال: المقاومة السلمية على وزن أوسلو والتنسيق الأمني).
ولعل أبرز الأمثلة – بعد هذه المقدمة – قانون «لم الشمل/ المواطنة» الإسرائيلي، الذي يجسد نطاق الهيمنة والسيطرة بداية من الإنسان/ الجسد إلى الإنسان/ القيمة.
فالقانون الذي جرى التصويت عليه يوم الأحد 13نيسان من العام الجاري، كان قد طُرح «موقتاً» (!) عام 2003 لمدة سنة واحدة ، سرعان ما تحول إلى قانون ثابت يُجدَّد له باستمرار. ولعل هذا التمديد الذي يحصل دورياً، بنحو مقنن ومشرعن من خلال مؤسسات دولة «حديثة»، هي القضاء وآليات التشريع، ويُغسَل إعلامياً وثقافياً لإنتاج بنية مجتمعية قابله له، في دولة تدعي الديموقراطية والحفاظ على حقوق الإنسان، يعد في ميكانيكيته أداة سيطرة، جاعلاً من التعويل على «ديموقراطية» و«حقوقية» و«إنسانية» تلك المؤسسات في استرداد الحقوق، صعباً.
ما يهمنا هنا ليس الأثر القانوني للتشريع بقدر تداعياته على الوعي الفلسطيني، وجانب السيطرة فيه، من حيث إنه محاولة للهرم المؤسساتي/ الدولة لتشكيل الوعي الفلسطيني من خلال منظومات أبسطها الجسد وأعقدها مفهوم القيمة والحب والعاطفة والصداقة، وأثر ذلك في تشكيل منظور الفرد لنفسه على الشقين: ذاتاً وموضوعاً ضمن هويته الفلسطينية المقموعة.
فهاجس الأمن والسيطرة (نفي/إزاحة) في العلاقة العاطفية/ العائلية للفرد الفلسطيني ينبثق من تعاريف الدولة للعدو، لا من تعاريف الإنسان وحقه البدائي والبسيط في تلك العلاقات، ما يحكم حقه في الانتقال خلال هرم مازلو «للاحتياجات» من «حيزه الفيزيولوجي» و«الأمان» إلى حيز «العلاقة». وبالتالي فلجهاز الأمن الإسرائيلي بصفته صاحب الصلاحية في تحديد الممنوعين والمقبولين في «حيز العلاقة» للفرد الفلسطيني، إنما يقوم بنفي الفلسطيني ذاتاً وموضوعاً لمصلحة الدولة، وبالتالي يصبح الهاجس الأمني هو صاحب السيطرة على تشكل باقي «الاحتياجات» وتبعاتها، باعتبارها الأجزاء العضوية لتشكيل المجتمع والثقافة، ومن الأخيرة تنبع آليات إنتاج المعاني والتعبير عنها كالقيمة، التي تعد «الهوية» ككيان ومسألة حية أحد أهم تجلياتها في عملية المقاومة؛ إذ إن اختيار نقطة الفصل والسيطرة في تراتبية هرم مازلو من قبل الاحتلال، لم يأتِ عبثاً؛ إذ إنها تعتبر النقطة الفاصلة بين تأثير البيئة التاريخية من ناحية، ومن أخرى تأثير البيئة الحضارية/ الحالية على التصرف القيمي للأفراد «الفلسطينيين»، وهنا يظهر الجانب الحداثي للسيطرة التي يستقي منها الاحتلال خطاب المركز والطرف أو الأعلى والأدنى أو في تصنيف أقرب واقعياً: المتحضر/الأبيض/الحداثي والمتخلف/العربي/ الرجعي. وبالتالي تنامي عملية العزل والسيطرة على الحيز المكاني الفلسطيني مجتمعياً وعلى الأرض، لتظل إسرائيل دولة الحداثة والديموقراطية والإرث الأبيض في المنطقة العربية الرازحة تحت براثن التخلف والرجعية، حتى على أبسط مستويات العلاقت البشرية المكفولة في كل الشرائع: «الحب».
إن عملية الهندسة الاجتماعية ها هنا كنتاج لتلك الميكانيكية لا تختلف كثيراً من حيث إنها عملية سيطرة مكانية/اجتماعية (باعتبار المجتمع حيزاً لتمثلات وعلاقات القوى والهيمنة في أبسط صوره)، بل وتتماهى مع الاحتلال باعتباره سيطرة مكانية على الأرض المحتلة والذات الفلسطينية، لها أوجه أربعة – مكانياً – كما أوضحها الباحث الإسرائيلي أرون يفتاحئيل في كتابه «الإثنوقراطية»: استيطان، توسع، تحوّل إثني وسيطرة، وهي الآليات التي تصل في مراحلها إلى «النيكروبوليتيكس»: (وهي قدرة الطرف المسيطر والمهيمن بالقوة على التحكم في الحياة والموت للطرف الواقع تحت سيطرته)، والتي هي من الخواص المميزة للاحتلالات والأنظمة الديكتاتورية الشمولية القمعية، باعتبارها امتداداً ميكانيكياً للـ«بيوبوليتيكس»، وصولاً في النهاية إلى ما سمّاه الباحث الفلسطيني الأسير في سجون الاحتلال وليد دقة، «صهر الوعي» الفلسطيني.
وتجدر الإشارة ـ ولو باختزال ـ إلى تعاضد كل ما سبق وتراكمية آلية عمله الهندسية والسياسية والاجتماعية سلطوياً بشكل مكاني وجسدي على الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال، مع عمليات إفساد وإعطاب للكيان الفيزيولوجي للجسد الفلسطيني مادياً، وهو ما تظهره إحصائيات تعاطي المخدرات وتجارة الجنس بين الفلسطينيين، وبالذات في المدن المسماة «مختلطة»، بدرجة تجعل من استهداف الدولة للفرد شكلاً مؤسساتياً يسير إلى هدم الإنسان بشكل متجاوز ومادي معاً، وذلك يستلزم شروحات وتأملات أكثر مما يتسع له مقامنا ها هنا.
* كاتب وطبيب فلسطيني