لم أرَ أياً من أعمال زياد دويري بعد _ عليّ أن أقرّ بذلك قبل أن أتابع. سمعتُ عن فيلم «بيروت الغربيّة» وقرأت عنه كمخرج. عرفتُ عن بعض ما عمله هنا في أميركا قبل أن أقرأ عن فيلمه الأخير «الهجوم». لكن السؤال الأهم، مَن يقمع زياد دويري، مَن؟ وكالة الصحافة الفرنسيّة نشرت مقالة عن قمع زياد دويري من قبل السلطة اللبنانيّة، كما نقلت المقالة مواقع وصحف صهيونيّة متعدّدة. من يقمع زياد دويري، ولماذا؟ محطة «إل.بي.سي.» التي لم ترَ تطبيعاً مع العدوّ إلا حبّذته عبر السنوات والعقود، أفردت تقريراً عن الأمر وكادت تنتحب. هالها الأمر، مع أن قمع البطريركيّة المارونيّة لكتب وأفلام وحتى عقائد (مثل شهود يهوه أو ما تسمّيه اعتباطاً «عبدة الشيطان» _ والذين طاردهم ببسالة المارشال للّو المر مستعيناً بالطائرات الحربيّة التي حصل عليها من روسيا، كما تذكرون) لا تثير حساسيّة أو اعتراض إعلام 14 آذار. حتى التهديد بتطبيق الحرم الكبير من قبل البطريركيّة على من ينتقد البطريرك الماروني لم يثر حساسيّة جماعة حريّة الرأي في لبنان. لكن جماعات حريّة الرأي في لبنان لا يتمتعون بمصداقيّة البتة: لم يتحرّك واحد من هؤلاء لمناصرة مدوّن أو كاتب أو شاعر مقموع في دول النفط والغاز. وإعلام 14 آذار هاج وماج عندما اعترض جمهور حزب الله على السخرية من السيد حسن نصرالله في برنامج على إل.بي.سي. (ويجب على كل من يتعاطى الشأن العام أن يقبل بالنقد وحتى السخرية من شخصه) وطبّل وزمّر في الدفاع عن حرية التعبير والفن، لكن إعلام 14 آذار نفسه هاج وماج عندما سخر البرنامج نفسه على «إل.بي.سي.» من الكاردينال صفير. هدّدت 14 آذار بتطبيق الحرم الكنسي الكبير على من يسخر من صفير. لكن دويري يخاطب الرجل الأبيض في أفلامه وفي كلامه، وبتوجّه واضح. لم ينشر ردّه على المنع اللبناني بالعربيّة، بل نشره بلغة إنكليزيّة ركيكة رثّة على موقعه على «فايسبوك». والرجل كان ثائراً، وتراه يقول: أيها الرجل الصهيوني الأبيض في الغرب، تعال أنقذني. أنا ضحيّة من لا يقبل بالتآخي مع تل أبيب، جارتنا. كيف يُمنع من التعبير عن آرائه، وخصوصاً أنه فنّان حسّاس، لا بل فائق الحساسيّة. هناك في العالم العربي من لا يدرك أن المجتمعات الغربيّة التي يؤلّهونها ويعتبرونها نموذجاً بعيدة عن المثال الذي رفعوه في رؤوسهم (ورؤوسنا) بناءً على خيالات. هناك حدود مفروضة على حريّة التعبير في كل الدول الغربيّة، وإن كانت الصحافة الغربيّة في حكمها على الشرق تفترض أن الحريّة الغربيّة هي مطلقة. هناك دول غربيّة مثلاً تجرّم التعرّض للمحرقة أو التعريض بها أو حتى التشكيك فيها، وهناك دول تمنع إهانة أعراق أو جماعات دينيّة بحالها (والجماعة المحظيّة مُنتقاة بعناية). أما في أميركا، فإن الإعلام (والمجتمع برمّته) محكوم بقوانين «مكافحة الإرهاب»، أي إن القانون الأميركي يصنّف عدداً كبيراً من المنظمات العالميّة (معظمها عربيّة أو إسلاميّة) تنظيماتٍ إرهابيّة. والقانون الأميركي يمنع منعاً باتاً أي نوع من العون «المادي أو المعنوي» لأي تنظيم تصنّفه الحكومة إرهابياً. وبناءً عليه، على دويري قبل أن يستفظع منع الدولة اللبنانيّة لفيلمه، أن يفهم أمر منع فيلمه (وهو يتقصّد السذاجة بخبث) بقياسه أميركيّاً: لو أن دويري أخرج فيلماً وصوّره في كوريا الشماليّة وأنسنَ فيه، مثلاً، تنظيم «القاعدة»، ولو أنه استعان للفيلم بممثّلين من تنظيم القاعدة، لما عرض فيلمه في أي مدرسة هنا أو غرفة أو قاعة، ولتعرّض لملاحقة قانونيّة وفق قوانين محاكمة الإرهاب. يعلم دويري كل ذلك، لكنه كما يقولون في مصر «يستعبط». لقد عمل في أميركا (في أدوار ثانويّة خلف الكاميرا) ولكنه لن يجرؤ يوماً على تصوير فيلم في دولة عدوّة لأميركا، ولن يجرؤ على أنسنة أعداء أميركا أبداً. يعلم دويري أن قوانين تجريم التعامل والتعاطي مع إسرائيل لا تختلف أبداً عن قوانين تجريم التعامل والتعاطي مع أعداء أميركا في أميركا.لعلّ الفنان الفائق الإحساس، دويري، يعلم أن إسرائيل عند العرب (الشعب وليس الحكومات أو أبواق الحكومات أو كتبة الأمراء) هي بمثابة «القاعدة» عند الأميركيّين والأميركيّات، أي إنه لا غرابة في أمر منع فيلم دويري، إلا إذا كان دويري قد أعلن من عنديّاته إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل _ وهو بفعله أعلن ذلك _ واعتبر كل قوانين تحريم التعامل مع العدوّ باطلة من أساسها. إذا كان دويري يريد أن يكسر المحظور العربي، فلنتساءل إذا كان قد تجرّأ على كسر المحظور الأميركي يوماً في عمله في أميركا في أفلام تضمّنت التعميمات النمطيّة المقيتة عن العرب والمسلمين؟
بعد فيلم «بيروت الغربيّة» عمل دويري في أميركا عقب تخرّجه. وهو يذكر عمله في فيلم «ريزرفوار دوغ» لكوينتن تارنتينو، لكن وظيفته كانت تقنيّة (تعديل «فوكس» الكاميرا فقط)، ولا ضير في ذلك. لكن دويري لا يريد أن يتحدّث عن عمله في برنامج تلفزيوني على شبكة كيبل «شوتايم» بعنوان «الخليّة النائمة»، عن مجموعة إسلاميّة إرهابيّة. وقد أخرج دويري بعض حلقات المسلسل، وإن لم يكتب منه أي حلقة. لكن المسلسل كان من نمط التصوير الهوليوودي الكلاسيكي المبتذل عن الإرهاب العربي والإسلامي. أكثر من ذلك، كان المسلسل تقليديّاً من حيث الاستعانة بممثّل إسرائيلي للعب دور العربي (الأساسي في الفيلم) الإرهابي. طبعاً، لم يعترض الفنان (اللاسياسي) على الموضوع، ولم يثر حساسيّته بتاتاً، ولم يصدر بيانات تنديد. وهناك من كتب في مراجعات المسلسل أن المسلم الحسن، وفق معادلة المسلسل المذكور، هو عميل الـ«إف.بي.آي.» فقط، أما سائر المسلمين فهم إرهابيّون حتماً ودائماً. ومشاركة دويري في هذا المسلسل (كواحد من المخرجين) تثبت بالقاطع أنه استنبط الحساسيّة الصهيونيّة فقط في الفن: أي إنه يثور لأي تصوير سلبي لليهود وحتى للإسرائيليين، لكن العنصريّة ضد العرب والمسلمين لا تثير حفيظته، لا بل هو يشارك في صنعها. هذه هي معايير حساسيّة دويري الفنيّة والسياسيّة. الدويري مواطن أميركي سافر إلى الكيان الغاصب _ تقصّدت استعمال هذا الوصف لدولة الاحتلال الصهيوني لأن دويري، الفائق الشعور، يكره اللغة الخشبيّة _ بجواز سفر أميركي. ويقول دويري لمواقع إعلامية (كلّها نفطيّة أو غازيّة أو موقع «الحرّة» المُموّل من الحكومة الأميركيّة) إنه غاضب، وغاضب كثيراً. يقول دويري، المُتواضع، إن امتناع لبنان عن ترشيح فيلمه «يحرم» لبنان من نيل جائزة الأوسكار. أوّاه على حب الوطن. وإذا كان محمد الماغوط يقول عن أدونيس إنه «بدّه نوبل»، فإن دويري «بدّه أوسكار». لكن سبيله إلى نيل الجوائز سبيل محض سياسي، ولو أنه يقول عن نفسه (بنفاق) إنه غير سياسي. لو أنه غير سياسي، فلماذا يتعرّض لأكثر المسائل السياسيّة في العالم العربي برمّته، أي مسألة الصراع العربي _ الإسرائيلي؟
يقول دويري الكثير في الدفاع عن نفسه. تحدّث إلى جريدة «الحياة» وأفصح، فرويديّاً ربما، عن مكنوناته. في الجملة الواحدة ينفي أنه غير سياسي، ثم يضيف أنه لا يريد الصورة المُسبقة عن الإسرائيلي _ وهذا موقف محض سياسي ومُستفزّ للرأي العام العربي وإن كان لا يزعج حكّام النفط والغاز. يزيد دويري، بوقاحة، أنه اكتشف في رحلته إلى تل أبيب أن الإسرائيلي يخاف. آه. لم نكن نعلم عن خوف الإسرائيلي قبل زيارة دويري. ماذا يريد منا أن نفعل لمعالجة خوف الإسرائيلي؟ هل يُعالج هذا الخوف بزوال كل سلاح مُقاوم لإسرائيل من الوجود؟ أم أنه يطالب بدعم مالي عربي لزيادة الترسانة النوويّة والبيولوجيّة والكيميائيّة للعدوّ كي يطمئن؟ ألا تكفي عند العدوّ أسلحته؟ يريد دويري المزيد منها؟ وكيف اكتشف دويري هذا الخوف، وكيف عاينه؟ هل خرقه لمقاطعة العدوّ يدخل في باب طمأنته للعدوّ؟ ثم هل لاحظ دويري شعباً محتلاً وهو هناك؟ هل لاحظ خوف الشعب الذي تعرّض للقمع والاحتلال والتنكيل والقتل على مرّ أكثر من قرن من الزمن من الإسرائيلي الذي يحرص هو على مشاعره؟ أم أن دويري كان مشغولاً بهمّ ملاحقة خواطر الإسرائيليّين؟
ثم تقارن مسيرة دويري بمسيرة المخرج الفلسطيني، هاني أبو أسعد. بعدما كتبتُ نقداً لفيلم هاني أبو أسعد «الجنّة الآن»، الذي حاز ترشيح جوائز الأوسكار، تواصل معي هاني وخضنا نقاشات طويلة على الهاتف حول القضيّة الفلسطينيّة وحول تصويرها في الثقافة الغربيّة. ووجدت الرجل عليماً بألاعيب الغرب الصهيونيّة وحريصاً على عدم الوقوع في الفخاخ الصهيونيّة. تلقّى أبو أسعد عروضاً سخيّة لإخراج أفلام تجاريّة مسيئة للعرب، لكنه رفضها كلّها وفضّل عدم العمل على العمل المسيء للعرب وللقضيّة الفلسطينيّة. هاني أبو أسعد من مواطني فلسطين المُحتلّة عام 1948، والذي كان يفترض دويري أنهم من المطبّعين مع العدوّ. كان أبو أسعد نديمي في الأيّام الطويلة في حرب تمّوز 2006 وكان يتحمّس لصورايخ حزب الله حتى عندما هطلت خطأً في أماكن قريبة من مسقط رأسه. لكن هذا هاني أبو أسعد، وليس زياد دويري. هاني أبو أسعد يفضّل القضيّة على الشهرة الغربيّة، أما دويري فيفضّل التقدير الغربي الصهيوني على كل ما عداه.
دويري يقول إنه حاول تغيير مكان التصوير لكنه واجه مشكلتيْن: أنه لم يجد بديلاً من تل أبيب (نحن نذكر تلك المديحة عن تل أبيب التي نشرها «ملحق النهار» قبل بضع سنوات)، وزاد أنه لم يستطع أن يعمل في لبنان لأن فريق عمله ضمّ إسرائيليّين، أي إن دويري يعلم ماذا يفعل. إن أجندته تطبيعيّة، وهو يريد، لا بل يصرّ على، أن يحظى برضى صهيوني، إسرائيلي وغربي. هذا هو هدف دويري الحقيقي. وله فيلم فرنسي آخر يعدّه (أو أعدّه) يتعرّض بصورة استشراقيّة تقليديّة عن... حلّ الصراع العربي _ الإسرائيلي من قبل رجل فرنسي زائر. من العجيب أن الرجل الذي يصرّ على أنه ليس سياسيّاً، مهووس بالهم السياسي ومن منطلق تطبيعي متصالح مع العدوّ الإسرائيلي.
على القرّاء أن يعلموا أن شركة «يونيفرسال» الأميركيّة رفضت السيناريو الذي كتبه دويري (مع شريكة) لأنه _ باعترافه هو _ يعاني من استشراقيّة في التعاطي. أكثر من ذلك، يعترف دويري في حديث إلى «ناو حريري» أن الأوروبيّين وجدوا فيلمه متعاطفاً زيادة مع وجهة النظر الإسرائيليّة. ثم يتساءل الوقح عن سبب منع فيلمه في لبنان؟ كان يجب أن يُمنع دويري نفسه من لبنان، لكن مسخ الوطن يرحّب بالتطبيعيّين ويطلق سراح عملاء العدوّ ويُرحّب بهم في قراهم ومدنهم وتيّاراتهم السياسيّة.
ويتكلّم دويري عن الشعب الفلسطيني الرازح تحت الاحتلال بازدراء. يتساءل، كاشفاً جهله، عن سبب السماح لأفلام لفلسطينيّين ممن يحملون جوازات سفر إسرائيليّة. لا، يا زياد. لا مجال للمقارنة. لعلك تعرف، أو لعلّك لا تعرف أن الشعب الفلسطيني المُحتل داخل أسوار الدولة العدوّة لم يكن له خيار في جوازات السفر. وهذا أمر يفرضه المُحتل _ كل مُحتل _ على كل شعب يقع تحت الاحتلال. يتساءل دويري مُجترّاً كلاماً مقيتاً لبيار الجميّل وغيره من أعداء الشعب الفلسطيني، لماذا نكون أكثر فلسطينيّة من الشعب الفلسطيني نفسه. إن آخر من يحق له طرح هذا السؤال الذي يستسهل اللبنانيّون طرحه هم اللبنانيّون أنفسهم لكثرة ما ارتكبوا من جرائم ومجازر بحق الشعب الفلسطيني. كما أن دويري يتحدّث عن القضيّة الفلسطينيّة كما لو أنه لا سبب للعداء اللبناني لإسرائيل، كما كتب الرفيق سماح إدريس على صفحته على «فايسبوك».
لكن دويري يرسم مساره الفنّي في الغرب. يتوجّه في كل كلامه وعمله إلى الغرب. وهناك معادلة أصبحت تجاريّة ومجدية: العربي، بموهبة وبلا موهبة، يصل إلى الرجل الأبيض عبر مداعبة غروره وعبر استرضاء إسرائيل. ثم هناك أيضاً الظهور بمظهر ضحيّة القمع العربي والإسلامي. عندما أطلقت جمانة حدّاد مجلّتها البورنوغرافيّة المبتذلة (الموجّهة لشيوخ النفط والغاز) «جسد»، أطلقتها في الإعلام الغربي. كانت تقصّ عليهم روايات خياليّة عن حملات قمع من حزب الله وإسلاميّين آخرين ضد مجلّتها كي تكسب عطفهم، وربما من أجل حثّهم على شنّ حرب تحريريّة لعينيها. وكادت تقول لهم إن السيد حسن نصرالله أفتى بمنع المجلّة التي لم يسمع بها أحد _ لا داخل حزب الله ولا خارجه (وقد توقّفت المجلّة عن الصدور، تدليلاً). ومن يرد أن يحظى ببضع دقائق تحت أضواء الإعلام الغربي، ما عليه إلا أن يزعم أنه وقع ضحيّة القمع والإرهاب الفكري العربي والإسلامي، لأنه أراد أن يؤنسن العدوّ الإسرائيلي وأن يبثّ فكر السلام معه. هذا بالضبط ما يفعله دويري، ولهذا نشر بيانه عن المنع باللغة الإنلكيزيّة وليس بالعربيّة. إنه يستجدي الرجل الأبيض كي يحظى بجائزة، قد تكون أوسكاراً، في فئة استجداء عطف الصهيونيّة الغربيّة.
ويقول دويري إنه لا يجوز تحوير قصّته المبنيّة على كتاب لـ«ياسمينة خضرا». وياسمينة، كما يحبّ أن يُكنّى إيفاءً لوعد قطعه لزوجته، ليس ناشطاً في القضايا العربيّة مع أنه وقّع عريضة ضد حرب غزة، خلافاً لدويري الذي لم يوقّع عريضة في حياته ضد احتلال إسرائيل وعدوانها. ولكنّ هناك تواؤماً بين بعض آراء خضرا وآراء دويري. فخضرا، في مقابلة حصريّة مع «هآرتس» قال إنه يرى أن الفلسطينيّين والإسرائيليّين هم ضحايا، وأن الدولة الصهيونيّة المُحتلّة مسكينة تعاني من حب أميركا لها. وأضاف إثباتاً لحسن سلوكه أن عنده أصدقاء فلسطينيّين ويهوداً. لكن المضمون السياسي للرواية التي جذبت دويري بين كل الروايات هو «منصف» وفق حكم «هآرتس» الإسرائيلي. والمنصف بالمعيار الصهيوني منحاز للصهيونيّة. وتحوير القصّة أمر جار في كل سيناريوات أفلام مبنيّة على روايات، حتى لو تعرّضت لروايات عالميّة. ونحن لا نتحدّث هنا عن رواية من الأدب الروسي مثلاً لا يجوز المساس بها. بمعنى آخر، ليس «الهجوم» هو كتاب «الحرب والسلم». ويدور دويري في السعي لإعطاء تسويغات باطلة. يقول إنه اضطرّ إلى تصوير الفيلم في تل أبيب لأن 60% من حوادث القصّة تدور فيها. من قرّر تلك النسبة المئويّة؟ وماذا لو أن النسبة كانت 10% في تل أبيب؟ أجزم بأن دويري كان سيصوّر في تل أبيب مهما كان، لأن هدفه في الفن سياسي. وهدفه هو كسب رضى الرجل الأبيض الصهيوني لنيل جوائز لا يستحقّها بمعيار الفنّ الصرف. هذا ما يفعله بعض العرب في الغرب عندما يخرجون أو يكتبون قصّة عن حب بين عربي وإسرائيليّة. تلك القصص مهما كانت ساقطة فنيّاً تحوز تغطية وإقراراً من الرجل الأبيض بأن «هذا العربي حضاري، خلافاً لباقي العرب». وأحياناً يقول دويري إنه سعى للتصوير في المغرب أو قبرص أو تركيّا لكن تل أبيب _ سبحان ماركس _ جذبته بقوّة وسلبت عقله.
لكنّ نفاق دويري يتعدّى ذلك: يقول في معرض تسويغه للاستعانة بممثّلين إسرائيليّين إنه «لا يمكن» العرب تمثيل أدوار الإسرائيليّين من الناحية الفنيّة. ينسى دويري أننا نذكر أن ممثّلاً إسرائيليّاً لعب دور العربي الإرهابي في المسلسل التلفزيوني الساقط والسخيف، «خليّة نائمة»، وكان دويري واحداً من المخرجين. كفى كلاماً لا يفيد إلا في فضح نيّاتك التطبيعيّة.
لكنّ دويري يتصنّع السذاجة عندما يقول كيف تنتقدونني من دون أن تروا الفيلم أو تقرأوا القصّة. نقول: لا نحتاج إلى قراءة القصّة أو مشاهدة الفيلم كي نصرّ على مبدأ مقاطعة العدوّ _ وهو مبدأ من أضعف ومن أبسط أنواع المقاومة على الإطلاق. أمثال دويري لا يريدون حرباً مع العدوّ ولا يريدون حتى مقاطعة سلميّة مع العدوّ (مع أن المقاطعة يجب أن تترافق وتتقاطع مع مقاومة مسلّحة ضد عدوان العدوّ). عندما يعترض أميركيّون على كتاب يُعتبر معادياً للساميّة، يفعلون ذلك دون قراءته. لا نتكلّم عن النقد الفنيّ هنا. إن مقاطعة كتاب هتلر، «كفاحي»، لا تقوم على أساس نقد محتويات الكتاب، على شناعتها. والكنيسة المارونيّة في لبنان قاطعت فيلم وكتاب «دافنشي كود» دون أن يشاهده البطريرك. إن مضمون الكتاب كمضمون الفيلم. كلاهما سيّئ. لكن زيارة دويري لإسرائيل وحصوله على رخصة عمل واستعانته بممثّلين إسرائيليّين أسوأ.
وللدويري أن يستعبط، لكن ليس له أن يستعبطنا. إن دولة الاحتلال تتعامل بصرامة وحزم وقسوة وقمع مع أي طلب للتصوير السينمائي من عرب في داخل دولة الكيان الغاصب. هل كانت ستسمح لدويري بأن يجول في تل أبيب لو لم يقدّم لها، ليس الولاء أو الطاعة بالضرورة بل شهادات من أميركا عن حسن السلوك، خصوصاً في إدارته لممثّل إسرائيلي في دور إرهابي مُسلم؟ هذا هو دويري على حقيقته.
لكنّ دويري تحدّث على «بي.بي.سي.» حيث أظهر المزيد من الرخاوة الفكريّة: زعم أن الاعتراض على الفيلم نبع من الاعتراض على الاستعانة بيهود، أي إن دويري كذب، وعن قصد، لأن أحداً لم يتحدّث عن يهود. تحدّث على طريقة الزهو اللبناني الفارغ والفاقع: قال إن «رئيس الأوسكار» (وكأن للأوسكار رئيساً ونائب رئيس وثلثاً معطّلاً) اتصل به وشجّعه على الترشّح للأوسكار لأن حظوظه مرتفعة. أحصيتُ كذبة ثانية في الحديث. قال دويري إن الاعتراض يأتي من المتحدثين باللغة الخشبيّة «القديمة». لماذا لا يعترض على «اللغة الخشبيّة» إلا الصهاينة العرب من أجل تسويغ شطحاتهم التطبيعيّة؟
زياد دويري يريد جوائز من الغرب. وسيسعى نحوها، ويريد منكم ومنكنّ أن تعينوه في مسعاه لتقبّل عدوان إسرائيل ولإزالة مخاوف الإسرائيليّين التي تقضّ مضاجعه. بكلام آخر، يريد لنا دويري أن نقلب عقولنا، وبدلاً من أن نُشغل بأهل المخيّمات الذين يتلقّون قنابل العدوّ وصواريخه من الجو والبحر والبرّ، أن نعمل على طمأنة العدوّ عبر إعطائه ما لدينا من أسلحة كي ينام الإسرائيلي قرير العيْن.
ليعلم دويري أن الغرب سيكافئه على فعلته الشنيعة، وأنه سيحوز رضاهم. ودويري يجول من محطة غربيّة إلى جريدة غربيّة كي يتحدّث عن القمع الذي يتعرّض له عبر منع فيلمه. ويريد من الغرب أن يعلم أن معاناته على يد الدولة اللبنانيّة _ التي لم تلاحقه بجرم التعامل مع العدوّ _ تفوق معاناة الشعب الفلسطيني ونكبته التاريخيّة. ولكن صحيح أن الدولة اللبنانيّة رفضت أن تتبنّى ترشيح فيلمه لجوائز الأوسكار، غير أن هناك أمامه مهرجان فيلم مدينة تل أبيب. فليذهب إليه لعلّه ينال جائزة التطبيع الذهبيّة.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)