لنجرّب بعدما قيل ما قيل في تدخّل حزب الله في سوريا أن نغيّر المعادلة قليلاً. سأسمح لنفسي بتقويض رواية أتباع النظام وحزب الله و»الثورة» «بعض الشيء». سيكون تدخّلي هنا مشفوعاً بانحيازات لم يخفها المرء منذ اليوم الأول للانتفاض. حينها كان شغلنا الشاغل ألّا يبتلع النظام هذه الحركة الوليدة عبر الزجّ «بفقرائه» في مواجهتها. والمؤسف أنّ ذلك قد حصل بالفعل رغماً عنّا وعن تنظيرنا المتعالي أحياناً. لنقل إنّ نجاح السلطة المافياوية هنا قد فاق التوقّعات، بحيث لم يترك لمن يشتغل على فكرة تحييد الفقراء (فقراء الموالاة تحديداً) عن الصراع مجالاً للمناورة. صار منظر استهداف هؤلاء عبر الهجمات الليلية عاديّاً جداً - بعدما انتهى النظام من استخدامهم -، وما عاد استهجانه بالشيء المهمّ بعدما عبرت السلطة المجرمة مع احتدام المواجهات كلّ الخطوط الحمراء. «الثورة» كذلك عبرت الخطوط تلك، والأسوأ من عبورها ذاك هو أدلجته ووضعه في سياق «الصيرورة التاريخية». صيرورة جعلت الفقراء في حلّ من الجواب عن جدوى استهداف نظرائهم من... الفقراء. في ريف حمص - القصير تحديداً - مثلاً بدت المعركة ذاهبة في هذا الاتجاه حصراً. لم يحصل ذلك من اليوم الأوّل، بل على العكس كان ممكناً أن يكون الثمن أكثر احتمالاً لو لم تردّ السلطة على استهدافها بالفرز الطائفي المبكّر. أذكر من جملة المشاهد التي خبرتها في تلك الأيام المبكّرة كيف كان يحصل الإذلال للأسر التي تخضع للتفتيش والمداهمات، فيما يتفرّج آخرون على المشهد كأنّهم يتابعون سيركاً مسلياً! هذا المستوى من المواجهة لم يكن هو المستوى الرئيسي حينها، بل جرّ الناس إليه وإلى احتضانه بفعل فاعل. والفاعل هنا كما في غير مكان تستخدم فيه السلطة الطبقية الطائفية السياسية كأداة هو القمع الوظيفي. هذا قبل أن يتحوّل أولئك الضحايا إلى سلطة ويصبحوا في موقع وراثة النظام في كلّ شيء، بما في ذلك تقنين العنف ونقله من ضفّة إلى أخرى. بالإمكان إطلاق مصطلح تقسيم العمل على دينامية مماثلة. ليس ثمّة من علاقة بالاقتصاد هنا، إلّا إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية من يطحن ويدفع الثمن أضعافاً مضاعفة. وهؤلاء موالون ومعارضون على حدّ سواء. لا يهمّ كثيراً إن كانوا فقراء أو ما دون ذلك، فالمطحنة التي تستخدمهم لا تعنى بالانحيازات وخصوصاً إذا كانت تعد بمواجهة لاحقة مع رأس المال الذي يموّل عمليات القتل. سيكون علينا الاشتغال أكثر على فضح الكومبرادور ذاك، وعلى جعل ضحاياه من الموالين والمعارضين طرفاً واحداً لا طرفين متناقضين. الأمر ليس بالسّهل طبعاً، وليس أيضاً من جملة الأولويات المطروحة على السوريين بعد استعار الحرب وإتيانها على كلّ شيء تقريباً. كلّ ما في الأمر أنّنا سنوسّع الهامش الذي يتيح لهؤلاء أن يكونوا موجودين كطبقة جرى تهميشها وتحطيم وحدتها من جانب أمراء الحرب ومجرميها داخل النظام والمعارضة. الكلام عن تقسيم للعمل هنا وفقاً للنقد الماركسي للرأسمالية ليس تفصيلاً على الإطلاق. فالحرب التي يغذّيها الطرفان تقوم كما التراكم الرأسمالي على عملية استغلال المهمّشين والاستفادة من قوّة عملهم. هكذا يفعل النظام الفاشي منذ البداية. يوظّف تفاني الفقراء (لجهة الموالاة) دفاعاً عما يعتقدون أنّه وجودهم في مواجهة مفتوحة مع الرأسمال النفطي - القطري والسعودي - الذي يحاول وراثة دوره السياسي في تدوير النهب وقوننته مؤسّساتياً.على الضفّة الثانية هذه يقبع فقراء آخرون يعتقدون أنّهم قد حرّروا أرضهم من قبضة الفاشية، متناسين أنّ لهذه الأخيرة أشكالاً لا حصر لها، وأنّها غالباً ما تظهر حينما يسمح لرأس المال بأن يتغلغل ويبسط سطوته. لنعد في هذا الخصوص إلى قضية القصير وريفها. المدينة «تحرّرت» فعلاً من سطوة النظام، لكن بعدما خرجت كتلة كبيرة من فقرائها «معه». الخروج هنا كان بمعيّة الفقراء الآخرين. حينما نتحدّث عن تقسيم للعمل نكون في صدد الكلام عن هذا المعطى تحديداً، إذ لا مجال لدخول قوى التخريب داخل النظام و»الثورة» دون تحلّل اجتماعي موازٍ. كذلك لا عودة قويّة للنظام إلى القصير بمعيّة حزب الله أو بدونها من غير تدمير ما كان قائماً من روابط بين الكتلتين المنتفضة والموالية. كلّ التحليل الجاري حالياً لما يحصل هناك يتجاهل هذه النقطة تحديداً، ولا يعدها ذات تأثير واضح على سير المعارك. إذا هزم الانتفاض هناك فسيكون لمن قام به قسط وافر من المسؤولية. لقد ساعد هؤلاء النظام على تفريغ البلد من أهله، ولم يبذلوا جهداً يذكر لتفكيك مخاوف الآخرين وهواجسهم كما حصل في تجربة يبرود مثلاً (رغم رجعيتها وقيامها على تربيطات أهلية مسنودة بالمال). حتى ورقة حزب الله كان ممكناً نزعها من يد النظام لو لم يصل التحرّش بفقراء غرب العاصي «المحسوبين عليه» إلى ما وصل إليه. اصطدام الكتلة المنتفضة بهؤلاء وبأهل القصير الآخرين سرّع من عملية تجريف النظام للأرض وتهيئتها للمعركة الأخيرة. السلطة المافياوية قامت بكلّ ما يلزم للوصول إلى هذه المرحلة. بدأت بالاعتقالات أثناء التظاهرات السلميّة وانتهت إلى القصف بالطائرات وراجمات الصواريخ حين فرغت القصير من نصف أهلها. في الأثناء كانت «الثورة» تتآكل أخلاقياً وتتهيّأ لملاقاة النظام في المنتصف. لنتكلّم مثلاً عن منطقة ربلة المجاورة للقصير. سكّان هذه البلدة معظمهم مزارعون، ولا يعتمدون في معيشتهم على شيء قدر اعتمادهم على الزراعة. مسلّحو المنطقة يعرفون ذلك جيداً، ولأنّهم يفعلون بادروا إلى حرمان أولئك الفقراء مصدر عيشهم الوحيد عبر الحصار غير المعلن. وحين يعجز الحصار عن تحقيق مرادهم يكون القنص بالمرصاد لكلّ من يتجرّأ على تفقّد حقله ولو من بعيد. بماذا يختلف هذا العنف المنهجي عن عنف النظام تجاه مزارعي النزارية والزرّاعة، وهما منطقتان فقيرتان بدورهما ومتاخمتان لربلة، بحيث لا تبعدان عنها سوى كيلومترات قليلة؟ عندما دخل النظام مسنوداً بمسلحي القرى الحدودية وحزب الله إلى هناك عمد إلى تجريف الأراضي وهدم المنازل واحداً واحداً، لكي لا يتاح لأهل هذه القرى العودة إليها. إذا لم يكن ذلك تقسيماً للعمل بين الطرفين فماذا عساه يكون؟ هذا السؤال ليس موجّهاً إلى السلطة ولا إلى «الثورة» كذلك، بل إلى اليسار الامتثالي الذي يعجز عن قول كلمة واحدة عندما يتعلّق الأمر بفقراء الموالاة. منذ شرع النظام في عملية تدمير ضواحي المدن والأرياف ومنظّروه - أي اليسار ذاك - يضعون ما يحصل في خانة الصراع بين الطبقات. هذا صحيح طبعاً، لكن على نحو جزئي. لا أريد أن أعظ هؤلاء في الانحيازات الاجتماعية التي يتعيّن على اليسار أخذها بعين الاعتبار. لقد قيل الكثير في هذا الصدد، وبات من المستحيل زحزحة التموضعات المسبقة التي فرضت نفسها علينا. على المرء في هذه الحالة أن يكتفي بتفكيك الأمثلة التي تبيّن كيفية انزلاق الصراع في سوريا إلى قعر لا يشبه ما نعرفه عن صراع الطبقات. القصير وريفها يعدّان نموذجاً مناسباً جدّاً لفعل ذلك. بحسب اعتقادي لم يخرج الفقراء على ضفّة الموالاة من هذه المدينة لأنّهم موالون أو منحازون إلى النظام، بل لأنّهم... فقراء. البعض منهم صعد في الآونة الأخيرة اجتماعياً، وبات على مقربة من الطبقة الوسطى من دون أن يصبح جزءاً منها فعلياً. لذلك يصعب الحديث عن نقمة طبقية عليه من جانب الكتلة التي انتفضت «ضده» وضدّ النظام. في الثورات التي تنهض بها الطبقة الكادحة عادة لا يكون على سلّم أولويّاتها المّس بكادحين آخرين، وغالباً ما تنتهي بالعكس، أي بالمساس بالطبقة البورجوازية دون غيرها. أولاً لأنّها حليفة للسلطة، أيّ سلطة، وثانياً لأنّ امتيازاتها ليست معطى يمكن السكوت عنه بسهولة من جانب الفقراء. هنا وفي حالة القصير تحديداً جرى المسّ بالفقراء قبل غيرهم وأكثر من غيرهم أيضاً. ثمّة ما هو أفظع من ذلك بالمعايير التي يأخذ بها اليسار عادة. لنتحدّث عن الخطف فحسب. لم يحدث في تلك المنطقة أن خطف غنيّ أو صاحب امتيازات إلّا عاد إلى بيته بعد دفع الفدية - باستثناء من كان مخبراً أو على علاقة مباشرة بجرائم السلطة -، فيما كان الفقراء بمعظمهم يؤخذون لكي لا يعودوا. وهذا سلوك لا يعبّر عن «الطبقات الكادحة» التي يجري تطويبها «يسارياً» كرأس للثورة وكقائد لها. حين يتعامل فقير يقاتل ضدّ النظام ومجرميه مع غنيّ موال له أو قريب منه نكون إزاء صراع لا يشبه الصراع، ولا يدانيه حتّى. هذا يا سادة ليس صراعاً بين فقراء وأغنياء أو بين سلطة طبقية وطبقة كادحة مسحوقة. لنقل إنّه صراع الأغنياء على أرض الفقراء. سبق أن تحدّثنا هنا عن صراع الرأسماليات على أرضنا. ما يحدث في القصير وريفها الآن له علاقة مباشرة بما حدث بالأمس بين كوريا الشمالية والصين وأميركا، وبما سيحدث غداً بين روسيا وأميركا عندما تتفقان على إيقاف الحرب أو إذكائها. الحرب في سوريا تسير على قدميها بخلاف ما يعتقد كثيرون، بينما يدفع ضحاياها في وجهة معاكسة: السير على رؤوسهم. روسيا وإيران لا تحبّذان هذه الوجهة، وكذا الأمر مع الامبرياليات الغربية ومستعمرات الخليج. حين ينظر المرء إلى ما يجري في القصير يعتقد أنّه إزاء فانتازيا مأساوية. الكلّ هناك يسير على رأسه، والقتال لا يجري إلا بالمقلوب. عندما يخرج الفقراء هناك على أيدي الفقراء، وحين يقاتل حزب الله المتخم بالفقراء ناساً يشبهونه ويشبهون «فقره» وكدح جمهوره لا يعود ممكناً تسمية ما يحدث بالثورة أو بالمؤامرة. على الجميع أن يدرك أن تقسيماً جهنّمياً للعمل يحصل في تلك البقعة العزيزة من سوريا. إذا لم ينتبه اليسار المولع بالحرب وبطاحونتها إلى ذلك فعلى التحليل الطبقي وأخواته السلام. سيوغل النظام في جرائمه هناك أكثر بكثير ممّا فعل حتّى الآن (القصير تقصف الآن كما لم تقصف من قبل)، وسينشغل حزب الله في تبرير اصطفافه إلى جانبه. استهداف «فقرائه» في غرب العاصي والتحريض الطائفي ضدّهم يوفّر له أرضية خصبة لفعل ذلك، لكن عليه أن يحذر وهو يخوض معركة خاسرة سلفاً وساقطة بالمعنى الأخلاقي من أن تبتلعه الطاحونة التي اخترعناها هنا. ليس ذلك بالأمر الصعب، فقد ابتلعت الكتلة المنتفضة في القصير قبله، وهذه الأخيرة كانت تعوّل مثله على «المضمون الأخلاقي والنضالي» لفكرة الانتفاض ضدّ الظلم والطغيان. ما رأيناه في القصير لا يمتّ إلى هذا المضمون بصلة. على أيّ حال حزب الله ليس حزباً اشتراكياً أو يسارياً حتى يمتلك المناعة أو الحساسية تجاه أمور مماثلة، ولا يكفي أن نستعيد تجربته إزاء عملاء إسرائيل بعد الانسحاب عام 2000 حتى نصدّق ما يقوله عن «سلوكه الأخلاقي» تجاه الأعداء قبل «الأعدقاء». الوضع هنا أكثر تعقيداً بكثير ولا يمكن في حال من الأحوال مقارنته بما حدث بعد الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب. لذلك «سننتظر»، وسنحكم على سلوكه بالتجربة الملموسة. وفي الأثناء ندعو اليساريين الامتثاليين إلى الانضمام إلينا كهجّائين ضدّ الجميع، وكمنحازين إلى الجميع أيضاً: جميع الفقراء وضحايا تقسيم العمل بين النظام وثورته. ثمّة الكثير من هؤلاء الآن في القصير، وما يملكونه هو الصّراخ فحسب، فضلاً عن المقاومة حتّى آخر نفس - ولو اعتبرناها عبثية وبلا طائل -. ليس مهمّاً حاليّاً كيف اختلفنا معهم. المهمّ أن يكون انحيازنا إليهم كاملاً بمعزل عن مدى تأثيره من عدمه على ما يجري. خروجنا من المعركة جسديّاً لا يعني الخروج منها أخلاقيّاً. نحن نعرف أيضاً كيف «نتقاسم العمل» وكيف نجعل منه عبرة للآخرين... كلّ الآخرين.
* كاتب سوري