ثمّة تململٌ واضح في أوساط "النخبة المصرية" من التوجهات التي بدأ النظام هناك باعتمادها منذ أخذت المواجهة بينه وبين الإخوان شكل "الدفاع عن الدولة". هذا الشكل في المواجهة أضفى شرعيةً على ممارسات كانت قد اختفت عقب ثورة يناير، وأعاد إلى الواجهة ثلّة من الفئات التي كانت مستفيدةً من حالة الاستثناء المديدة التي عاشتها البلاد إبان وخلال حكم مبارك. أبرز هذه الفئات هم أمناء الشرطة الذين استعادوا في حقبة المواجهة مع الإخوان بعضاً من النفوذ الذي انتُزع منهم في مرحلة الاحتجاجات، وفي الوقت الذي حصل فيه تفهّم لهذا التحوّل (أو العودة) من قبل شرائح عريضة من المصريين فإنّ المعنيين بالأمر أنفسهم لم يفهموا قبول المصريين بعودتهم على هذا النحو، وفضّلوا التعامل معه على انه إقرار بسلطتهم التي تتضمّن بالضرورة نفياً للصورة التي تكوّنت عن جهاز الشرطة بعد يناير. ساعدهم في ذلك حاجة النظام إلى قبضة أمنية قوية تعيد لملمة الوضع بعد اتساع رقعة المواجهات مع الإخوان والتكفيريين ووصولها أحياناً إلى العاصمة نفسها. هذا أضفى شرعيةً إضافية على أدائهم وعطّل كل الإمكانيات التي وضعها دستور يونيو 2013 لمراقبة جهاز الشرطة بحيث لا يعود أداةً بيد السلطة فقط، فأصبحت مطالب إعادة الهيكلة وإصلاح الأجهزة الأمنية مقترنةً بالعداء للشرطة أكثر منها بالرغبة في إبقائها تحت رقابة الشعب الذي استفتى على دستور يحميه - نظرياً- من أي تغوّل على حقوقه وحرياته.
غالباً ما تُستثنى أماكن سكن الأغنياء من الإجراءات العقابية

البعد الطبقي

المسألة ليست مسألة حقوق وحريات فحسب، بل هي في الأساس قضية طبقية، بمعنى أن السلطة تريد من خلال الاستعانة بجهاز الشرطة منع الطبقات الأكثر حرماناً من التعبير عن استيائها تجاه الانحيازات الاقتصادية التي بدأ "نظام السيسي" بالتعبير عنها. في البداية لم يكن هذا التوجّه واضحاً لدى الحكم، بل على العكس كان محاطاً عبر شخص رئيسه بثلّة من المستشارين الذين ينتمون سياسياً إلى اليسار ويعبرون عن نزعة عميقة إلى تغيير السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة وتسببت من خلالها في تهميش وإفقار أوسع شريحة ممكنة من المصريين. لكن سرعان ما تغير الأمر وبدأ يتضح أن طبيعة الحكم لا تختلف في العمق عن حكومات مبارك والإخوان من حيث الاعتماد على سياسات جذب الاستثمار وجعلها محور "الفلسفة الاقتصادية" للنظام، وفي المقابل استبعاد أي توجّه لفرض ضرائب على الأغنياء أو الشركات. وبدا ذلك واضحاً حين تمّ قبل أكثر من سنة التراجع عن فرض ضريبة على أرباح البورصة، إذ لم تكد السلطة تطرح الأمر وتصدره عبر مرسوم حتى تداعت رؤوس الأموال العاملة في البلد إلى شنّ حملة شعواء على الحكومة بحجة أنها عبر هذا الإجراء ستضعف من جذب الاستثمارات الخارجية وتترك الرساميل الداخلية من دون حماية تذكر. الإذعان لهذا الابتزاز بسرعة قياسية كان بمثابة مؤشّر على التوجه الفعلي للنظام والذي لا يمكن قياس مدى انحيازه للطبقات الوسطى والشعبية فقط من خلال دعوته المصريين للاكتتاب في سندات مشروع محور قناة السويس، فهذا المشروع لا يعبّر رغم أهميته عن أيّ انحياز اقتصادي بقدر ما يشير إلى رغبة النظام حينها في تأكيد شرعيته عبر دعوة الفئات التي أيدته ضد الإخوان واستفتت على دستوره وانتخبت رئيسه الى الاكتتاب بمشروع يعتبره هو مفيداً وذا عائد اقتصادي كبير على البلد. وحتى إذا اعتبرنا مشهد الاكتتاب حينها نجاحاً للنظام فإنّ التراجعات اللاحقة على مستوى الدعم الذي تبديه الدولة للفقراء ومحدودي الدخل قد أصاب العلاقة بين السلطة و"قاعدتها الاجتماعية" في مقتل. فبدأنا نسمع وخصوصاً في الأسابيع الأخيرة عن احتجاجات هنا وصدامات هناك، وكلّها على مستوى الفئات المؤيدة للسلطة، إذ لا يبدو أنّ ثمة مشاركة للإخوان في حالة الاعتراض الحاصلة، وهو تأكيد إضافي على اتساع الشرخ بين أطراف موجة يونيو، وبالتالي فقدان السلطة المتزايد للشرعية الشعبية على الرغم من كلّ ما تحظى به من دعم عبر المؤسسات المُنتخبة، ومن بينها البرلمان طبعاً.



حراك النقابات

بدا ذلك مترافقاً مع عودة قوية للحراك النقابي، فممارسات الشرطة لم تستثنِ أحداً من بطشها، إذ بالإضافة إلى الفئات الشعبية التي بدأت تعاني من ممارساتها أصابت تجاوزاتها الحقل الطبي، عبر اعتداءات متكرّرة على الأطباء كان أشهرها حادث مستشفى المطرية الذي تسبّب بتعبئة كبيرة في صفوف الأطباء، في ما يُعتبر أول تحرّك منظّم من جانب الجسم النقابي ضدّ الفئات التي تحميها السلطة وتسمح بتجاوزاتها. التحرّك أفضى إلى انعقاد جمعية عمومية للأطباء، وهذه الأخيرة أصدرت جملة من المقرّرات واضعةً سلطة يونيو لأوّل مرة منذ الإطاحة بالإخوان أمام اختبار المواجهة مع الشعب. أهمية الخطوة ليست في مجّرد الاحتجاج وإنما في حصوله ضمن إطار منظّم قادر على الحشد والتعبئة، وواعٍ في الوقت ذاته لظروف البلد التي لا تحتمل ربما "ثورة أخرى" ولكنها تحتاج حتماً إلى أطر شعبية لتنظيم عملية الضغط على السلطة وإجبارها على الكفّ عن حماية الفئات التي عادت للتسلّط على الشعب وامتهان كرامته. قد لا تكون العملية مجدية وخصوصاً في الشرط الحالي الذي يبدي فيه الناس حذراً من معاودة التعويل على الفعل الاحتجاجي، ولكنها على الأقل أعادت الاعتبار إلى السياق الذي يسمح بالرقابة على عمل السلطة. وبذلك لا تكون قد فتحت أفقاً لضبط ممارسات النظام فحسب، بل أيضاً أسّست لعودة التراكم النضالي الذي كان من أهمّ منجزات يناير، وللأسف جرى التراجع عنه بحجّة عدم السماح للإخوان بالاستفادة من الاحتجاجات القطاعية أو النقابية. عودة هذا الجسم الآن الى الاحتجاج تعني بالضرورة تشجيع القطاعات الشعبية الأكثر تضرّراً من ممارسات أمناء الشرطة على الانضمام "للحراك"، ليس بوصفه فعلاً لاسقاط السلطة كما كانت عليه الحال سابقاً بل لكونه حقاً يجب ممارسته بأقصى درجة ممكنة من الحرية، وفي هذه الحالة بالتحديد فإنّ شرط الحرية اللازم هو الاصطدام مع الأجهزة التي تنهى عنها بحجّة حماية النظام من الفوضى. وحين يقع الصدام لا يكون ذلك بمثابة فوضى وإنما استعادة للشرط الذي انُتزع من الناس حينما جرى ايهامهم بأنه ثمنٌ يتعين عليهم دفعه لبناء الدولة التي تحميهم من الإخوان والتكفيريين وتدافع عن لقمة عيشهم. في الحقيقة، إن عدم حصولهم على هذا أو ذاك هو الذي دفع بهم إلى الانصراف عن التأييد الكامل للسلطة، وبالتالي ملاقاة الحراك النقابي الجزئي في المنتصف، فهم مثله متضرّرون من عودة القبضة الأمنية ومن استبدال السلطة الشأن الاقتصادي الاجتماعي بالأولويات الأمنية التي تحوّلت بعد سنتين ونصف السنة من موجة يونيو إلى برنامج العمل إن لم يكن الوحيد فعلى الأقلّ الأكثر اتساعاً وحضوراً.


أمنٌ ضدّ الناس والفقراء

المشكلة أنّ الحماية التي تقدّمها السلطة للشرطة والأمن بذريعة تولّي هذين الجهازين مهمّة "مكافحة الإرهاب" أصبحت هي المبرّر للاعتداءات التي يرتكبها هذان الجهازان ضدّ الشعب، وغالباً ما يحصل ذلك في سياق ادعائهما ضبط الفوضى في الشارع والحدّ من التفلّت الأمني الحاصل فيه. هذا لا يحصل في كلّ المناطق التي تقع فيها مخالفات أو "تعدٍّ على القانون" كما يدعون إذ غالباً ما تُستثنى أماكن سكن الأغنياء والطبقة الوسطى العليا من هذه الإجراءات العقابية، في حين تتركّز معظم نشاطاتها في الأماكن الشعبية التي يسكنها الفقراء والمهمّشون. ولهذا الأمر دلالة طبقية واضحة، حيث يدفع الفقراء باستمرار ثمن أيّ تحوّل سياسي أو اجتماعي يحصل في البلد، فيموتون بالمئات لإسقاط مبارك ومن بعده الإخوان، وحين يأتي حكم جديد مدّعياً تمثيلهم والتعبير عن مصالحهم يفرحون له ويضفون عليه الشرعية، ولكنهم لا يلبثون أن يصبحوا أول ضحاياه حينما يتمكّن ويبدأ في التعبير عن انحيازاته الفعلية بعد التخلّص من قشرة الدفاع عن المصرييين بعموم انتماءاتهم. من الأمثلة الأخيرة على هذا الأمر حادث القتل الذي تعرّض له سائق مصري على يد أمين شرطة في منطقة الدرب الأحمر، وهو إذ لا يعبّر بدقّة عن توجّهات النظام التي لا تزال حريصة على الظهور بمظهر الممّثل للفئات الشعبية - شكلياً على الأقلّ- إلا انه يختصر برمزيته الشديدة نمط التعامل القائم حالياً بين الأجهزة بعد استعادتها للحماية النظامية الكاملة وعموم الشعب. والحال أن أمين الشرطة حين أردى الرجل برصاصة في الرأس بعد اعتراض الأخير على عدم دفع الأجرة المُتفق عليها له كان يتصرّف بموجب سلطة "التأديب" المعطاة له من النظام. فالشاب السائق المدعو في المنطقة "بدربكة" لم يكن يعرف انه سيتعرض "للتأديب" من السلطة التي يمثّلها الأمين حين يحتجّ، وكان يظن أن القانون يتيح له "الاحتجاج" طالما انه لم يتجاوز بحقّ أحد ولم يعتد على الشخص الذي يطالبه بأجرة التوصيل، في حين أن الواقع ليس كذلك تماماً. فالقانون الذي تصرّف بموجبه الشاب مُعلّق، والسلطة عبر تعليقه تعطي أمناء الشرطة حقّ التصرف كما يشاؤون حينما يقدّرون أنّ الأمر فيه تجاوز هيبتهم ومن خلالهم "الدولة" التي يمثّلون. هذا التصرف يُسمى في العامية المصرية بلطجة، ولكنها بخلاف البلطجة التي تدّعي الشرطة مكافحتها مسموحٌ بها، وحين تقع كما حصل في الدرب الأحمر تنبري الأجهزة التي يتبع لها أمناء الشرطة لحمايتها وتبريرها، ولا يجري التراجع عن هذه الحماية إلا حين يشكّل الأمر خطراً على وجود الجهاز نفسه. وهو بالضبط ما حصل في واقعة الدرب الأحمر، حيث دفعت الاحتجاجات العارمة أمام مديرية أمن القاهرة بنادي أفراد الشرطة والذي هو الإطار التنظيمي الأوسع للمنتمين لهذا الجهاز إلى التنصّل من عملية القتل والتعهّد بمحاسبة أمين الشرطة المتسببّ بها. الحماية لم تُرفع هنا إلا حين خرج الاحتجاج الشعبي عن إطاره المعهود وبدأ يهدّد بالتحول إلى "ثورة" ضدّ الجهاز. حصول هذا الأمر بسهولة وفي بيئة شعبية موالية للسلطة يعني أنّ السياق قد استُعيد جزئياً، وأن الاحتجاجات المتفرقة هنا وهناك قد بدأت في تشكيل روافد يمكنها ليس فقط الضغط على النظام باتجاه ضبط ممارسات أجهزته بل أيضاً التلويح بايجاد بديل عنه في حال لم يَعمد فوراً إلى تغيير أولوياته واستعادة الأدبيات التي حصل بموجبها على صكّ الشرعية من الشعب عقب التحرّك الكبير في 30 يونيو. إن لم يفعل ذلك وبسرعة فستصبّ هذه الروافد الاحتجاجية المتفرّقة في مجرى واحد، وتصنع شلالاً "يشيل ما يخلّي" على حدّ قول صديق ورفيق عزيز.