من المفارقات التي ندركها في الوقت الراهن أن نحيى نحن في زمن انتصارات المقاومة في لبنان وفلسطين، وصعود القوى العالمية والإقليمية والمحلية المناهضة للهيمنة الأحادية الأميركية والغطرسة الصهيونية مع قيام الجمهورية الإسلامية في إيران والعودة المرتقبة للقطب الروسي إلى الساحة العالمية ومعه العملاق الصيني، وأن نشهد في المقابل حدث التصفية الكبرى لقضية السماء والأديان السماوية والحق والنبوة والتاريخ. ومن المفارقات أيضاً أن نحيى نحن في زمن رجالات من التاريخ من قامات السيد حسن نصر الله صنعت العزة والكرامة للأمة والبلد، وأن نرى في المقابل طغمة من الأقزام والعملاء تحاول الانقضاض أو الالتفاف على المقاومة والتخريب والتأليب انتهاءً بالقضاء على ما بقي من فلسطين، مهد الديانة المسيحية وأرض الإسراء والمعراج إلى السماء. إنه الزمن الصعب الذي نحياه، فنجد بعضاً من الأمة والبلاد يحاول جاهداً تضييع الفرص والإنجازات وتقديم الباقي لقمة سائغة إلى العدو بدل النهوض والاستنهاض وتعبئة الناس والجماهير لمناصرة الحق ومعاضدة أهله في هذه اللحظة الفاصلة والحاسمة من تاريخ المنطقة وشعوبها وبلدانها، وكذلك الصراع مع إسرائيل، حيث يحتدم القتال ويعمد العدو ومعه الحلفاء والعملاء لتمرير مخططه بصمت وهدوء! فما الذي يعمل العدو الصهويني لتحقيقه في الليل والنهار بعدما اجتاز خطوات متقدمة لتحقيق مطامعه في فلسطين كلها؟ وما الذي تعنيه نظرية الدولة اليهودية التي تحاول إسرائيل فرضها بالقوة والتعمية والتضييع للوقت والجهد والطاقة، بهدف الوصول بالعرب والمسلمين إلى حالة الهوان واستسهال التفريط بالحقوق والمقدسات؟يخالف مخطط إقامة دولة يهودية في فلسطين المحتلة ما ينص عليه مجمل القرارات الدولية، التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي بخصوص القضية الفلسطينية، منذ إحالتها على المراجع الدولية المعنية. فقد نصت تلك القرارات الصادرة في مناسبات مختلفة، وفي محطات متعددة من تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، على تقسيم فلسطين في إطار حل الدولتين العربية واليهودية. لقد تجاهلت بذلك المنظمة الدولية، ومن خلفها المجتمع الدولي، المطالب العربية المحقة في فلسطين، واتخذت إجراءات قانونية من شأنها تشريع الاحتلال الصهيوني وتكريسه أمراً واقعاً لا بد من التعامل معه كما هو. هكذا يمكن القول بأن هيئة الأمم المتحدة كانت تميل منذ البداية إلى جانب الطرف الإسرائيلي، فبمجرد قبول مبدأ التقسيم تكون قد ساوت فعلاً وقانوناً بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، ضاربة بعرض الحائط الحقائق التاريخية والديموغرافية. مع ذلك قبلت الدول العربية منذ قيام حالة الحرب مع إسرائيل، وحتى مع توقيع الهدنة، وكذلك اتفاقيات السلام، مرجعية منظمة الأمم المتحدة في هذا المجال، كإطار يصلح للمفاوضات والمحادثات والمباحثات بقصد التوصل إلى اتفاق السلام العادل والشامل. انطلاقاً من هذا التوجه، أخذت الدول العربية تطالب أمام المحافل الدولية، ولدى انعقاد المؤتمرات حول السلام في منطقة الشرق الأوسط، بتطبيق القرارات الدولية ذات الصلة، مهما يكن الموقف مما تضمنته تلك القرارات من حيثيات مغايرة للواقع والحقيقة، أو فرضته بقوة القانون من معطيات ومستجدات في الميدان مع الوقت. وبات الحديث في هذا المجال ينطلق من تلك المعطيات المستجدة، التي انبثقت من سلسلة الإجراءات والخطوات التي تستهدف تأمين الغطاء القانوني، لما يرتكبه العدو الصهيوني من أفعال شنيعة ومدانة بحق الفلسطينيين والعرب والمقدسات المسيحية والإسلامية. لم يعد حينئذ الحديث في أروقة الدبلوماسية الدولية يُعنى بمدى أحقية إسرائيل في الوجود والبقاء، ومدى صدقية ما تقول، بل بات يتمحور حول مدى قانونية وجدوى المقاومة ضدها، من منطلق البحث في كيفية تأمين حماية إسرائيل في مواجهة العمليات الإرهابية للمقاومة اللبنانية والإسلامية في لبنان، ولفصائل وقوى الكفاح المسلح الفلسطيني. وفق هذا التسلسل، انتقل العرب لمواجهة حملة التجريم، والهجمة الدولية على الإرهاب، بدلاً من المطالبة بفلسطين والحقوق العربية فيها، والنضال من أجل استعادة جنوب لبنان والجولان، وطرد الاحتلال منهما، من خلال العمل العربي المشترك، كما انطلاقاً من اتفاقية الدفاع العربي المشترك.
يعيد هذا المخطط، الذي يقضي بإقامة الدولة اليهودية الخالصة، إحياء النقاش من جديد حول قضية التوطين، وبالتالي الحق في العودة إلى فلسطين في أوساط النخب السياسية والفكرية والصحافية، وفي مواقع القرار كما في أوساط الرأي العام في العالم، وفي البلدان العربية والإسلامية. إن العمل لإقامة دولة قومية لليهود الصهاينة في فلسطين هو في الحقيقة الهدف الذي تتطلع إليه الصهيونية العالمية، ومعها قيادة الكيان السياسية والعسكرية. فالغاية الفعلية من وجهة النظر الصهيونية هي استقطاب اليهود حول العالم، وتعبئتهم حول فكرة بناء وطن لهم في هذه البقعة بالتحديد، لما لها من أهمية مفترضة في العقل السياسي والوجدان التاريخي لليهود، وهو الأمر الذي اقتضى دوماً تهيئة المناخات الملائمة لتأمين تدفق وانتقال اليهود معتنقي العقيدة الصهيونية إلى داخل فلسطين. بيد أن هذا المخطط الذي يجري العمل لتنفيذه منذ سنين اصطدم بعقبة اختلال التوازن بين الفلسطينيين واليهود الصهاينة ديموغرافياً من المنظور الاستراتيجي والبعيد المدى. لم يعد بالإمكان المضي قدماً بهذا المخطط وضمان استمرار تحققه واقعاً في ظل تفاقم مشكلة التزايد الديموغرافي الفلسطيني، والطوق الذي يمكن أن يمثله ذلك على مستقبل الكيان، واحتمال انهياره من الداخل. من هنا يمكن القول بأن الغاية المتوخاة في الوقت الراهن من قبل العدو الصهيوني ومعه الولايات المتحدة الأميركية، التي يجري العمل لتحقيقها، تكمن في التخلص من هذا التهديد الاستراتيجي للكيان والدولة. من هذا المنظار، يفترض العمل لبناء الدولة اليهودية ضمناً تثبيت فكرة التوطين نهائياً من ضمن الحلول والاتفاقات قيد البحث، وبطبيعة الحال تذليل كل العقبات السياسية والقانونية التي تعيق تنفيذ هذا البند من الخطة، بما لا يقبل النقاش أو النقد. فلا بديل لمسألة بقاء أو إبقاء اللاجئين الفلسطينيين في محل إقامتهم الموقتة حتى العودة من خلال قبول التوطين أو فرضه وإلغاء حق العودة، ما يعني بالمحصلة احتمال انتقال هذه المعضلة، ومعها فتيل التفجير، إلى البلدان العربية المضيفة بما يتهدد استقرارها وتماسكها الداخلي. لم تحتمل إسرائيل مجرد الإنصات إلى من لا يزال يرفض التوطين ويتمسك بالعودة، ولن تستطيع تحمل هذا العبء الثقيل، لهذا تمضي حتى النهاية في محاولة إقرار التوطين وتعمل لقيام دولة يهودية، وما يحصل حالياً داخل العديد من الساحات القريبة إنما يقع في هذا الإطار، حيث يجري العمل لتوفير الظرف المناسب لتحقق قبول التوطين وإلغاء فكرة القدوم مجدداً إلى الوطن. يقضي مخطط بناء دولة يهودية بتطهير الداخل الإسرائيلي، أو بمعنى أصح ما تعتبره إسرائيل مجالها المجتمعي الداخلي، من الوجود الفلسطيني المتزايد باطراد، لما له من انعكاسات خطيرة في المستقبل العاجل والبعيد معاً، ذلك أن الهدف الرئيسي لهذا المخطط الكبير هو تحصين وتغليب العنصر اليهودي الصهيوني في داخل هذا الكيان المصطنع. بهذا المعنى، يبدو جلياً هذا البعد الخطير لمحاولة إسرائيل انتزاع موافقة، أو تغطية دولية للمضي قدماً في سياسة التوسع الاستيطاني، في موازاة الممارسات القمعية والعدوانية في مواجهة الفلسطينيين في الضفة الغربية، كما في داخل أراضي عام 1948. فهي تحاول التنكيل بهم لدفعهم أو دفع المزيد منهم إلى المغادرة بفعل التعديات المتواصلة، وتحت وطأة الضغوط التي تشتد، بنيّة التطهير العرقي الذي تمارسه سياسة التمييز العنصري، والفصل والتفرقة من قبل الحكومة والهيئات العامة والرسمية في إسرائيل. يحيلنا هذا النمط من التعامل مع الفلسطينيين العرب، المقيمين في داخل أراضي عام 1948، على ذلك الوجه الحقيقي لهذا الكيان وتلك الطغمة المهيمنة فيه، خلافاً لما يعلنون من أقانيم العدالة والمساواة والديموقراطية. فهم يعملون ويجهدون بالعمل من أجل إزالة أو إخفاء أي أثر للوجود الفلسطيني العربي، أو المسيحي أو الإسلامي ضمن نطاق دولة إسرائيل. هكذا يمثل استمرار الوجود العربي الفلسطيني في داخل الكيان الصهيوني تحدياً صارخاً لمقولة الدولة اليهودية الخالصة. فبقاء هذه التجمعات الديموغرافية الفلسطينية يعيق تقدم ونجاح خطة التصفية الكاملة لقضية الحق الفلسطيني المغتصب، كما أنه ينقض في العمق بنيان الكيان العنصري الذي يعتمد افتراضاً وممارسة المنطق ذاته الذي تعتمده الأنظمة الكلية والقمعية والفاشية في التاريخ السياسي الحديث والمعاصر. لذا ينبغي التنبيه لمسألة الخطر الذي يمثله سعي إسرائيل إلى تصفية هذا الوجود الفلسطيني بداخلها، بما يتماشى مع التوجه الضمني للإعداد والعمل المعلن في سبيل حل الدولة الواحدة اليهودية في فلسطين. والمسألة هنا لا تستهدف فقط معطى العنصر البشري الفلسطيني في الداخل الإسرائيلي، وحقه في الحياة والبقاء والتملك وما إلى ذلك من الحقوق المدنية والسياسية والمادية والثقافية، بل إنها تشمل حتماً هيبة المقدسات المسيحية والإسلامية في فلسطين المحتلة. فقد بدأت القوات الإسرائيلية بتنفيذ خطة ممنهجة تستهدف إزالة الحواجز النفسية والعقائدية، والتعدي العلني بانتهاك حرمة المساجد والمعابد والمعالم الدينية والمواقع المقدسة، متحدية بذلك الحماسة والحميّة والعنفوان لدى مئات الملايين من المسيحيين والمسلمين في المنطقة والعالم.
لقد تخاذل العرب كثيراً في مواجهة التصعيد والتعنت من قبل إسرائيل طوال العقود الماضية، وقدموا العديد من التنازلات من جانبهم لمصلحة الجانب الإسرائيلي، فتراجعوا في الميدان وفي المعادلة السياسية الإقليمية، إن لم نقل تواطأ بعض العرب لحساب الصهاينة والدول الغربية الموالية لإسرائيل. كانت البداية حين قبل العرب تقسيم فلسطين ومنح اليهود حق بناء دولة فيها، وإلى جانبها الدولة العربية الفلسطينية التي لم تبصر النور بعد، فيما قضت قرارات الهيئة العالمية المكلفة إنهاء هذه القضية بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة تتجاوز مساحتها قانوناً حدود عام 1967 فتتعدى نطاق الضفة والقطاع، لكنها مع ذلك تبقى أقل مساحة وأصغر من دولة إسرائيل، وفق منطوق القرارات الدولية التي قضت بذلك. وها هم العرب يقدمون دوماً المزيد من التنازلات، وبعضهم يتهافت لمبايعة الصهاينة بالتفريط مجدداً بالحقوق العربية والفلسطينية، حيث تلوح في الأفق احتمالات بل ملامح التصفية الكاملة للقضية والحق والمستقبل. فأين هم العرب والمسلمون والمسيحيون جميعاً مما يحصل في القدس وبقية فلسطين، من انتهاك للمقدسات والحرمات، يندرج في سياق التهيئة والتمهيد للضربة القاضية باستكمال العملية المقررة والجاري تطبيقها بقيام دولة الفصل العنصري للكيان اليهودي الصهيوني في فلسطين كلها، بعد إزاحة ما بقي من وجود أو حضور ضعيف ومتخاذل ومتراجع للفلسطينيين والعرب!
* باحث سياسي في مركز الدراسات السياسية لأوروبا اللاتينية في فرنسا