القنبلة التي استهدفت جامعاً للعرب السنّة في محافظة ديالى المختلطة، وأودت بحياة أكثر من أربعين شخصاً يوم الجمعة 17 مارس/ أيار الجاري، فجرت معها الكثير من التساؤلات والهواجس حول المدى الذي بلغه الاستقطاب الطائفي بعد الغزو الأميركي والدخول العنيف والدموي لتنظيم القاعدة في المشهد العراقي وسنوات الاقتتال الطائفي التي تلت الغزو وبلغت ذروتها سنة 2006 وما بعدها. هذه الجريمة المروعة والمدانة تعتبر، من حيث الهدف الذي استهدفته، حادثة نادرة أو قليلة النظير؛ فالجرائم المثيلة، وخصوصاً تفجير المفخخات والعبوات كانت تستهدف المناطق ذات الغالبية السكانية من المسلمين الشيعة، عرباً وغير عرب، إضافة إلى المناطق التي تقيم فيها الأقليات القومية والدينية الأخرى بكثافة.
أعقبت ذلك التفجير حملة إدانة واسعة شارك فيها على جهة التحديد السياسيون ورجال الدين والمسؤولون الحكوميون الكبار والفعاليات المجتمعية من العرب السنة، وخصوصاً في مناطق الشمال الغربي من العراق، كما وجهت دعوات للإضراب العام وإغلاق المحالّ والمؤسسات في المحافظات الثلاث: الأنبار وصلاح الدين ونينوى. وطالبت جهات سياسية نافذة في هذه المحافظات الهيئات الدولية، وخاصة الأمم المتحدة باعتبار جريمة التفجير من جرائم الإبادة الجماعية وكأن هذا التفجير هو الأول الذي يحدث في العراق أو في الشرق الأوسط. من ناحيته، سارع رئيس مجلس النواب أسامة النجيفي، وهو من المكون العربي السني، إلى الإدلاء بعدة تصريحات حادة أدان فيها التفجير ثم انتقل هو شخصياً إلى محافظة ديالى، وفي مبادرة هي الأولى من نوعها، تفقد الجرحى الذين سقطوا في التفجير ونقلوا لتلقي العلاج هناك وواساهم وتحدث إليهم.
هذه التداعيات القوية لجريمة التفجير جعلت عدداً من المحللين والمراقبين يتساءلون عن العمق المحرج والغائر الذي بلغه الشرخ المجتمعي الطائفي، وخصوصاً بين عرب العراق الذين يشكلون أكثر من 85% من مجموع السكان، والمنقسمين إلى طائفتين دينيتين عاشتا جنباً إلى جنب منذ قيامهما وتشكلهما الكياني المجتمعي في العهد العباسي. البعض تساءل عن دلالات هذا التضامن القوي والذي لا سابقة له الذي أبدته المحافظات الثلاث ذات الأغلبية العربية السنية مع ضحايا تفجير «السارية»، وتساءل كثيرون عن مغزى أن يبادر رئيس مجلس النواب إلى القيام بتلك الزيارة للجرحى وقد امتنع عن القيام بمثلها في عشرات المناسبات المماثلة وحين كان الهدف مختلفاً من حيث طبيعته المجتمعية الطائفية. آخرون تساءلوا لماذا لم يبادر المالكي نفسه بوصفه رئيس السلطة التنفيذية (الحكومة) بالقيام بتلك الزيارة لجرحى تفجير «السارية» ليكسر حدة هذا الاستقطاب ويقدم مثالاً عساه يحرج الآخرين أو يدفعهم إلى التعامل بالمثل.
اختلفت الانطباعات والاستنتاجات التي خرج بها الراصدون للحالة؛ فهناك مَن قلل من شأنها على اعتبارها ردَّ فعل طبيعياً لجماهير مكون مجتمعي اعتبر الحادثة استهدافاً مؤثراً له في أجواء مشحونة أصلاً بالاستقطاب والتشنج، وهناك من رأى في الحالة أدلة مهمة وقوية على أن حالة الشرخ المجتمعي الطائفي التي عُمّقت مع بدء الغزو وصلت الآن إلى درجة خطيرة ينبغي أنْ ينتبه إليها المعنيون ويكفوا عن دفع الأمور نحو حافة المواجهة الشاملة التي سيخرج الجميع منها خاسرين. أما أولئك الذين أسلموا قيادهم للمتطرفين ورافعي الشعارات القصوية من قبيل «كل شيء أو لا شيء» أو «إما نحن وإما هم» فسيدفعون الثمن مضاعفاً!
أصوات الاعتدال والتهدئة خفتت كثيراً، وتعالت أصوات التحريض والتشنج والتصعيد، وحتى الدعوات المهدئة التي أطلقها بعض الأطراف لم يكن لها صدىً؛ فقد ذهبت دعوة المالكي رجال الدين من الطائفتين القيام بصلوات مختلطة ومشتركة في جميع الجوامع يوم الجمعة لتفويت الفرصة على الجماعات المسلحة التي تستهدف دور العبادة أدراج الرياح، ولم يلتفت إليها أحد. ورغم أنّ السلطات الأمنية أعلنت أنها اعتقلت أربعة من المتورطين في التفجير وأنهم اعترفوا بارتكابهم للجريمة وانتماءهم إلى تنظيم القاعدة، أي إنهم لم يكونوا من الشيعة كما ساد الاعتقاد، وأن أسرهم وأقاربهم فروا من أماكن إقامتهم خوفاً من عمليات انتقام وثأر محتملة، ولكن هذا الإعلان لم يخفف من حدة الأوضاع المتأزمة.
تصادفت جريمة تفجير جامع «السارية» مع حوادث لا تقل مأسوية، ولكنها لم تنل ما نالته من اهتمام وردود أفعال وكأن دماء الضحايا الأبرياء، سواء كانوا من هذه الطائفة أو تلك صارت تُسيَّس وتصنف إلى درجات من قبل الجهات الطائفية السياسية ذات المصلحة في تجييرها واستخدامها لأغراض ومشاريغ خاصة بتلك الأطراف والجهات. ففي الفترة ذاتها، وفي ما بدا وكأنه رد فعل ثأري على تفجير «السارية»، اختطف مسلحون العشرات من المدنيين المسافرين القادمين من الأردن عبر الخط الدولي السريع المار بمحافظة الأنبار، الذي تعتصم على إسفلته مجموعات من المحتجين على الحكومة وتقيم صلواتها المشتركة كل يوم جمعة منذ عدة أشهر، وأقدمت تلك المجموعات المسلحة على ذبح أربعة عشر شخصاً من هؤلاء المخطوفين بعد فحص ومراجعة مستمسكاتهم ووثائقهم التعريفية الرسمية. وقد أشاعت إحدى الفضائيات العراقية التي تبث من الخارج (الشرقية) أن مجموعات من المسلحين الشيعة خَطفت في بغداد مجموعة من سائقي الشاحنات من أهالي الفلوجة «من العرب السنّة»، وطالبت بمبادلتهم بالمسافرين المخطوفين في الأنبار، ولكن هذا الخبر لم يتأكد من أطراف مستقلة أو رسمية في ما بعد، بل إنّ مصادر في الشرطة نفت وقوع هذه الحادثة جملة وتفصيلاً. أثارت جريمة خطف وقتل المسافرين المشاعر كثيراً، وخصوصاً لدى فعاليات المكون الشيعي ورموزه، ولكنها لم تنجح في استجلاب تصريحات وبيانات الاستنكار والشجب المعتادة من الطرف الآخر، ولم تبادر رموز هذا الطرف ومراجعه، وخصوصاً الشيخ السعدي الذي عرف باعتداله ورفضه لإقامة الإقليم السني في المحافظات الثلاث إلى إطلاق نداء للمسلحين بوجوب تحرير المسافرين المخطوفين الباقين وتحريم تلك الممارسة الهمجية. وبعد أسبوع تقريباً على ارتكاب الجريمة، أطلق الشيخ السعدي يوم أمس (23 أيار) نداءً «لإطلاق المخطوفين من جميع المكونات»، ولكنه لم يبلغ حدّ تحريمها، بل عدّها «أفعالاً لا تدل على الشهامة والشجاعة». وتفاقمت عملية تسييس وتطييف دماء ضحايا أعمال العنف الأعمى حتى دفعت بعض المحللين العراقيين إلى أن يتحدثوا صراحة، وربما للمرة الأولى في العراق، عن وجود درجات وأنواع مختلفة ومتمايزة من دماء الضحايا، يُسكَت عن سقوط الآلاف منهم قتلى إذا كانوا من مكون معين، وتقوم الدنيا ولا تقعد إذا سقط العشرات منهم وكانوا من مكون مجتمعي آخر!
وحين تراجع وزير الزراعة عز الدين الدولة (من القائمة العراقية) عن استقالته التي قدمها من الحكومة، وأعلن انسحابه من قائمة النجيفي (متحدون)، قوبلت هذه الاستقالة بهجوم غاضب من الفعاليات والأطراف السياسية السنية، فندد بعضهم بالوزير ووصفوه بالخائن لدماء ضحايا الحويجة والأنبار والموصل، الأمر الذي أثار تساؤلات جدية عمّا إنْ كانت عملية تطييف وتسييس دماء الضحايا قد بلغت أوجها، وصار كل طرف يحسب دماء الضحايا في محافظاته فقط مهملاً الآخرين! وفي هذا الصدد، ولتأكيد شدة موجة الاستقطاب والعداء الطائفي الراهنة، سُجل الكثير من الخطابات والتهديدات التي لا تقل دموية والتي بلغت درجة صرح فيها أحد قادة الميليشيات الشيعية، هو واثق البطاط، بأنه شخصياً «متعطش لدماء العدو – حرفياً – ومستعد للمواجهة إذا ما قرر الطرف الآخر اللجوء إلى السلاح». هذه التصريحات وغيرها فتحت الباب واسعاً للبحث عن الأسئلة المهمة وتقليب الأفكار الجديدة والخلاقة الواجب طرحها للتقليل من خطورة الوضع الحالي وحدته ومحاولة وقف مفاعيل تدهوره نحو الأسوأ.
ظاهرة أخرى طفت على السطح، ويمكن احتسابها ضمن هذا الإطار، هي إصدار عدد من القبائل والعشائر بيانات التبرؤ وإهدار دم أبنائها المخالفين لتوجهات سياسية عامة معينة أو يقومون بوظائف مهمة ويحتلون مراكز حكومية كبيرة، ومن هؤلاء وزير الدفاع بالوكالة سعدون الدليمي، وزعيم حركة «صحوة العراق» وسام حردان العيثاوي. ومن المتوقع أن تصدر براءات وأوامر إهدار دم بحق وزير الزراعة عز الدين الدولة الذي تقدم ذكره، وبحق نائب رئيس الوزراء صالح المطلك وآخرين. ويبدو أن الواقع السياسي والاستقطاب الطائفي ألقيا بظلالهما على القبائل والعشائر العربية؛ فعشيرة الدليم الكبيرة «العربية السنية» مثلاً باتت منقسمة على نفسها إلى قسمين، يقود أحدهما الشيخ علي حاتم السليمان، الحليف السابق لرئيس الوزراء نوري المالكي والمتمرد عليه حالياً والمطلوب في قضايا أمنية، فيما يقود القسم الآخر الشيخ ماجد العلي السليمان ابن عم الشيخ الأول والحليف الحالي للمالكي.
الشاخص الأخير في المشهد العراقي الراهن هو خفوت صوت القوى الديموقراطية واليسارية وضعف تأثيرها بشكل يكاد يكون تاماً إذا استثنينا الأصوات الفردية لمثقفين ومشتغلين في ميادين الإبداع الفني والأدبي، إضافة إلى أصوات الشباب المبعثرة في مواقع التواصل الاجتماعي والذين يلهثون خلف الأحداث ولا يكادون يتركون عليها بصماتهم، تاركين تقرير الأمور ورسم المصائر بيد زعماء الميليشيات ورموز الطوائف والعشائر بما ينذر بالوصول إلى الاقتتال الأهلي الشامل والمفتوح على احتمالات الخراب والمجازر المتبادلة والهجرة أو التهجير الجماعي المشؤوم، وهذا هو الثمن المضاعف الذي سيدفع المتطرفون مَن يزعمون الدفاع عنهم إليه!
* كاتب عراقي