تستعد كافة الأطراف المدعوة إلى مؤتمر جنيف الثاني حول سوريا لتحديد مواقفها النهائية، فدقة الساعات السويسرية ستضبط بحسب توقيت دمشق، المتصل بالمعطيات العسكرية على الأرض، وبالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، التي تبدلت وتحركت خلال الأزمة، التي تمر بها البلاد. والتساؤل الأهم هو باتجاه الأطراف السورية المشاركة، التي ينتظر تحديد موقفها، فإما أن تكون الدول الكبرى لها التأثير الأكبر أو تكون سوريا (الوطن والدولة) هي الأساس في تحديد موقفها إن انعقد المؤتمر وما بعده.
سيكون مؤتمر جنيف الثاني لحظة مهمة في عمر الأزمة السورية، لكن المهم هو النتائج التي سيخلص إليها المؤتمر دولياً، والأهم هو انعكاسها على الداخل السوري.
يعدّ الصراع العسكري في سوريا صاحب الصوت الأعلى على الأرض حالياً، وهو الأساس في تحديد أوراق المفاوضات في جنيف. والصراع في ثلاثة اتجاهات، الأول بين الجيش السوري والمجموعات المسلحة المتمثلة في الجيش الحر وجبهة النصرة، حيث تتصاعد العملية العسكرية التي يقودها الجيش السوري على عدة محاور، والتي من المتوقع ارتفاع وتيرتها في الأسابيع المقبلة، وخاصة بعد عمل الجيش على تأمين الأوتوسترادات الدولية وقطع خطوط الامداد، مما يمثّل طوقاً وحصاراً للمجموعات المسلحة. الاتجاه الثاني بين «النصرة» و«الحر»، الذي يعدّ انعكاساً للصراعات الاقليمية بين الدول التي تمدهما بالسلاح. فالاقتتال بين الجهتين يحصل في أكثر من مكان، وخاصة بعد قيام جبهة النصرة بتنفيذ إعدامات ميدانية بحق عناصر من الجيش الحر. والاتجاه الثالث هو مع الاحتلال الإسرائيلي، الذي دخل على خط الأزمة بأكثر من أسلوب مباشر وغير مباشر، مما يضع المنطقة أمام احتمال نشوب حرب لن تبقى محصورة في الحدود السورية.
الحركات التكفيرية لن تكون غائبة عن مؤتمر جنيف، لكن ليس كحضور على طاولة الحوار والمفاوضات، بل تحت الطاولة في التنسيق بين أجهزة الاستخبارات الاقليمية والدولية التي تمر بحالة من الخوف والحذر من عودة التكفيريين الذين خرجوا من بلادهم، واحتمال عودتهم بتنسيق أكبر مع باقي التنظيمات المرتبطة مع «القاعدة»، مما يمثل خطراً على مجتمعاتهم. والحضور الواضح سيكون من خلال تهيئة الرأي العام الغربي لكون سوريا هي الدولة التي واجهت الارهاب العالمي.
مشاركة الدول في جنيف هي حضور للمصالح الاقليمية والدولية، فالروس والصينيون يريدون تثبيت حضورهم على سواحل المتوسطـ، ومنع امتداد الحركات الاسلامية المتطرفة إلى أراضيهم، وأراضي الدول المسلمة المجاورة للاتحاد السوفياتي السابق. الأوروبيون في أولوياتهم منع عودة التكفيريين، وتعمل ألمانيا على نحو رئيسي ضمن هذا المحور، مع تسجيل انخفاض الصوت الفرنسي عن الشهور السابقة. واشنطن تريد تأمين مصالح الكيان الإسرائيلي بالدرجة الأولى، والاستعداد للدخول في شرق آسيا في مواجهة مع التنين الصيني، بينما الأتراك هم في مرحلة إعادة حسابات سياستهم باتجاه الأزمة السورية وتورطهم فيها على نحو مباشر، والتخوف من انتقال الصراع إلى الداخل من خلال التأثير على مسألة الاقليات القومية والطائفية. أما الدول العربية، فهي في قاعة الانتظار، بعدما كانت الممول الأساسي للمجموعات المسلحة، والصراع سيكون على موقعها في التسوية، وخاصة مع المشاكل التي تعانيها داخلياً، والتي تهددها بالتقسيم والفوضى. في جنيف سيكون حاضراً الصراع حول الغاز وحقول النفط دون حقوق الانسان، وسيكون حاضراً في أروقة القاعات الصراع بين دول «البريكس» وحلف شمال الأطلسي.
أما مشاركة الأطراف السورية، فيجب أن تكون عودتها من جنيف بذهنية أن المؤتمر خطوة في الحل، لا الحل، فما تحتاج إليه البلاد هو أكثر من مجرد حل. إن المرحلة المقبلة في البلاد هي مرحلة إنقاذية تسبق «الانتقالية»، البدء بإنقاذ الاقتصاد وما أصابه من ضعف وتراجع وإعادة الثقة بين أبناء الشعب، التي اهتزت خلال الأزمة من خلال الاهتمام بالنازحين واللاجئين والمغتربين. إن الهم الأول يجب أن يكون منع تقسيم الدولة، وهو ما يتطلب تثبيت الكيان الاجتماعي، وخاصة مع السوريين الأكراد. هذه المرحلة دولياً التي تسمى الانتقالية قد تشمل انتخابات برلمانية ورئاسية، لكنها ستكون لضمان الاستقرار والأمن، أما بلغة دمشق، فإن المرحلة الانتقالية هي الانتقال بكيان الدولة من نظام متكامل سياسي واجتماعي واقتصادي من مرحلة إلى أخرى، وهو يتطلب أبعد من مجرد انتخابات محلية، هو يتطلب أن تكون طاولة الحوار ليس لقاءً بين أحزاب، بقدر ما يجب أن تكون ورش عمل فعلية تعمل حكومة مشتركة على تطبيق وتنفيذ ما يلزم على الأرض. وربما أكثر أمرين بحاجة لهما بعد البدء بإعادة الأمن والأمان إلى المناطق، هما البدء بمعالجة الفساد وتفعيل المحاسبة، ومنع قيام مؤامرة تتمثل في شركات إعادة الاعمار من خلال عقود تكون مجحفة بحق الدولة والمواطن. ضرورة أن يكون الحل في دمشق عبر مراحل متتابعة هو أساس في منع قيام سايكس بيكو جديد يعيد تقسيم المقسم، لكن هذه المرة وفق العشائر والطوائف، وكله في خدمة الدولة اليهودية التي يدعو الكيان الصهيوني إلى الاعتراف بها.
* كاتب لبناني