في العدد الثاني، الصادر في ربيع عام 2012، من «الثورة الدائمة» – وهي مجلة لعموم المنطقة العربية يتولى إصدارها كل من «المنتدى الاشتراكي» (لبنان)، و«منظمة الاشتراكيين الثوريين» (مصر)، و«تيار المناضل-ة» (المغرب)، و«رابطة اليسار العمالي» (تونس)، ويشارك في الكتابة فيها، إلى الآن، «تيار اليسار الثوري» (سوريا)، و«اتحاد الشيوعيين العراقيين» – كان بين الموضوعات الأساسية مقال لي بعنوان «ما ينبغي قوله، بعد عشرين سنة على اتفاق أوسلو».في ذلك المقال، حاولتُ أن أُبيِّن البؤس المنقطع النظير لرؤية القيادة الفلسطينية لحل قضية شعبها بما يتناسب مع مصالحه، الآنية كما التاريخية، والجدار المسدود الذي تضع هذا الشعب إزاءه، انطلاقاً من اتفاق أوسلو المشهور، متمثلاً في مفاوضات لا تنتهي بدأت منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، وتحاول الإدارة الأميركية الآن دفع «السلطة» الفلسطينية بقيادة أبي مازن للعودة إلى طاولتها، بعد انقطاع، فيما تواصل الإدارة الإسرائيلية سياسة الاستيطان التي بدأتها منذ هزيمة حزيران 1967، بحيث تصبح أحلام جماعة «السلطة» المشار إليها، في دولة بحدود الرابع من حزيران من ذلك العام، مجرد أضغاث، لا أكثر. هكذا جاء في المقال:
«لقد كانت سياسة الحكومات الإسرائيلية، على امتداد المرحلة التي تلت أوسلو، تقوم على مبدأ اليد الغليظة، والقمع الدائم، والاعتداءات، والاعتقالات. وقد شهدت السنوات الأخيرة، إلى ذلك، خوض حربين عدوانيتين كبريين، إحداهما خارج الأراضي الفلسطينية (الحرب على لبنان، صيف عام 2006)، ولكن الثانية داخلها، وبالتحديد الحرب على غزة، في أواخر عام 2008، أوائل عام 2009. تضاف إلى ذلك أعمال القصف الممارسة ضد القطاع المحاصر، منذ الانسحاب منه، والذي يتعرض، بين الحين والآخر، للغارات الجوية، والقصف المدفعي، والرمايات بالرشاشات الثقيلة، مع حصيلة ذلك من الشهداء، الاقتطاعات المتوالية للأراضي، وهدم البيوت، وتجريف الأرض، فضلاً عن الجدار الحاجز، الذي يقام، على امتداد مئات الكيلومترات، داخل أراضي الضفة، ويفصل بين القرى والمدن الفلسطينية، فيها، وبين الخط الأخضر، مع نتائج ذلك الوخيمة على حياة سكان الضفة، ومستوى معيشتهم، وظروفها، وما يعنيه ذلك من اقتطاع أجزاء أساسية من المساحة الإجمالية للضفة الغربية، وضمها عملياً إلى المستوطنات الجاري بناؤها، على قدم وساق، بصورة متسارعة، بما يتناقض مع أبسط القوانين الدولية.
إن سياسة الاستيطان التي تلجأ إليها إسرائيل، والتي باتت تتسارع، بصورة جنونية، في السنوات الأخيرة، في ظل الحكومات المتعاقبة لأقصى اليمين الصهيوني، بقيادة نتنياهو، تظهر إلى أي حد كان أنصار التسوية مع إسرائيل، في الوسط الفلسطيني، مصابين بقصر النظر، في رهانهم على إقامة دولة فلسطينية، على الأراضي المحتلة في عام 1967. وهي سياسة تستهدف، بوجه أخص، مدينة القدس الشرقية، والبلدات والقرى المجاورة لها (بات 50,6% من المستوطنين يسكنون في محافظة القدس)، وإن كانت تستهدف أيضاً مناطق أخرى على امتداد الضفة، ومن ضمن ذلك في الخليل، وغيرها من المدن والبلدات، وصولاً إلى منطقة الأغوار، على طول نهر الأردن. ومن عام 2000 حتى عام 2011، هُدم 1059 مبنىً في القدس الشرقية، وتشريد 4856 شخصاً، علماً بأن المئات منهم أجبروا على هدم بيوتهم بأنفسهم، تحت طائلة هدم البلدية لها، وتدفيعهم مبالغ طائلة لقاء ذلك. أما عدد المساكن التي هدمت، على امتداد المدن والقرى الفلسطينية، منذ عام 1967، فبلغت 25 ألفاً، وبات عدد المستوطنين الإسرائيليين، في الضفة الغربية، 518.974 مستوطناً، في نهاية عام 2010، والحبل على الجرَّار».
ومنذ المقال المستشهد به أعلاه، كنا قد رأينا مؤشرات بالغة الأهمية إلى أن تغييراً في موازين القوى وارد لا محالة، بحيث يسمح بإعادة النظر كلياً بمسيرة القيادة الفلسطينية، منذ الاتفاق - المأساة، الذي وقَّعه الزعيم الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، مع إسرائيل، ولا تزال هذه القيادة، بواقعها الراهن، تركض وراء سرابه، وذلك نحو الخروج من كامل تلك المسيرة ونتائجها الكارثية على الشعب الفلسطيني. وأشرنا إلى أنه بين الأسباب التي تجعلنا نرى هذا الرأي، ما يأتي:
ــ الدعم الدولي الشعبي، الذي باتت تحظى به القضية الفلسطينية، بعد الانكشاف المتزايد لحقيقة الدولة الصهيونية، كدولة فصل عنصري، تضطهد شعباً آخر، وتصادر أرضه ومياهه، وتحول حياته إلى جحيم، ضاربة عرض الحائط بأبسط ما بات متعارفاً على ضرورة حمايته والدفاع عنه، وفرض احترامه، من حقوق الإنسان. وهو دعم شاهد العالم بأسره بعض مظاهره، ولا سيما في السنوات الأخيرة، مع قدوم متعاطفين مع قضية الشعب المذكور، إلى فلسطين، من شتى بلدان العالم، للتعبير عن تضامنهم ودعمهم هذين، مغامرين حتى بدفع ضريبة عالية لهذا الموقف وصلت مراراً إلى فقدان حياتهم، إزاء وحشية الاحتلال الإسرائيلي.
ــ الحملة العالمية لمقاطعة إسرائيل، ونزع الاستثمارات فيها، وإنزال العقوبات بها، المعروفة بأحرفها الأولى BDS.
ــ التراجع في وزن الدولة الصهيونية، والأوهام الأخلاقية التي كانت معلقة عليها لدى كثيرين (في الأوساط الشعبية، كما على صعيد الإنتليجنسيا)، في أوروبا وأميركا، وبلدان شتى، عبر العالم، بحيث بات كثيرون يعتبرونها تشكل تهديداً جدياً للسلام العالمي، ومن ضمنهم الكاتب الألماني، ذو الشهرة العالمية، والحائز جائزة نوبل للآداب، غونتر غراس، في قصيدة له بعنوان: «ما ينبغي أن يقال».
وأخيراً، وليس آخراً – وربما هذا هو السبب الأهم – التطور العظيم الذي باتت تشهده المنطقة العربية، منذ أواخر عام 2010، متمثلاً بالسيرورة الثورية المندفعة مذّاك لإطاحة أنظمة الاستبداد والاستغلال البشع، والإذلال والقمع، على امتداد المنطقة المشار إليها. مع ما سيعنيه ذلك، بمقدار ما تتجذر هذه السيرورة، وتنجح في الاقتراب من النصر، في تاريخ غير بعيد، بالضرورة، من إطلاق المارد الشعبي من عقاله، لغير صالح الهيمنة الإمبريالية على ثروات شعوبنا، ومقدَّراتها، كما لغير صالح استمرار غطرسة الدولة الصهيونية، وتوسعها، لا بل حتى مجرد بقائها، كدولة استيطانية عنصرية.

السيرورة الثورية العربية وتحرر الشعب الفلسطيني

لقد كان بين الأسباب الأهم لما بات يدعى النكبة الدور الحاسم للأنظمة العربية، البالية، والفاسدة، والخائنة، والمستسلمة، في الهزيمة التي ألحقها الصهاينة بقواتهم، التي حملت تسمية «جيش الإنقاذ»، وفي استيلاء هؤلاء على أكثر من 80% من مساحة فلسطين، وإقامة دولتهم عليها، قبل 65 عاماً من الآن، وبالتحديد في أيار/ مايو من عام 1948. وهو أمر لا حاجة لسوق الأدلة عليه، لكثرة ما قيل وكُتِبَ عنه، في هذا المجال، مذاك. ولقد تلت ذلك هزائم إضافية بين ما أفضت إليه، وسببته، وضع الصهاينة أيديهم على ما بقي من الأراضي الفلسطينية، في أوائل حزيران/ يونيو من عام 1967، واحتلال أجزاء واسعة من بلدان عربية أخرى ما زال قسم مهم منها تحت الاحتلال، إلى الآن. وهو ما لم يكن ممكناً، إذا أخذنا بالحسبان الفرق الشاسع في الإمكانات الطبيعية، والبشرية، بين طرفي الصراع (قيام الدول العربية على نحو الأربعة عشر مليوناً من الكيلومترات المربعة، التي يقطنها، حالياً، أكثر من ثلاثمئة مليون نسمة، مقابل أقل من ستة ملايين نسمة يعيشون على عشرين ألف كم2، أو أكثر قليلاً. فضلاً عن الفرق الهائل أيضاً في الثروات الطبيعية، والإمكانات الاقتصادية)، لولا طبيعة الأنظمة العربية التي حكمت شعوبنا، على امتداد العقود الأخيرة، وحرمتها كل مقومات القوة، والقدرة، بالتالي، على مواجهةٍ ظافرة للكيان الصهيوني، ولنزعته التوسعية العدوانية، لا بل أيضاً – وهنا بيت القصيد – من مقومات القدرة على تصفية شروط بقائه. ونحن نقصد بذلك الطبيعة الاستبدادية لهذه الأنظمة، المغرقة في الفساد، والتخلف، والعداء الجذري للحريات الإنسانية، ولكل ما من شأنه أن يطلق الطاقات الهائلة لشعوب البلدان العربية، على اختلاف مكوناتها. ولنا في ما يجري، في سوريا، منذ أكثر من عامين، صورة صارخة عن حقيقة هذا العداء، فيما نرى مدى استشراس النظام القائم هناك، على غرار شبيهه العراقي، في أيام صدام حسين، في استخدام كل أنواع الأسلحة الفتاكة، بما فيها تلك المحظورة دولياً، كالسلاح الكيميائي، في عملية إبادة شعبه. وهو شعب لم يعد يطيق البقاء تحت الطغيان والاستبداد والقهر، فأعلن عصيانه، ونزل إلى الشوارع، هاتفاً بالحرية، والكرامة، واللقمة غير المغمسة بالدم، وشتى أسباب امتهان الكرامة الإنسانية، فيما يمتنع النظام المشار إليه عن توجيه أي من تلك الأسلحة إلى العدو الإسرائيلي، الذي يحتل أرضه منذ عام 1967، ويدمر مرافقه، ومشاريعه، ومراكزه العسكرية، بين الحين والآخر، وينتهك أجواءه، تكراراً، من دون أدنى ردّ رادع. هكذا كما لو أن كل هذه الأسلحة التي دفع أثمانها الشعب السوري، بعرقه ودمه، يجري تجميعها حصراً لهدفٍ أوحد وحيد، هو حماية هذا النظام، وتأبيد وجوده!
إن السيرورة الثورية الراهنة، في مناطق واسعة من الأرض العربية، تحمل – على رغم ما تشهده، أحياناً، من تخبطات وعثرات، ومساعٍ حثيثة، على الدوام، لمصادرتها على يد قوىً معادية للثورة، داخلية وخارجية، في مقدمتها الحركات الإسلامية (ولا سيما جماعة الإخوان المسلمين)، الحاظية بأقصى الدعم من حكومات خليجية، بوجه أخص – تحمل، نقول، بالكثير من الوعود، وبين أهمها تحرير الإنسان من كل المعوِّقات التي كانت تحول بينه، إلى الآن، وبين التقدم، والإبداع، والمبادرة الشجاعة، في شتى الميادين، ومن ضمنها، على صعيد مواجهة مختلف الأعداء، الداخليين، والخارجيين، وتحقيق الغلبة عليهم، بالكفاءة التي يتيحها تخلصه الكامل من القمع، سواء ذلك القابع وراءه طاغيةٌ يمارس ضد شعبه كل أواليات الكبت والقهر والإرهاب، أو ما يمكن تسميته القمع الذاتي، الذي يصبح، أحياناً، أشد إيلاماً واستلاباً وتقزيماً للطاقات الأصيلة في الإنسان الفرد، كما في المجتمع. وفي هذا المجال، لقد أصاب صاحب كتاب «الشعب يريد، بحث جذري في الانتفاضة العربية»، د. جلبير الأشقر (دار الساقي، بيروت،2013، ص 300)، في وصفه إحدى أهم نتائج هذه السيرورة، بالشكل الآتي:
«في الوقت الحاضر، يتمثل الإنجاز الرئيسي للانتفاضة العربية في أن شعوب المنطقة قد تعلمت أن تريد. وهو ليس بالأمر الهيِّن. تعلمت الشعوب أن تعبِّر عن إرادتها الديموقراطية بأكثر الطرق جذرية: ليس فقط الإرادة التي يجري التعبير عنها دورياً في صناديق الاقتراع، في مواعيد تحددها السلطة القائمة، ولكن أيضاً تلك التي يعبّر الناس عنها، في الشارع، كلما أرادوا. وقد تعلم العمال والعاطلون من العمل والطلاب في المنطقة العربية أن «السلطة في الشارع»، وأن هذه السلطة مكمِّلٌ ومصحِّحٌ لا غنى عنه لتلك التي تنبع من صناديق الاقتراع، حتى حينما لا يكون الاقتراع مزوَّراً».
هذا ولقد كانت شعارات الجماهير، التي احتلت الشوارع والميادين، في بلدان شتى شهدت هذه الظاهرة، تراوح بين مطالب الحرية، والكرامة، والخبز، فيما غابت تلك المتعلقة بالتحرر الوطني، والقضايا القومية، ولا سيما القضية الفلسطينية والعداء للدولة الصهيونية، على الرغم من أن الجماهير المصرية الثائرة عبّرت، من جانبها، وبوضوح، عن موقفها الجذري من هذه الأخيرة، وهو ما أمكن أن يشاهده الجميع، حين هوجمت السفارة الإسرائيلية وأُحرقت، بعد أشهر قليلة من ثورة 25 يناير، بحيث اضطر السفير الإسرائيلي إلى مغادرة القاهرة، آنذاك، والعودة إلى إسرائيل. وقد عزا كثيرون هذا الغياب إلى نفور الجماهير العربية، أو على الأقل جزء مهمّ منها، من المزاعم الكاذبة للعديد من أنظمة المنطقة، بخصوص العداء للدولة الصهيونية، والتضامن العميق مع حقوق الشعب الفلسطيني، ولا سيما حقه في العودة، وممارسة تقرير المصير، ومساندة مقاومته، وما إلى ذلك، فضلاً عن تبرير تلك الأنظمة قمع الحريات الديموقراطية، وفرض حالة الطوارئ، والتضييق على معيشة غالبية من الجماهير الشعبية، وذلك في أكثر من بلد عربي، بحالة الحرب مع إسرائيل.
بيد أنه في العديد من الحالات، قبل اندفاع الحراك الثوري الأخير، وحتى في ظل أقسى درجات القمع البوليسي، كان يظهر المعدن الحقيقي لتلك الجماهير، في عدائها الجذري لإسرائيل، وتعبيرها المكشوف عن استعدادات حقيقية لتقديم شتى أشكال الدعم لأعمال المقاومة الفعلية ضدها، وعن فرحها الشديد، لدى توجيه ضربات موجعة إليها، كما الحال خلال حرب تموز/ يوليو 2006 على لبنان، أو حين تظهر علامات صمود جدي في وجه عدوانها، كما الحال خلال الحرب على غزة، في 2008 - 2009. وهو ما ينبئ، حقاً، بأن أي صدامات جديدة، مع هذا العدو، قد تلهب المنطقة بأسرها، ليس ضد إسرائيل وحسب، بل ايضاً ضد حماتها، وحلفائها الإمبرياليين، كما ضد الأنظمة العربية، المتواطئة معها، ولو بصورة ضمنية، في ظل الواقع الجديد الذي خلقته، في المزاج الجماهيري العربي، السيرورةُ الثورية المنوَّه بها. وهو الأمر الذي يدفع إلى توقع انقلاب عميق في هذا المزاج، فيما إذا تحرك الوضع، بصورة مؤثرة، وواعدة، هذه المرة، في الأرض الفلسطينية المحتلة، ولا سيما إذا عبّر ذلك عن نفسه بانتفاضة ثالثة لشعبها، مع ما سيلازم ذلك من قمع دموي إسرائيلي شرس لهذه الأخيرة.

نحو انتفاضة فلسطينية ثالثة

كنا قد رأينا، في المقال المستشهد به، في مطلع هذا النص، كيف أن حكومة «السلطة»، الحالية، المتوقفة عن التفاوض مع الإدارة الإسرائيلية، على الأقل، موقتاً، ليس لها من بديل «من المفاوضات إلا المفاوضات، فيما تنتج إسرائيل، يوماً بعد يوم، أمراً واقعاً جديداً يتناقض بالكامل مع هذا المنظور، ويحبط كل رهانات الأوسلويين على دولة فلسطينية، قابلة للحياة، بجانب إسرائيل». لكننا استدركنا لنقول إن «ثمة بديلاً شعبياً، بالضرورة، يُستحسن كسب الشعب الفلسطيني لمصلحته، في الأراضي المحتلة، كما في بلدان الشتات، يتمثل بما يأتي:
أ ــ التخلي النهائي عن منظور الدويلة الفلسطينية المنزوعة السلاح، والفاقدة السيادة على نفسها، وعلى مواردها الطبيعية، ومياهها الجوفية، والمقطَّعة بالطرقات الاعتراضية، والمستوطنات الإسرائيلية، والمحرومة السيطرة على عاصمتها التاريخية، القدس، التي تشكل، في آنٍ واحد، مدخلاً للتخلي النهائي عن حق العودة. على أن يكون ذلك لمصلحة منظور دولة لكل سكانها، على كامل فلسطين التاريخية، يعود إليها كل الفلسطينيين الموجودين في المنافي، الذين يريدون ذلك، ويتاح لهم أن يشاركوا، على قدم المساواة الفعلية مع سكانها الحاليين، في كل مناحي الحياة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، وفي ممارسة كل الحقوق الديموقراطية، وذلك ضمن منظور دولة فلسطينية ديموقراطية شعبية، مندمجة في محيطها العربي، ومندفعة معه في منظور وحدوي، على طريق التحول الثوري نحو اشتراكية حقة، قائمة على التسيير الذاتي، والتطور الحر للإنسان والمجتمع، بعيداً من أي قهر، أو استغلال، أو استلاب.
ب ــ سحب الاعتراف، بالتالي، بالدولة الصهيونية، وباتفاقية أوسلو، وحل السلطة الناتجة منها، ووقف كل أشكال التعاون الأمني مع العدو الصهيوني، وشتى أشكال التطبيع معه.
ج ــ استعادة مشروع المقاومة الشعبية والانخراط الحثيث، والمكثف، في انتفاضة ثالثة تقدم الثوراتُ العربية خلفيةً آمنة لها، ويقدم التضامن العالمي رافعة مؤثرة جداً لإمكانات تطورها ونموها، على أن تخلق هذه الانتفاضة أشكال التسيير الذاتي لحياة المنخرطين فيها، أي الغالبية العظمى من الشعب الكادح، والمظلوم، والمعرَّض للحرمان والإقصاء والعزل، ولشتى ضروب النفي، سواء داخل الوطن، أو خارجه، وذلك على الطريق لتحقيق المنظور المنوَّه به، في النقطة «أ»، الواردة آنفاً».
ونحن نعتقد أن المدخل الأفضل إلى هذه الانتفاضة قد يكون بتحويل ما بادرت إليه الجماهير الفلسطينية، قبل فترة قصيرة – حين اندفعت، عبر حركة أكثر من رمزية، في تدمير الجدار الحاجز – إلى نضال يومي تشارك فيه جماهير واسعة، على امتداد المسافة التي يوجد فيها، ولا سيما أن هذه الجماهير تستطيع الاستناد في عملها هذا إلى حكم محكمة العدل الدولية، في لاهاي، في أوائل تموز/ يوليو 2004، القاضي بضرورة هدمه، بسبب لا شرعيته، وفقاً للقانون الدولي. وهو الحكم الذي عادت الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعد ذلك بفترة وجيزة، فاتخذت توصية بالموقف عينه، تجاهه، وذلك بأكثرية 150 دولة، ومعارضة دولتين فقط، هما إسرائيل والولايات المتحدة، وامتناع عشر دول عن التصويت. أكثر من ذلك، يمكن دعوة كل مناصري القضية الفلسطينية، عبر العالم، إلى القدوم إلى فلسطين والمشاركة في هذا العمل، الذي لا بد من أن يتحول من طابعه الرمزي، في الأصل، إلى عمل انتفاضي حقيقي، وبصورة واضحة، تماماً، إلى ما يمكن اعتباره الانتفاضة الفلسطينية الثالثة.
هذا وقد يقول بعض المحبطين، واليائسين، والمهزومين، في أعماقهم، إن في هذه الدعوة الكثير من الطوباوية، والمراهنة على المجهول، من دون أخذ موازين القوى الفعلية بالاعتبار. وهو ما طالما ردت عليه حركات الشعوب، ومن ضمنها شعوبنا العربية، المتمردة، بالذات، بإنجازات تضارع المعجزات. ولم يكن ما حدث في العامين الأخيرين، في منطقتنا، تحديداً، إلا مؤشرات أولى على ما تحبل به من إمكانات، وما قد تستمر، لاحقاً، تفاجئ به العالم بأسره. في كل حال، سيكون مفيداً أن نختم هذا المقال بما ختم به صاحب كتاب «الشعب يريد» كتابه المشار إليه، حيث يقول: «فالانتفاضة العربية ليست سوى في بداياتها. «المستقبل يدوم طويلاً»، كتب الجنرال ديغول في مذكراته خلال الحرب. إنه لتعبيرٌ جميلٌ عن الأمل».
* كاتب ومحامٍ لبناني