من يعمل محرّراً في أية وسيلة إعلام سيستصعب الإجابة عن السؤال التالي: كم مرّة صغتَ عنواناً موضوعه الاتفاق على إنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية؟لا تعود الصعوبة إلى تقادمٍ أنْسانا الحدث ولا إلى نُدرة تواتره، بل إلى الكثرة المفرطة في إطلاق «بالونات الأمل» من طرفي الصراع الأساسيين، سلطة رام الله وسلطة غزة. فلم يعد يصح القول «فتح» و«حماس»، بل السلطة خلف هذه وتلك. الحركة/ الفصيل شيء والسلطة شيء آخر تماماً. الحركات تعجّ بالشرفاء.
من السخيف والمملّ تكرار مقولة: أهمية إنهاء الانقسام وهلمّ جرّا... بات الأمر علْك شعارات. لا يحتاج أحدُ المتصارعَين إلى تنظير وهداية وإرشاد. هل ينتظر محمود عباس أو خالد مشعل من صحافي إفهامه ضرورة المصالحة الوطنية لمواجهة الاحتلال؟ لا طبعاً. إنهما يفهمان هذا أكثر من الجميع. لذلك يجب البحث عن مادّة أخرى للسؤال: المصالح، تلك التي تعني الترجمة الأدقّ للسلطة.
آن أوان الاقتناع بأن خطاب «المصالحة الوطنية» باللغة الفلسطينية صار بحاجة إلى النفض. النفض والانتفاضة من نفس الأصل، الكريم والنبيل!
الحناجر الشابة تروح تهتف في رام الله وغزة للمصالحة كلّما توقعنا الدخان الأبيض من قمّة فلسطينية في الخارج، ولكن المعنى يختلف بين صرخة هذه الحناجر الصادقة ووقعها على مسامع القمميّين الفلسطينيين. صحيح أنّ ما تعرفه الشابة الفلسطينية بالحدْس والوعي عن وجوب إنهاء الانقسام، يعرفه القمميّون أيضاً، لكن حساباتهم تختلف: لا تُقاس لديهم القوة الناجمة عن المصالحة بمفردات معادلة كالتالي: مقاومة مقابل احتلال، بل تقاس بمفردات معادلة مختلفة: سلطة رام الله مقابل سلطة حماس، وبالعكس. ميزان الرعب التّافه هذا! المصالحة تُقاس بمفردات المصلحة الضيّقة للسلطتين. ولا حاجة إلى الإضافة طبعاً أن كلاً منهما تساوي «طُزّ»... لأن جمهورية الأولى وإمارة الثانية وهميّتان طالما أنهما رازحتان تحت نير الاحتلال الأجنبي. وأمّا أكثر ما يثير حوامض المعدة، فهو مسلسل البحث عن المصالحة بواسطة السّفرات الفلسطينية الطائرة والراجلة إلى هذه العاصمة العربية – الخليجية خصوصاً - أو تلك. ما علاقة هؤلاء بمصالح/ة شعبنا؟ فزعماء الخليج – لا الشعوب طبعاً!- كفوا منذ زمن قاتم يتطاول عن أن يكونوا عرباً. انظروا إلى اهتماماتهم وأهوائهم ومصالحهم وخدماتهم وأمزجتهم وميولهم ورغباتهم - كلها مرتبطة بالغرب السياسي فقط. من الغباوة التعامل معهم كعرب. أصلاً، من هو العبقري الذي يتوقع من أنظمة العبيد هذه فهمَ الوجدان الفلسطيني والهم الفلسطيني والوعي الفلسطيني لصراع على الوجود والتحرّر والكرامة، وكيفية ارتباط هذا كله بالمصالحة الوطنيّة؟ هل يمكن لأيّ خيال مهما انفلت أن يتخيّل مقارنة لتصوّر التحرّر، ما بين أمير نفطي ومناضل فلسطيني في العشرين من جنين مثلاً؟! لحظة، هناك حدود للسريالية.
«أموت وأفهم» ما الذي يدور في رأس الأخوة الفلسطينيين من جمهورية رام الله أو إمارة غزة، وهم جالسون أمام ملك السعودية أو أمير قطر، حين يتشدّق هذان عن فلسطين وقضيتها ومصالحها وضرورة مصالحتها؟ هل يتمعّنون فيهما وهما يسكبان الكلام؟ هل دار في رؤوس الأخوة مرة السؤال: عزيزي حمد وعزيزي عبد الله، لقد بذلتما من المال والعتاد والسلاح في سوريا ما يصعب تعداده، فكيف لم تفكرا مرة في سكب نصفه لمقاتلة الاحتلال الإسرائيلي؟ أليست القدس صمغاً أساسياً في خطبكما العصماء؟ لماذا لم يأخذ تحرير القدس مقدار ذرّة من سعيكما المبارك «لتحرير» دمشق وسرقة ثورتها وأفغنتها؟!
الفلسطيني الوطني يعرف أن هذا هو السؤال! أو يُفترض به ذلك... وأن جوابه هو القيام بدون استئذان ولا سلام ومغادرة مجالس أصحاب السموّ والجلالة (والعمالة) والعودة إلى رام الله أو غزة. ليس فقط لأن المصالحة تبدأ وتنتهي هنا، وليس فقط لأن جميع المصالح المترتبة على المصالحة يجب أن تبدأ وتنتهي هنا، في البلد، بل لأن الفلسطيني الوطني يفترض به معرفة أن أولئك الزعماء العرب/ الأجانب لا تهمهم غزة ولا رام الله ولا القدس. إنهم مشغولون بما يُملى عليهم من أجندات لتحرير (وأفغنة) دمشق، وتثبيت عروش (أي سرقة ثورة) القاهرة وتونس، وإسناد عرش (أي قمع انتفاضة) المنامة. أما فلسطين، فليست على ألسنتهم سوى نوع واطئ من عُهر الخطابة.
* كاتب فلسطيني