شغلت انتخابات الرئاسة في إيران، حيّزاً غير قليل من اهتمام وسائل الإعلام، في الفترة الحالية. من تحليلات تتناول خارطة الحملة الانتخابية وخلفيّاتها، إلى التوقّعات بما قد يؤدي إليه فوز هذا المرشّح، أو ذاك، من تغييرات في المشهد السياسي للبلاد، وفقاً للرؤى التي يحملها المرشحون، حيال الملفات الرئيسيّة لسياسة «الجمهورية الإسلامية»، الداخليّة منها والخارجيّة.سبق للانتخابات الرئاسيّة الماضية، في صيف 2009، أن رافق حملتها ـــ وتبع نتائجها أيضاً ـــ اهتمامٌ إعلاميّ عالميّ غير مسبوق، مع بروز نجم مير حسين موسوي، كمنافس قوي، آنذاك، ضدّ الرئيس محمود أحمدي نجاد، الذي فاز في النهاية، وسط تشكيك دولي في نزاهة تلك الانتخابات، واتّهام للحكومة بالتدخّل لمصلحة نجاد.
الحدث الأبرز في تلك الانتخابات، كان نزول أنصار المرشّح موسوي إلى الشوارع للتعبير عن رفضهم للنتائج، وهو ما تحوّل تدريجيّاً إلى حركة احتجاجيّة واسعة النطاق، طالبت بالديمقراطيّة والتغيير السياسيّ الجذري في البلاد. وعُرفت تلك الحركة بـ«الثورة الخضراء». امتلأت الساحات بالمتظاهرين، في استعادة غير مسبوقة لمشاهد الثورة الشعبيّة، التي خلعت شاه إيران سنة 1979، قبل أن يسيطر عليها «آيات الله»، بزعامة الخميني، وتتحوّل على يديه إلى نظام جديد، ديني/ سياسي، تحت عباءة «ولاية الفقيه».
سعت السلطات إلى إنهاء الحركة الاحتجاجيّة «الثورة الخضراء»، التي وصفها المسؤولون الإيرانيّون بـ«المؤامرة». واتّهم الإعلام الرسمي المتظاهرين بأنهم «عملاء للغرب وأميركا وقوى الاستكبار العالمي». سقط مئات القتلى والجرحى، في المواجهات بين المحتجّين وقوات الشرطة والحرس الثوري، وشملت الاعتقالات أعداداً كبيرة من المعارضين السياسيين والشباب المنتفض، لكنّ الثورة الخضراء، ورغمَ نجاح النظام في احتوائها، جذبت أنظار العالم إلى بطولات الإيرانيين في مواجهة القمع، وإلى الإصرار على مطالبهم، وكشفت فشل نظام «الجمهوريّة الإسلاميّة» في تدجين الشارع خلال ثلاثة عقود من حكم البلاد، وعبّرت عن الأزمة العميقة بين الحكم والشعب.
في كل الأحوال، ثمّة أمرٌ على غاية من الأهمّية يغيب عن أذهان المحلّلين، عندما تتحدّد قراءاتهم للمشهد الإيراني بدلالة هويّة الرئيس. ذلك أنّ تركيبة نظام الحكم، وفق ما بُنيت في مواد الدستور الإيراني الحالي، تجعل من الرئيس، ليس أكثر من واجهة سياسيّة لسلطة «الولي الفقيه»، أو «مرشد الثورة»، إذ إنّ دستور «الجمهوريّة الإسلاميّة»، وإن نصّ في المادة 113، على أن رئيس الجمهوريّة «أعلى سلطة رسميّة في الدولة ويرأس السلطة التنفيذية»، إلا أنّه في المادّة ذاتها يقرّر أنّ كل سلطة تأتي بعد منصب «القائد الولي الفقيه»، وأنّ رئيس الجمهورية ليس رئيساً في المجالات المرتبطة بالقيادة، أي إنه يعمل ضمن صلاحيات القائد.
وقد ذكرت المادة 110 من دستور إيران صلاحيات «القائد» وسلطاته، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو من يعيّن الفقهاء المسؤولين عن صيانة الدستور، ومراقبة القوانين التي يسنّها مجلس الشعب، وهو أيضاً من يقوم بتعيين أعلى سلطة قضائية في البلاد، كما ينصّب ويعزل رئيس أركان الحرب وقائد الحرس الثوري، ويعيّن قادة القوات المسلحة (البرّية، الجوّية، البحرية). وله إعلان الحرب والصلح، وتنفيذ رئاسة الجمهورية، وعزل رئيس الجمهورية إذا اقتضت مصالح الأمة، والعفو عن المحكومين في حدود قوانين الإسلام وباقتراح من المحكمة العليا. ماذا يبقى، إذاً، من دور لرئيس الجمهوريّة، بعد كلّ تلك الصلاحيات المُعطاة للقائد المرشد، سوى تمثيل الواجهة السياسيّة للحكم.
يبدو أنّ غاية ذلك، النأي برجال الدين (آيات الله)، أصحاب السلطة الفعليّة، عن تحمّل المسؤولية المباشرة عن سياسات النظام، عبر إعطاء السلطة السياسيّة دوراً ظاهريّاً، يعزّزه هذا التركيز الإعلامي على منصب الرئاسة، والحفاظ على الهالة المحيطة بطبقة رجال الدين.
يمكن الاستنتاج إذن، أنّه، في التجربة الإيرانيّة، أو قل تجربة الإسلام السياسي الشيعي في الحكم، ثمّة نوع من إعادة توزيع الأدوار بين الساسة ورجال الدين، تجعل السياسي في خدمة الديني، خلافاً لما درجت عليه المؤسسة الدينيّة «الرسميّة» (السنّية)، من سعي إلى تبرير سلوك الحاكم، بحيث يكون الديني في خدمة السياسي. بصيغة أخرى، وفقاً للدكتور تهامي العبدولي، في كتابه «أزمة المعرفة الدينية» (صادر عن الأكاديمية العربية الآسيوية ودار البلد، الطبعة الثانية، دمشق 2005)، فإنّه في وقت تسعى فيه الجماعة المرجعيّة السنّيّة إلى إلجام العامّة حتّى يسهل الأمر على السائس وتحكم استمراريّة الطرفين، تعمد الجماعة المرجعيّة الشيعيّة، إلى إلجام السائس ومحاصرته كي تستمرّ هي وتسوس العامّة في النّهاية.
على أنّه، وبصرف النظر عن توزيع الأدوار، أو الهوية المذهبيّة للحكّام، فإنّ الشعوب وحدها، هي من يدفع دوماً، ثمن زواج السفاح بين الدين والسياسة.
إنّ تجربة المواءمة بين متطلبات «الجمهوريّة» والقواعد «الإسلاميّة»، وفق ما شهدته التجربة الإيرانيّة، لم تفضِ إلى الديمقراطيّة، التي وعدت بها ثورة الشعب الإيراني، حين أنهت حكم الشاه إلى غير رجعة. وهذا الرأي مبنيّ على مفردات الدستور الإيراني، وقد ورد بعضها في ما تقدّم، ذلك أنّ منح سلطات مطلقة تضاهي سلطة مجموع الشعب، وتزيد عليها، لفرد واحد، مهما تكن صفته الدينيّة أو السياسيّة، ليس من الديمقراطيّة في شيء، وهو تحدٍّ سيكون على ساسة إيران إعادة النظر فيه، إذا أرادوا تجنيب بلادهم مخاطر مستقبليّة، تنتجها بذرة الاستبداد، إن عاجلاً أم آجلاً.
* كاتب سوري