لا أحد يجزم بذلك، لكن ما أثارته الصحف الأميركية والغربية، وكذلك الصحافة العربية يضع الأمر في إطار الممكن جداً والمتوقع، فهناك أسباب كثيرة تدعم سيناريو الانقلاب المحتمل في قطر، ضمن مجريات الأحداث التاريخية الكبيرة التي تشهدها المنطقة العربية برمتها. ابتداء من مطلع عام ٢٠١١ ، عاشت الشعوب فترة غرائبية ومدهشة، تُساق إثرها بلاد العرب نحو تحول دراماتيكي كبير لم تشهده منذ سقوط الدولة العثمانية وقيام دول ما بات يعرف بالشرق الأوسط، وفقاً للقاموس السياسي الغربي.
ولهذا فإن القراءات المتأنية لخارطة الصراع على المنطقة العربية والكيفية التي يتشكل على أساسها المستقبل السياسي لا تضع مكاناً للتفاؤل، وتبدّد كل وَهْم بأنّ دولاً بذاتها تبقى بمنأى عن المآلات الخطيرة، وهناك مؤشرات كثيرة ربما تغيب عن الغارقين بالانشغال بالفتوحات الجديدة أو الزعامات الاقليمية تحت راية الربيع العربي.
إذاً ربما يدور الزمن على الابن الذي قاد انقلاباً أبيض على أبيه في صيف ١٩٩٥، ووصفه المراقبون حينها بانه انقلاب تلفزيوني حين استدعى الشيخ حمد بن خليفة ، ولي العهد ووزير الدفاع حينها، قادة الجيش وأعيان البلاد إلى ضيافته، وبينما كانت كاميرات التلفزيون تعرض المشهد كان هناك بيان سياسي إلى الشعب القطري يعلن انتقال الحاكمية من يد الشيخ الأب إلى يد نجله ولي العهد، الذي تدرج أيضاً في مناصب عسكرية بعد تخرجه من أكاديمية «ساندهيرست» العسكرية الملكية في المملكة المتحدة عام 1971.
كان ذلك اليوم الصيفي (٢٧ يونيو/ حزيران) بداية مدهشة وطموحة استطاع الأمير بعدها القيام بخطوات كبيرة على أصعدة مختلفة، لكن قطر، الإمارة الصغيرة التي حاولت أن تبني لها بيتاً مميزاً في إطار المنظومة الخليجية، لم تدرك مكانتها الكبيرة إلا بعد تطوير الاكتشافات الغازية الهائلة التي حوّلتها إلى ثالث وربما ثاني أكبر احتياطي غاز في العالم، حين بلغ احتياطها أكثر من ٩٠٠ تريليون قدم مكعب (قرابة ٢٦٠٠ تريليون قدم مكعب هو احتياطي الشرق الأوسط بما فيه إيران)، وأنشأت على أساسه منظومة صناعية حديثة. وفي خط موازٍ كانت بذرة الطموح العظيم، لخروج قطر من جغرافيتها الضيقة، قد وضعتها في مسارات بارزة ومؤثرة للغاية، ليس أولها تطور الترسانة الإعلامية التي تمثلها قناة الجزيرة كقناة عالمية حققت شهرةً واسعة منذ انطلاقها، وخاصة من خلال تغطياتها الميدانية المتميزة كمصدر وحيد لحرب أميركا و«الناتو» على أفغانستان، لتتوالى الأحداث بعدها حتى أصبحت الجزيرة دولة أكبر من الإمارة نفسها. وفي سياقات أخرى، أدّت قطر أدواراً سياسية ودبلوماسية في كثير من الأزمات في المنطقة العربية، وحاولت التفرد بانتهاج علاقات متوازنة مثيرة للجدل مع الغرب وإسرائيل من ناحية، ومع الجيران العرب وغيرهم من ناحية أخرى. وفي منحى جوهري، لم تنسَ قطر أن تجهِّز ثلث مساحتها للقواعد الأميركية في مقايضة مفترضة لتمكينها من أداء أدوارها اللاحقة في المنطقة دون خوف على كيانها من أي تهديد خارجي. ومن المؤكد أنّ هذه المراحل المتسارعة في بروز قطر كقوة إقليمية رائدة، كانت ولم تزل مثيرة للغاية وتدفع كثيراً من المراقبين إلى استشراف المحصلة النهائية أو الإجابة عن السؤال الكبير: إلى أين تذهب قطر؟
أخيراً كان ما يسمى الربيع العربي أرضية نموذجية وجدت قطر من خلال علاقاتها المتميزة ببعض المنظمات والأحزاب والمؤسسات العربية، ومن خلال سلطانها الاعلامي الفتَّاك، وكذلك المال السياسي الوفير جداً، أنّه قد حان الوقت لأن تتوَّج على عرش امبراطورية شرق أوسطية جديدة في فرصة استراتيجية لا مثيل لها في التاريخ، فسارعت في تدخلاتها ومشاريعها وأموالها لاحتواء المشهد العربي برمَّته دون حسابات موضوعية، حتى باتت ما يشبه بغرفة عمليات تشرف على حراك الوضع السياسي المتأزم والمتفجر في دول عربية رئيسة وعريقة تمثل القوام البشري والاستراتيجي الأهم في معادلات المستقبل. ولم تتوقف الأحلام عند حدِّ السيطرة الإقليمية من خلال دعمها واستئثارها بالتنظيمات الإسلامية الشعبية وقدرتها على تمويل مشاريع اقتصادية أساسية تمهد لنفوذها السياسي المستمر في المنطقة، بل إنها تسعى ضمن منافسات دولية كبيرة، كما يبدو، لبناء شريان طاقوي أساسي بواسطة مد أنبوب للغاز عابر للقارات ربما يمر عبر الصحراء العربية نحو الأردن ثم سوريا إلى البحر المتوسط، ومنه إلى جنوب أوروبا يسهم في تقويض اعتماد أوروبا على الغاز الروسي. وهذا الأخير مشروع حيوي جبار يدعمه الغرب لو أنه أتى بمعزل عن منظومة الطموح بدور سياسي محوري وكبير يفوق حجمها كدولة صغيرة تحكمها عائلة موناركية، ما زالت تعتمد على الولايات المتحدة في تحديد شروط بقائها. فضلاً عن أدوار متعددة تهدف من خلالها قطر إلى أن تمثل مركزاً عالمياً تتقاطع عنده مصالح دولية وإقليمية كبيرة.   
وهنا أدرك الحلفاء في الغرب قبل الخصوم والمتنافسين الإقليميين أنّ قطر قد خرجت عن كونها قاعدة عسكرية وشرياناً للطاقة ومصدراً لتمويل حروب الغرب في المنطقة، وأن طموح هذه الإمارة الصغيرة في اتجاهات مختلفة قد انفلت عن كونه طيشاً سياسياً ليصبح سلوكاً مغامراً وخطيراً في وضع تاريخي مفصلي، ربما سيحدد مصائر أهم المناطق الحيوية في العالم، الذي بدأت تتشكَّل على خلفيته مقدمات قوية لقيام نظام عالمي متعدد القطبية يحدد ملامح وطبيعة الصراعات الرئيسة والحروب الباردة في العقود المقبلة.
وبالطبع لا مجال للحلم القطري الفضفاض الذي أفقد الإمارة الصغيرة أي توازن موضوعي، ودفعها إلى السعي من أجل احتواء دول كبيرة من جهة، وابهات دور دول كبيرة أخرى من جهة ثانية، وتفرعت أذرعه الأُخطبوطية إلى مناطق محظورة إلى درجة أنّ الغرب لم يعد يتحمّل أي شيء، وكل شيء، وخاصة أنه ظل منذ عقود يعدُّ خططه المبنية على دراسات استراتيجية وفكر وجهود استخبارية تاريخية لتغيير الخارطة السياسية وإعادة توجيه بوصلة الصراعات باتجاهات تصب في مصالحه الكبيرة وتضمن الهيمنة الإسرائيلية المطلقة.
وقبل أن تتسبب دولة قطر بنهمها اللامحدود في مخاطرات حقيقية ربما أدركت الولايات المتحدة أنّ دور الشيخ حمد ووزير خارجيته قد اكتمل إلى حد أن بقاءهما مكلف للغاية، من زاوية الحرص على أن تستمر قطر في خدمتها للمشاريع الأميركية دون أن تحلم بأي شراكة إقليمية، لكونها تقف في مشهد فارق كمن يحمل صخرة ضخمة توشك أن تسقط على كاهله. 
ومن هنا أتى التوجيه الحاسم لإخلاء الطريق للابن المتميز، لأن يضع مصيراً لأبيه كما وضع الأخير مصيراً للشيخ الجد. ولا تفوتنا الإشارة إلى أنّ هذه الخطوة المفترضة تزامنت مع إرهاصات تنذر بتلاشي مشروع الأردوغانية في تركيا كنسخة حضارية للعثمانية المقبورة، مما يؤكد أنّ الغرب يضع خطوطاً حمراء لحلفائه في المنطقة، لينبِّههم إلى أن كل شيء تحت السيطرة. هذا من باب المجازفة في التحليل. 
كل هذا يأتي في ظروف خطيرة للغاية، أصبحت عندها بلاد العرب «خربانة» (كما وصفها أحد الكتاب). ففي مصر المهددة بعطش النيل وتمرد ٣٠ يونيو، وصل ربيعها إلى انسداد حقيقي وبات يهدد بتفكك الدولة المتجذرة في التاريخ. وفي سوريا يجري الحديث عن تسليح المعارضة لتحقيق توازن عسكري يطيل الحرب والدمار الشامل. وتونس تصارع جاهدة في مواجهة معضلات حقيقية، وفي العراق دموع ودماء، وليبيا الممزقة بين أنياب الميليشيات، والسودان المثخن بالجراحات، ولبنان المهدد من كل اتجاهات الريح، واليمن الذي ينتحر ببطء، والجزائر الذي يتأهب للدخول إلى مرحلة ما بعد بوتفليقة، ودول الخليج، وأولاها المملكة السعودية التي لم تعد تمثل استثناءً كما حلمت، وهكذا وأينما وليت وجهك (كل شيء قابل للانفجار).
ولا يسع المرء في السطور الأخيره إلا أن يُذَكِّر بما كتبه الراحل الكبير محمود درويش:
وأعُدُّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحث عن حدود أصابعي 
فأرى العواصمَ كلها زبدا
* متخصص في مجال النفط ــ كندا