أبعد من مخاوف «المتشددين» أو آمال الإصلاحيين، يشكّل انتخاب الشيخ حسن روحاني رئيساً للجمهورية الإيرانية حدثاً مهماً في العديد من معانيه، وفي الكثير من وعوده أو احتمالاته أو، حتى، تحدياته. لن نناقش هنا مواقف فئة ليست قليلة ممن يعتقدون أنّ إيران قد عبرت، من خلال «مفاجأة» الانتخاب وأرقامه الكاسحة من مرحلة إلى مرحلة جديدة. ينطبق ذلك، بين آخرين على الذين يتطلعون إلى حصول تغيير كبير في السياسات الإيرانية، والخارجية منها خصوصاً. طبعاً هؤلاء هم، عموماً، من ألدّ أعداء النظام الحالي، وهم من الذين يريدون، على الأقل، أن يشكّل انتخاب روحاني منطلقاً لعملية تدريجية تنتهي بإطاحة النظام القائم في إيران، عاجلاً أو آجلاً. ومعروف أنّ الولايات المتحدة، خصوصاً، قد عقدت الكثير من الرهانات، وما زالت، على أن يؤدي تأجيج التناقضات الداخلية في إيران إلى خلق مصاعب لا يستطيع النظام احتواءها، ومن ثم لا يستطيع التفلت من نتائجها التي يجب أن تؤدي إلى إرباكه وإضعافه وتقليص دوره الإقليمي... ولهذا الغرض (ولسواه أيضاً) ركّزت واشنطن على إنهاك «الجمهورية الإسلامية الإيرانية» بالعقوبات والحصار والمقاطعة والتحريض السياسي والإعلامي، وأيضاً، بتعزيز مناخات الاستقطاب والانقسام المذهبيين في طول البلاد العربية والإسلامية وعرضها... وواشنطن قد امتنعت، في خدمة التكتيك المذكور، عن تلبية مطالب إسرائيل في اللجوء إلى الخيار العسكري ضد النظام الإيراني، وضد برنامجه النووي ووحداته العسكرية البرية والبحرية والجوية فضلاً، بالطبع، عن منشآته النووية الحقيقية أو المفترضة. لن نناقش ذلك؛ لأنّ الإدارة الأميركية، الحالية والقديمة والمقبلة، ليست مهتمة بمسألة الديموقراطية في إيران (ولا في سوريا بالطبع). هذا الدولة لها جدول أعمال خاص يتصل بمصالحها الإمبراطورية وبمحاولاتها المستمرة، بأشكال مباشرة أو غير مباشرة، الحفاظ على نفوذها وتطويره في مصلحة احتكاراتها الكبرى، لكونها صاحبة القول الفصل في تقرير سياساتها وتحالفاتها ومواقفها وتحركاتها.
ما سنتناوله هنا هو، بالتحديد، موقع انتخاب الشيخ روحاني في سياق «العملية السياسية»، التي تتواصل في طهران منذ ثلاثة عقود وحتى يومنا هذا. لقد اختار النظام الإيراني، منذ بداياته، أن يعتمد شكلاً من أشكال الشراكة في اختيار المسؤولين والحكام. وهو بذلك قد تميّز عن «ثوار» آخرين وعن «ثورات» أخرى، بأنه أخذ بمبدأ الاقتراع الشعبي وواظب عليه حتى الانتخاب الأخير، الذي فاجأ النظام نفسه وفاجأ العالم إلى أبعد الحدود.
لكن آليات النظام «الإسلامي» قد وضعت ضوابط لهذه المشاركة وذلك الاقتراع من خلال حواجز كبيرة، كانت تزداد باستمرار: أولاً، من خلال الدستور الذي جعل السلطة الأكثر تأثيراً في القرار (بل شبه الحاسمة) خارج الاقتراع وتداول السلطة والمحاسبة والمساءلة... وكان النظام نفسه قد قنّن المشاركة منذ البدايات حين «اختفى» من المشهد الإيراني، طوعاً أحياناً وكرهاً غالباً، لاعبون آخرون غادر معظمهم البلاد، ودخل عدد منهم السجون، وغامر نفر ثالث باعتماد سياسة العنف ضد النظام ومؤسساته ورموزه كردّ على عنف سابق وعلى تفرد وإقصاء. ولم تسلم أقليات عرقية أو دينية من الأبعاد والتضييق. وكان النظام يتجه في مجرى ذلك، مثابرة نحو ثيوقراطية شبه مطلقة يستمد «وليها الفقيه» سلطته من معتقد فقهي لا يقره ولا يأخذ به قطاع واسع من أبناء المذهب الشيعي، ومن مراجعة الفقهية حتى في إيران نفسها.
ولقد نشأ تباعاً تناقض كان يزداد باستمرار ما بين الرغبة الشعبية الواسعة في تطوير النظام السياسي الإيراني، وما بين السلطة الفعلية التي غالباً ما نسبت تلك الرغبة إلى التحريض والتآمر من الخارج. وكاد هذا الأمر، بعد قمع تجربتي إصلاح جسّدهما الرئيس الأسبق محمد خاتمي، أن يدفع الأمور نحو الأسوأ. حصل ذلك في تجديد الولاية الثانية للرئيس السابق أحمدي نجاد عام 2009. يومها بدت البلاد على حافة حرب أهلية، حيث برزت معالم انقسام كبير استُخدم فيه القمع على نطاق واسع، واستُخدمت فيه كذلك اتهامات بالخيانة، وزُجّ برمزَي المعارضة السياسية الرئيسيْن في السجون أو في الإقامة الجبرية حتى يومنا هذا.
حالت أسباب خارجية، أيضاً، دون تنامي الاحتجاجات، وكذلك طبيعة بعض الملفات ذات الشعبية الكبيرة في إيران، ومنها الحق في امتلاك الطاقة النووية للأغراض السلمية... وساد، في امتداد ذلك، نوع من اليأس في صفوف «الإصلاحيين». وهو يأس لم يدفن، رغم مرارته، أملاً ظلّ كامناً في أن يجد النظام الإيراني وسيلة لاستيعاب الرغبة الشعبية الجامحة في المشاركة والحرية والتغيير.
هنا بيت القصيد. لقد حصل التغيير من ضمن آليات النظام «الإسلامي» نفسه، ولو فجأة أو خلسة أو بسبب نقص في التوقع!
إنّ «الاعتدال» الذي شكّل عنوان حملة روحاني، إنما هو تعبير متواضع وواقعي وعقلاني وعاقل عن الرغبة في إحداث تغيير تدريجي، ولكن جدي وحقيقي في البلاد. تغيير يتناول أساساً في آليات الحكم وممارسة السلطة وحجم المشاركة الشعبية. وقد تكون هذه مرة أخيرة تجري فيها الأمور على هذا النحو لو لجأ الحكام الفعليون إلى إجهاض تلك الرغبة. سيمر ذلك، طبعاً، عبر صمّ الآذان وعبر اللجوء إلى ممارسة الأساليب الأمنية، وعبر التمسك بالسلطة بكل الوسائل، وخصوصاً منها غير المشروعة وغير الشرعية.
الأحرى أن يجري الأخذ بمنطق آخر: منطق تقليص دور «ولاية الفقيه» لمصلحة ولاية الشعب، أي منطق المشاركة والاختيار على حساب الفئوية والاحتكار. يتطلب ذلك قراراً جريئاً بتطوير النظام السياسي الإيراني، أي بتطوير الدستور لجهة توازن أكبر ما بين صلاحيات «المرشد» وصلاحيات الرئيس. ويتطلب ذلك إشاعة مناخ من المصالحة مع معارضة الداخل والخارج، وخصوصاً أولئك الذين ينتشرون في المنافي دون سبب مقنع أو مقبول. لا يمكن بلوغ هذا الاستنتاج إلا من خلال قراءة تجارب الآخرين و«الثورات» البعيدة والقريبة. ولا يمكن بلوغ ذلك إلا بإقرار عميق بأهمية التغيير وبحق الناس في الحرية والمشاركة، فضلاً عن قيم السيادة والاستقلال والعدالة والمساواة.
* كاتب وسياسي لبناني