لم يُكتب بعد تاريخ دور المقاومة الفلسطينيّة في الحرب الأهليّة اللبنانيّة. على العكس، لم يُكتب إلا تاريخ دعائي مُزوّر ظلمَ المقاومة الفلسطينيّة وظلم الشعب الفلسطيني في لبنان برمّته. انبرى دعاة الانعزال اللبناني (المُسلم والمسيحي والعلماني) لشيطنة دور المقاومة الفلسطينيّة ــ لاحظوا كيف يبرعون في لبنان في شيطنة كل مقاومات العدوّ الإسرائيلي عبر العقود ــ ولإسباغ صفة الحمل الوديع على الشعب اللبناني الذي لا يدخل حروبه الأهليّة تلقائياً أبداً، وإنما يدفعه نحوها الغريب ــ فلسطينيّاً كان أو سوريّاً أو صوماليّاً كما كان إعلام الكتائب العنصري يردّد في سنوات الحرب. لم تحسن المقاومة الفلسطينيّة الدفاع عن نفسها ــ أو لم تحاول ــ ضد أقسى الحملات الجائرة التي ظلمت قضيّة الشعب الفلسطيني وطمست الخلافات بين قادة فصائل المقاومة حول مسألة الانخراط أو مدى المشاركة الفعليّة في الحرب الأهليّة. وجماعة إعلان فعل الندامة في ما كان يُعرف سابقاً من الحركة الوطنيّة اللبنانيّة ــ والتي أظهر قادتها أنهم مطواعون يسيرون على هوى المال الذي يصلهم، ليبيّاً كان أو عراقيّاً أو سعوديّاً حريريّاً في ما بعد ــ ينساقون برشاقة في الرواية الكتائبيّة عن الحرب ويطلقون أبشع النعوت على دور المقاومة، متناسين أن قادة الحركة الوطنيّة اللبنانيّة وقاعدتها كانوا هم يحثّون المقاومة على مزيد من الانخراط في الحرب، وكانوا يشكون من ضعف مستوى المشاركة العسكري. يكفي أن تقول «الفلسطيني» أو «الفلسطينيّي» كي تبدر على شفتيك سمات القرف في لبنان. وقادة المقاومة الفلسطينيّة تبعثروا أيدي سبأ بعد 1982 وكانت همومهم مختلفة آنذاك. سمحوا للبنانيّين بتصديق أكذوبة صائب سلام (صاحب شعارات المُكابرة والغباء في كل مفاصل التاريخ اللبناني المُعاصر) عندما جزم عام 1982 (صدفة بعد عدوان إسرائيل؟) أنه يخشى «على اللبنانيّين من الاختناق من كثرة العناق لو تركهم الغريب» ــ ووكيل الأمير سلطان في بيروت عنى بالغريب الفلسطيني فقط. طبعاً، خضعت مقولة سلام لامتحان بعد أشهر معدودة فقط: خنق اللبنانّين بعضهم بعضاً ــ لكن ليس من العناق ــ عندما تركهم «الغريب» الفلسطيني بعد 1982، عندما خاضوا حروباً أكثر وحشيّة من قبل، وبالفؤوس في حرب الجبل.قد يكون كتاب شفيق الغبرا الجديد، «حياة غير آمنة: جيل الأحلام والإخفاقات» من أفضل ما رُوي عن دور المقاومة الفلسطينيّة في الحرب. الغبرا أستاذ كويتي ــ فلسطيني وكتب أطروحة في جامعة تكساس عن تاريخ الهجرة الفلسطينيّة إلى الكويت. وعام1990، فاجأ الغبرا أصدقاءه ومعارفه عندما تنطّح للدفاع لا الكويت فقط، بل عن الأسرة الحاكمة فيها غداة اجتياح صدّام حسين للكويت. وعاب عليه كثيرون وكثيرات ــ وأنا منهم ــ أنه في دفاعه عن أسرة الصباح تجاهل الظلم الفظيع الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني في الكويت، من تعذيب وقمع وتهجير وسرقة ممتلكات وأموال بعد «تحرير» الكويت والذي تحوّلت معاناة شعبه في أشهر احتلال صدّام إلى معاناة تفوق معاناة الكارثة الفلسطينيّة ــ حسب إعلام النفط. لكن هذا الكتاب كشف عن تاريخ آخر للغبرا: للرجل تاريخ عريق في النضال المسلّح لم يكشفه من قبل. المسألة تحتاج إلى العودة إلى الماضي.
اختار الغبرا بعدما تخرّج بشهادة بكالوريوس من أميركا في منتصف السبعينيات أن يعود إلى الكويت، ومنها إلى لبنان ليشارك في الدفاع عن الثورة الفلسطينيّة وعن لبنان. وخلافاً للذين كانوا يأتون في عطلة الصيف من عدد من الأقطار العربيّة لخوض تجربة تدريب عسكري أوّلي والقيام بسياحة ثوريّة في جنوب لبنان، اختار الغبرا أن يبقى في لبنان لسنوات وأن يتلقّى تدريبات قاسية أهّلته لمواقع قياديّة عسكريّة في جنوب لبنان. وبعيداً عن البطولات الزائفة والتبجّح المقيت الذي ينطق به عدد من قادة تيّار الحريري في لبنان من الذين كانوا قبل عقود طويلة من زوّار النضال العربي والفلسطيني، فإن سرديّة الغبرا متواضعة ومحافظة (من منظور علم النفس) ومحدودة. كان صاحبنا من متخرجي أفضل مدرسة في حركة «فتح»: أي مدرسة «السريّة الطلابيّة» و«كتيبة الجرمق». وحركة «فتح» هي ــ كما أرادها ياسر عرفات ــ مجموعة متنوّعة من التنظيمات المتحاربة أو المتوائمة موسميّاً ومن الدكاكين. أحسن عرفات إنشاء وتمويل الدكاكين وذلك لاختراق ساحات متعدّدة ولاحتوائها والسيطرة عليها عن بعد. كما أنه أراد زعزعة التماسك في عدد من التنظيمات ــ بما فيها تنظيمه هو ــ عبر تشظيتها إلى فصائل متنازعة. والفضل في تجربة «السريّة الطلاّبيّة» أو «كتيبة الجرمق» يعود لقادة مناضلين مجهولين ــ وهم مجهولون لأنهم فضّلوا العمل السرّي ونبذوا الأضواء وابتعدوا عن مباهج الثورة في عزّها. لم يكن هؤلاء من مدرسة أبو الزعيم (مبعوث النظام الأردني في جسم الثورة الفلسطينيّة ــ نسي البعض أن عطالله عطالله انشقّ هو الآخر عن حركة فتح بعد 1982 وبأمر من المخابرات الأردنيّة المُشغّلة). واحد من مُرشدي المناضلين الصامتين الطهرانيّين هو قائد فلسطيني غير معروف: منير شفيق (في اسمه الحركي).
منير شفيق كان من أبرز منظّري تطبيق الماويّة على الواقع الفلسطيني في السبعينيات: هو الذي طلع بخطاب التناقض الثانوي والرئيس، والذي بناءً عليه سوّغ ياسر عرفات لسياسة عدم تثوير الأوضاع في الدول العربيّة. إن الشعار الفتحاوي «كل البنادق نحو العدوّ الإسرائيلي» كان شعاراً مخادعاً لأن لا البنادق توجّهت بالفعل في نطاق خطة ثوريّة للتحرير ــ باستثناء عمليّات استعراضيّة كان عرفات يستخدمها لأغراض سياسيّة وماليّة ــ ولا الأنظمة العربيّة توقّفت للحظة عن التآمر على القضيّة الفلسطينيّة، وغالباً بالتنسيق مع العدوّ الإسرائيلي (خصوصاً في لبنان والأردن). وعكست تحوّلات منير شفيق الأيديولوجيّة (والتي عكست بدورها تحوّلات تلميذه النجيب، عادل عبد المهدي) تحوّلات المناخ الشعبي العام: من ماركسي ماوي إلى إسلامي إلى قومي عربي ــ إسلامي. لكن مدرسة شفيق كانت قدوة في العمل الثوري الدؤوب والنظيف والنقي والنزيه والجاد. استقطب شفيق حوله مجموعة من خيرة الرجال، وتعرّض الكثير منهم للاغتيال أو مات شهيداً في مواجهة أعداء الثورة. وكان منير شفيق من أنصار تحييد الثورة عن الحرب الأهليّة وذلك تركيزاً منه على «التناقض الرئيس». طبعاً، إن تطبيق النظريّة الماويّة في الفصل بين أصناف التناقضات كان خير معين للأنظمة العربيّة في تآمرها ضد الثورة. لهذا فإن أبو جهاد لم يكن أبداً (هو وغيره في القيادة العسكريّة في حركة «فتح») في وارد التصدّي العسكري الجدّي للتدخّل العسكري للنظام السوري في عام 1976 إلى جانب القوّات الانعزاليّة (يطربني هذا التوصيف للقوّات الفاشيّة لما يحدثه من إزعاج في أسماع من يسخر من اللغة الخشبيّة ومن ينطق باللغة النفطيّة، أو الغازيّة هذه الأيّام).
لكن هناك الكثير عن دور المقاومة الفلسطينيّة في الحرب الأهليّة مما لا يزال خافياً في المراجع عن تلك الحرب. مقولة حماس أو إقدام المقاومة الفلسطينيّة على خوض الحرب هي مقولة باطلة ضخّها إعلام الكتائب الإسرائيليّ التوجّه منذ 1975. على العكس من ذلك: كانت تنتاب عدداً من التنظيمات الفلسطينيّة إرادة حديديّة بالتمنّع عن خوض الحرب خصوصاً في صفوف حركة فتح. حتى ياسر عرفات كان دائماً ممانعاً لدخول الحرب الأهليّة ــ على عكس ما يُصوّر في الإعلام اللبناني ــ وكان كمال جنبلاط يشكو دوماً من مماطلة وتسويف ياسر عرفات بالنسبة إلى صفقات الأسلحة والتمويل ومدّ الحركة الوطنيّة بالمقاتلين (يروي كلوفيس مقصود بعضاً من طرائف تلك الاجتماعات بين عرفات وجنبلاط). ومن المعروف أن معظم أجنحة حركة فتح كانت ترفض بشدّة دخول الحرب الأهليّة: وحدهم أبو صالح وناجي علّوش وبعض اليساريّين فيها كانوا من دعاة المشاركة الفعليّة في الحرب من أجل كسر شوكة اليمين. كان أبو صالح ينتظر خروج عرفت من لبنان كي يأمر مدفعيّة فتح بقصف المنطقة الشرقيّة وكي يمدّ الحركة الوطنيّة بالمزيد من الدعم العسكري. ويروي الغبرا بدقّة وأمانة عن الحوارات والنقاشات في داخل صفوف الحركة عن دور المقاومة في لبنان.
هذا لا يعني أن وجهة نظر التمنّع الفتحاويّة كانت صواباً. على العكس: كان جورج حبش وجبهة الرفض بصورة عامّة على حق. كانوا يرون مبكّراً أن الكتائب والأحرار تشنّان حرباً بالوكالة عن العدوّ الإسرائيلي، وأن من الضروري كسر شوكتها وتغيير ميزان القوى على الأرض وبسرعة كي لا تطول الحرب. كانت وجهة النظر هذه طبعاً الأصوب، خصوصاً وأن وجهة نظر عرفات في الحفاظ على ميزان القوى المنقسم بين «شرقيّة» و«غربيّة» أطال من سنوات الحرب. ثم لو أنّ المقاومة انخرطت في الحرب وبقوّة مبكّراً لما كان حصار المخيّمات وتطبيق المشروع الإسرائيلي الكامن في القضاء على المخيّمات الفلسطينيّة وفي التطهير العرقي ــ الطائفي قد تحقّق ربما. كانت جبهة الرفض تقول إنّ الحرب وإن كانت لبنانيّة في الأساس، فإنها قوميّة ــ أمميّة في أبعادها الظاهرة والمستترة. كما أن الكسر المُبكّر لشوكة القوى الانعزاليّة ــ وكان هذا ممكناً لو أن عرفات دفع بقوّاته كلّها إلى المعركة ــ كان أفشل مخطّط النظام السوري في إنقاذ القوى الانعزاليّة من الهزيمة الساحقة. ما كان لظاهرة بشير الجميّل أن تزدهر لو أن المعركة الكُبرى وقعت عام 1975، خصوصاً أنّ الجيش اللبناني خاض بثقله الحرب في صف القوى الانعزاليّة (كيف ننسى دور ميشال عون، الحليف السرّي لبشير الجميّل، في الحرب ضد المخيّمات؟).
لكن رواية الغبرا تغوص في تجربته في جنوب لبنان. وتجربته المُبكّرة في الكثير من الجمال الثوري: يذكّرنا كيف كانت الثورة الفلسطينيّة تستقطب عرباً من المشرق والمغرب ومن دول الخليج، وكانت تستقطب من جميع الطوائف والمذاهب ــ كان ذلك قبل زمن الفتنة السعودي ــ القطري. كانت الهمّة الثوريّة تستقطب الشباب العربي المتحفّز على النضال بعد هزيمة 1967 القاصمة الظهر. تلك التجربة في القوميّة العربيّة الفعليّة ــ والبعيدة عن قوميّة التفسّخ والشعارات والقمع البعثيّة ــ كانت رائدة وقوّت من عضد الثورة الفلسطينيّة. إن تنوّع العناصر القطريّة في الثورة الفلسطينيّة كان من عوامل نجاح انطلاقتها وثرائها الفكري والعملي. لكن أبو عمّار (وأبو مازن) عملا على فصل العمل الفلسطيني عن الشعب العربي تحت ذلك الشعار الزائف عن «القرار الفلسطيني المُستقلّ» الذي رفعه من سخّر القضيّة الفلسطينيّة مطيّة لأنظمة النفط العربيّة. حتى في المهاجر، فصل أبو عمّار وأبو مازن (كما روى إلياس شوفاني عن تجربته) العمل الطلابي الفلسطيني عن العمل الطلابي العربي العام. هل يقدّر اللبنانيّون أن هناك فلسطينيّين دافعوا عن أرض لبنان بوجه العدوان، فيما كان الجيش اللبناني (وفق عقيدة فؤاد شهاب التخاذليّة والاستسلاميّة والمتآمرة ضد مصلحة القضيّة الفلسطينيّة) يتنصّل من مهمّة الدفاع عن الوطن بوجه عدوان إسرائيل؟ أنا ــ ومن أنا، صراحة ــ كتبتُ إلى شفيق الغبرا بعدما قرأت كتابه وأعلمته أنني مدين لفلسطيني هُجّر من أرض أجداده حيث ترك حياة الرفاهية في الكويت ليدافع عن أرض أجدادي أنا في جنوب لبنان. هذه المرحلة عن عمل المقاومة الفلسطينيّة في جنوب لبنان تأخذ حيّزاً من رواية الغبرا وهي تدحض الكثير من الروايات الكتائبيّة عن الحرب، مع أن المؤلّف كان جد متحفّظ في نقده للأحزاب الفاشيّة اللبنانيّة، ربما كي يبدو منصفاً طائفيّاً لقرائه.
يتحدّث رشيد الخالدي (في كتابه «تحت الحصار» عن تجربة صنع القرار في قيادة منظمة التحرير اثناء الحصار الإسرائيلي في عام 1982) عن توصيف ماو تسي تونغ للسمكة والماء، في العلاقة بين الثورة والجماهير. وكان رشيد صائباً في استنتاجه أنّ الثورة كانت عطشى إلى الماء بعدما ساءت علاقتها مع الجماهير، خصوصاً في جنوب لبنان حيث احتفى الكثير من سكّانه بالغزو الإسرائيلي ظنّاً منهم أنه سيأتي لهم بالنعيم و«الخلاص» (لا ينفذ من شعارات الخلاص إلا الاحتلال والفاشيّة عادة). ويتحدّث الغبرا بتفصيل عن طبيعة العلاقة بين الناس وبين الثورة في جنوب لبنان. وللأسف فإن تجربة «كتيبة الجرمق» في العمل الثوري النزيه والنقي كانت الاستثناء في حركة «فتح»، التي فتحت أبوابها أمام أمثال أبو الزعيم وكايد والحاج إسماعيل الذين ساهموا في استعداء أهل الجنوب. لكن أهل الجنوب، بدورهم، ظلموا الثورة وظلموا الشعب الفلسطيني برمّته عبر تحميله وحده مسؤوليّة موبقات الثورة. نسي أهل الجنوب (أهلي، لحمي ودمي) أو تناسوا أن لبنانيين في كل القرى كانوا منضوين في صفوف مختلف تنظيمات الثورة وأنّ بعض هؤلاء اللبنانيّين (الذين كانوا يتلقّون مرتّبات من تنظيمات الثورة) له نصيبه مما يُسمّى التجاوزات والاعتداءات التي خلقت الأجواء المؤاتية لتقبّل عدوان إسرائيل عند بعض الأهالي. كما أن إعلام «صوت لبنان» (الكتائبي العقيدة والإسرائيلي التوجيه) كان ذكيّاً في تعبئة الرأي العام اللبناني ضد المقاومة وضد الشعب الفلسطيني وفي تحميل الفلسطينيّين مسؤوليّة الحروب والتجاوزات والكوارث والأعاصير والرياح والزلازل في لبنان. لم يكترث عرفات لما كان يرده من تنامي النقمة في أوساط أهل الجنوب: كعادته، كان يضيق ذرعاً بأي نقد يطال أداءه هو أو حتى أداء «العمود الفقري» للمقاومة الفلسطينيّة.
إن الجيل الذي كتب عنه شفيق الغبرا هو بالفعل جيل «الأحلام والإخفاقات». لكن إخفاقات من؟ كانت هناك أحلام ثوريّة عمت أرجاء الوطن العربي بعد الهزيمة الماحقة في 1967، وهذه الأحلام هي التي دفعت قدماً بانطلاق المقاومة المُسلّحة ضد إسرائيل. لكن الإخفاقات كانت إخفاقات أنظمة ومنظمّات وليست بالضرورة إخفاقات جيل، إلا إذا أراد المرء الاستعانة بالإخفاقات الحقيقيّة لتسويغ استدارات وتحوّلات فكريّة وإيديولوجيّة ترافقت مع منافع ماديّة. تدرك في قراءة تجربة الغبرا ان المقاومة الفلسطينيّة ضمّت في صفوفها مقاتلين أشدّاء، لا يقلّون كفاءة عن مقاتلي حزب الله الذين شكّلوا أفضل تجربة قتاليّة ــ حتى يومنا على الأقلّ ــ ضد العدوّ الإسرائيلي. لكن تجربة حزب الله نجحت على مستوى القيادة والإدارة والتنظيم والتدريب وفي وضع آفاق العمل العسكري ــ السياسي نحو خطة محكمة لمقاومة العدوّ ولتحرير الأرض. إن قيادة منظمة التحرير قصّرت (وعن قصد) في إدارة دفّة الثورة لأنها لم تكن جديّة في طرح شعار الثورة الذي لم يكن إلا وسيلة خطابيّة إعلانيّة لتحريك المفاوضات الديبلوماسيّة. ياسر عرفات لم يقصّر فقط، بل هو أحبط كل الخطط الجديّة لنشر قوّات المقاومة في الجنوب بناء على أسس ثوريّة، وليس التجميع العشوائي للمقاتلين. لم يكن لدى القوّات العسكريّة لـ«العاصفة» خبراء لغة عبريّة كما لحزب الله الذي استحدث لقوّاته مدرسة خاصّة لتعلم اللغة العبريّة. هكذا تبرز الجديّة في العمل التحريري، والذي يظهر جليّاً في متحف «مليتا».
حفلت تجربة الغبرا بسنوات الحرب والاجتياحات والآمال التي سرعان ما تبخّرت. لكنها أيضاً حملت الخيبة لبعض حاملي الآمال السابقين. لكن ما هي عبر ودروس المرحلة؟ هل تكمن هي في السعي لنيل فصوص حكَم مجالس آل الصباح كما يظهر في كتاب الغبرا؟ هل تكمن في نبذ الكفاح المُسلّح من أساسه، مع أن الكتاب يحمل بين دفّتيه قرائن عن جدوى الكفاح لو توفّرت الإرادة والقيادة والعزيمة؟ هل هي تكمن في النظر إلى المناظرات التلفزيونيّة مع صهاينة على أنها أجدى لتحرير فلسطين؟ إن الخيبات لم تكن حتميّة وليست هي نهائيّة في معركة ستطول أو ستقصر (بناء على المعطيات الذاتيّة والموضوعيّة ــ كما كان يرد في أدبيّات قديمة لمنير شفيق) لكنها لم تنته بعد. هل نواجه العنف الإسرائيلي بالوداعة والسلم والديبلوماسيّة؟ ألم تجرّب الأنظمة العربيّة ذلك لعقود وفشلت فيه أيما فشل؟ ماذا أعطى العدوّ الإسرائيلي بالديبلوماسيّة، مقارنة بما أعطاه مُكرهاً في جنوب لبنان عندما طُرد طرداً مُذلولا وحيث أصبح الجنوب للمرّة الأولى منذ الخمسينيات في منأى عن الاعتداءات الدوريّة للعدوّ؟ إن العدوّ الإسرائيلي يمتنّع عن الاعتداء على جنوب لبنان ليس خوفاً من الجيش اللبناني ولا خوفاً من قوّات أحمد الأسير أو الجماعة الإسلاميّة. هل نأخذ بآراء سمير عطالله (الحائز من شيخ دبيّ على جائزة «أفضل كاتب صحافي ــ يا لفخر الصحافة في زمن النفط والغاز) الذي يحمّل العرب مسؤوليّة شهداء الثورة الجزائريّة ويقول في جريدة «النهار» قبل أيّام: «لم يستطع هدى الإسلام أن يحرّر النفس العربية من النزعة إلى القتل» (ألا يمثّل كلامه هذا في جريدة امتهنت الرجعيّة والعنصريّة وعبادة الرجل الأبيض تقليداً مبتذلاً لإسقاطات الاستشراق التقليدي؟).
تحمل الأجيال العربيّة، على قول كارل ماركس، أثقال أجيال سبقتها. لكن عبء الأثقال ينوء أو يخفّ بناء على خيارات فرديّة للإنسان العربي. والمرحلة الحاليّة يُراد منها تطويع هذه الأجيال، وتطويع أجيال لم تأت بعد بغرض خدمة التآلف بين المشروع الصهيوني وبين مشروع سيادة أنظمة النفط والغاز. لكن، ألا يمكن أن يشكّل هذا العامل حافزاً على العودة إلى خيارات لم تُستنفد بعد. ماذا لو نسفنا مقولة منير شفيق القديمة عن ضرورة التمييز بين التناقض الثانوي والتناقض الرئيس؟ أليس التناقض الثانوي اليوم رديفاً وحليفاً للتناقض الرئيس؟ كما أن صاحب نظريّة تصنيف التناقضات، الرفيق ماو، قال أيضاً (في «تقرير عن استقصاء الحركة الفلاحيّة في هونان») إن: «الثورة ليست حفلة عشاء، أو كتابة إنشاء، أو رسم لوحة، أو تطريزاً، وهي ليست منمّقة جداً أو متراخية أو رقيقة أو منضبطة أو لطيفة أو مهذّبة أو مُقيّدة أو شهمة. إن الثورة هي حركة تمرّد وعمل عنفي تطيح من خلاله طبقة بأخرى».
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)