بعد انفضاح أمر «الديموقرطية التركية» وتبيّن مدى التصاقها بمفهوم مزاولة السلطة من موقع طبقي جاء دور «الديموقراطية المصرية» الوليدة. أيضاً حسناً فعلت الكتلة الثورية هناك بتقريبها موعد 30 حزيران، لكي لا يكون لدينا مزيد من الأوهام حول ما يمكن أن تفعله هذه «الديموقراطية» حتى تبدو ديموقراطية أكثر، أو قادرة على استيعاب الفعل الاحتجاجي بشكله الجديد! ثمّة من وضع خريطة طريق مماثلة لأردوغان في حين لم يكن الرجل قد فرغ بعد من تقيّؤ كلامه الهزلي عن المؤامرة والخونة والمخرّبين، ومن إيكال أمر هؤلاء جميعاً لعصا شرطته و«كلابه» البوليسية.
بالنسبة إلى أصدقائنا النيوليبراليين سيبقى الرجل ديموقراطياً مهما فعل، ومهما تجوّفت «ديموقراطية» نظامه، فالأساس هنا يبقى الاحتكام إلى معيارية المقارنة ببشار الأسد وسلطته. مرسي لم يعد في هذا الوارد منذ صدر الأمر السعودي بإخراجه من جنّة الديموقراطيات التي أتت بها «الثورات العربية» (أشعر بالتقزّز عندما يتلفّظ الاعلامان السعودي والإيراني بهذه الكلمة).
من المناسب بالنسبة إلينا أن تتعامل النيوليبرالية المهيمنة مع حركة الانتفاض على هذا النحو، فهي لم تنفضح للمتابع العادي وغير المتعمّق بالضرورة في الشأن الثوري كما تفعل الآن، ولم تشهد ارتباكاً مماثلاً في التعاطي مع الواقع منذ غزو العراق على الأقلّ. هذا واضح من طريقة تفسيرها للمشهد المصري الذي لم يعد يعبأ بالشرعية الانتخابية أو بأيديولوجيا الصندوق، وبات يتعامل معهما مضطراً إلى حين زوال السلطة التي تحول بينه وبين ممارسة أشكال أخرى من الديموقراطية. سيكون صعباً على النيوليبراليين التكيّف مع ما يحدث هذه المرّة، فالهزيمة هنا ليست قليلة بالقياس إلى المكاسب التي ضاعت منهم أثناء الانتقال بالثورة من ضفّة إلى أخرى.
يكفي أنّ الاحتجاج الآن قد بات في معيّة الطبقة الوسطى بالكامل، وهي ستجرّ بدورها طبقات أخرى إلى المواجهة مع النظام، بما يضمن حدوث تغيير لن يطاول شكل السلطة فحسب، وهو ما يحرص عليه النيوليبراليون، بل جذرها أيضاً. لقد جرّب هذا الأمر أكثر من مرّة في مصر، واتّضح أنه ناجع فعلاً ليس في مواجهة السلطة فقط، بل في مواجهة أذرعها المحلية كذلك. في البداية كانت المصانع هي مسرح هذه المواجهات، ثم انتقلت لاحقاً إلى مديريات الأمن (بورسعيد)، والآن تحطّ رحالها في المحافظات (الغربية، المنوفية، الأقصر، القليوبية، الإسماعيلية... الخ) التي نصّبت فيها السلطة محافظين من الإخوان وحلفائهم. لنقل إنّ المصريين يجرّبون حظّهم قبل 30 حزيران في مزاولة الديموقراطية على نحو مباشر، وإذا حاولت السلطة اعتراضهم فسيكون عليها اختبار نموذج بورسعيد في كلّ مرة تفعل فيها ذلك. حينها أخرجوا بالكامل من المحافظة ــ أي الإخوان بوصفهم السلطة القائمة ــ هم وذراعهم الأمنية المتمثّلة بوزارة الداخلية، إلا أنّهم لم يتّعظوا ممّا جرى لها وثابروا على تكريس حالة الاستقطاب العمودي داخل المجتمع ظنّاً منهم أنّها ستكون عائقاً أمام التمدّد الأفقي (اقرأ: الطبقي) للحالة الاحتجاجية. وهذا هو بالضبط ما واجهه ملهمهم العظيم أردوغان حين اكتشف أنّه إزاء تشكّل طبقي لا تنفع معه الأساليب التقليدية في الاحتواء. حتّى أسلوب السّحق الذي اتّبعه في مواجهة المحتجّين بدا نافلاً وغير ذي جدوى، لأنّه كما تلاميذه في مصر لا يعرف مع من يتعامل، أو كيف يواجه أناساً لم يبقَ شيء لتحدّيه إلّا وجرّبوه. خذوا مثلاً الاحتجاج الإيمائي البديع الذي تفتّقت عنه عبقريتهم أخيراً بعدما جرّب الرجل كلّ شيء لإسكاتهم.
يضاف إلى ما سبق أنّ مصر تعيش بخلاف تركيا حالة من التجذّر في أشكال ممارسة الاحتجاج. ففضلاً عن الشكل الاعتراضي البحت الذي تعبّر عنه احتجاجات الأطباء والمعلّمين والمثقّفين والفنّانين و...الخ. هنالك الإدارة الذاتية التي باشرتها الطبقة العاملة للمصانع في أكثر من موقع. الطبقة هنا تنقل بوصفها هويّة للجماعة السياسية الاحتجاج من ضفّة إلى أخرى. من كونه فعل اعتراض على تلكّؤ السلطة (بالأحرى ضلوعها في بيع المصانع وخصخصتها) في إدارة هذه المرافق إلى دحرها والحلول محلّها ريثما تسقط بالضربة القاضية ويصبح ممكناً بالتالي إدارة المصانع والمعامل على نحو أكثر ديموقراطية. والحقيقة أنّ الأمر هنا كان قد بدأ مبكّراً، أي قبل وقت طويل من ولادة حركة «تمرّد» ومباشرتها جمع التواقيع لسحب الثقة من مرسي ونظامه. وهذا يعكس على نحو معيّن حالة القطيعة التي باشرتها قطاعات متعاظمة من المجتمع المصري مع النظام وطبقته المسيطرة.
صحيح أنّ الاحتجاجات العمّالية والقطاعية كانت هي السبّاقة إلى ذلك، إلا أنّها سارت بالتوازي مع انخراط قطاعات متزايدة من الطبقة الوسطى العليا في الفعل الاحتجاجي الجذري ضدّ السلطة. سيمرّ وقت طويل قبل أن يدرك هؤلاء أنّ تأخّرهم في الالتحاق بالانتفاض ــ في شكله الحالي ــ كان ضرورياً، إذ كان عليهم أن يمتحنوا مرسي وجماعته، وأن يصوّتوا له أيضاً، ولو لم يفعلوا ذلك لما تجذّرت لديهم الرغبة في القطيعة، ولما بدوا على هذا القدر من الوعي الذي يظهر من تماهيهم مع حركات الديموقراطية المباشرة التي تعبّر عنها الآن حركة «تمرد». في العامين الماضيين اقتصر هذا التعبير على العمّال وحدهم، وبدا لوهلة أنّ المجتمع بطبقاته المختلفة قد انصرف عنهم لتدبّر شؤونه بعد «الثورة». وهو انطباع صحيح بالنسبة لتلك المرحلة فقط، أمّا الآن وبعدما تبيّن للطبقات تلك استحالة العيش بدون أخذ الأمر باليد والشروع بعملية تغيير معقّدة تصعد من تحت إلى فوق فقد تغيّرت الصورة كثيراً، وتغيّر معها وعي الفرد لذاته ولطبقته الاجتماعية التي يخوض عبرها معركته الجديدة ضدّ النظام. وما سيترتّب على هذا الوعي الجديد ليس بالقليل أبداً،فالنظام الآن لم يعد في مواجهة احتجاجات قطاعية يمكن التعامل معها بالقطعة، وبالتالي بات من الصعب عليه مواجهة توسّع رقعة الاحتجاج أفقياً على هذا النحو. قبل ذلك كان قادراً على احتواء الأمر لأنّه لا يواجه مجتمعاً ينتفض من أجل مكتسباته ولقمة عيشه، وهذا ما لم يعد ممكناً بعد تفاقم أزمات الوقود والأسعار والمياه والكهرباء و... إلخ.
نعرف أيضاً من المعايشة لأزمات مماثلة أنّها لا تفرّق عادة بين الفقراء والأقلّ فقراً أو بين الطبقة الوسطى والطبقات المفقرة والمهمّشة، ولأنها كذلك فقد باتت عاملاً إضافياً في تعميق أزمة النظام مع الكتلة الأكبر والأكثر تأثيراً من الشعب المصري.
هذه الكتلة بالتحديد هي التي تحتجّ أكثر من غيرها على تعيين المحافظين التابعين للإخوان، وهي التي سمحت كذلك بمهاجمة مقارّ الجماعة وحرقها في أكثر من محافظة، وإذا استمرّت السلطة في استفزازها فستفعل أكثر من ذلك. يرجّح أيضاً ألّا يقف غضبها عند حدود معينة هذه المرّة، فالتراكم الحاصل لدى الناس ليس أمراً يسهل التعامل معه أو ضبطه.
من يتابع تفاعل هؤلاء مع الاشتباكات المتنقّلة حالياً بين الثوريين ومن ورائهم الأهالي والإخوان فسيكتشف أنّ «العنف» ضدّ تمثّلات السلطة ولو كانت أهلية لم يعد ممكناً فحسب بل بات هو الذي «يحكم الاحتجاجات الأخيرة ويؤجّجها». سيصعّب ذلك طبعاً من انخراط الفئات المعارضة التي تعوّل على «السلمية» كإمكان وحيد «لإسقاط النظام»، وسيسمح للإخوان والاسلاميين المتحالفين معهم بالتعويل على العنف كطوق نجاة من مأزق 30 حزيران، غير أنّ الاعتراف بالأمر الآن أفضل من «اكتشافه» عشيّة التحضير للتظاهرة الكبرى. عندها سيكون الأوان قد فات لتدارك الأمر أو إنكاره، فما دام العنف قد وقع وانتهى الأمر فلا بدّ من الاعتراف بوقوعه أوّلاً، ومن ثمّ محاولة تنظيمه في مواجهة السلطة، تماماً كما يفعل المصريون الآن مع الفوضى الحاصلة لديهم. كلّ الخسائر الجانبية التي ستلحق بالاحتجاجات من جرّاء ذلك قابلة للتدارك طالما أنّ الكتلة الأكبر التي ستنزل للتظاهر ضدّ الإخوان متمسّكة حتّى النهاية بسلمية الاحتجاج ورافضة لاستدراجها إلى العنف من جانب السلطة. لا تناقض أصلاً بين اغتباط هؤلاء برؤية الحرائق وهي تأتي على مقارّ الإخوان وتصميمهم على إخراج مرسي من القصر «سلميّاً». على الإخوان أن يفهموا هذه المرّة أنّهم إزاء حامل اجتماعي عريض، وأنّ التآكل الذي أصاب سلطتهم كبير إلى درجة أنّ الطبقة الوسطى ــ وهي قد غطّتهم سابقاً ــ لم تعد مستعدّة لتغطيتهم بعد الآن، وإذا خيّرت بين بقائهم بدون عنف وذهابهم مع احتمال ممارسة البعض منه فستختار الاحتمال الثاني.
هي تفعل ذلك الآن بالفعل، وتجرّب على طريقتها إفهام السلطة بأنّها ستزاول كلّ أنماط الاحتجاج الممكنة قبل حلول موعد الثلاثين من حزيران. من كان يتوقّع حصول ذلك قبل مجيء الإخوان إلى السلطة؟ حتى في عزّ الانتفاض ضدّ مبارك وضدّ المجلس العسكري من بعده بقيت هذه الطبقة بمنأى عن الفعل الاحتجاجي، ومن انخرط منها في الاحتجاجات كان يفعل لأنّه يعتبر منفصلاً عنها طبقياً. بكلمة أخرى هو متماه أكثر مع المهمّشين والفقراء الذين كانوا حطب الموجة الأولى من الانتفاض في مصر. وحين نتكلّم عن الديموقراطية المباشرة التي عاودت حركة «تمرّد» مزاولتها من حيث وصلت عمّالياً نكون إزاء حالة يقع هؤلاء الأفراد المنتمون إلى الطبقة الوسطى سابقا في صلبها. هذه الحالة لا تحبّذ ممارسة العنف ضدّ السلطة عادة، وإذا فعلت فبشكل اضطراري ولدفع العنف الذي يقع عليها من السلطة وقاعدتها فحسب ــ كما سبق أن ذكرنا ــ. ولأنّها غير عنفية بطبيعتها فهي قادرة بالتالي على استقطاب من لم ينخرط في الاحتجاجات بعد خوفا من الفوضى أو من التحلّل الاجتماعي. أرجّح شخصياً أن ينخرط هؤلاء «المتردّدون» بكثافة غير مسبوقة، فالطبقة الوسطى لم تعد تخشى من العنف مثلماً كانت تفعل في السابق، وباتت تتعامل معه كما يجب أن يعامل: أي كنتاج للسلطة ومنهجها فحسب. هذا النّسق من الوعي سيسهّل على «الطليعة الثورية» التي تقود الاحتجاجات الآن مهمّتها في توسيع رقعة التظاهر، وذلك يعني أنّ الديموقراطية المبتغاة ثورياً ستصبح ممكنة أكثر، فكلّما توسّعت الرقعة ازدادت قدرة الثوريين على مزاولة الديموقراطية المباشرة. إذ لا تحتاج هذه الأخيرة كي تصبح في متناول الشريحة الأكبر من المصريين إلّا إلى حامل اجتماعي يستطيع أن يعبّر عن نفسه في مواجهة السلطة بدون خوف أو وجل. وهذا ما حقّقه عمّال مصر الشجعان «على نحو جزئي»، قبل أن يصبح الآن في حضرة آخرين يحاصرون محافظي الإخوان المعيّنين ويمنعونهم من ممارسة سلطتهم. هؤلاء وأولئك باتوا على علم بما تتيحه الديموقراطية الفعلية غير الصّورية عندما تتوسّع وتصبح في متناول الشعب، «كلّ الشعب». الأرجح كذلك أنّ من سينزل ليسقط مرسي وسلطته في 30 حزيران ليس أقلّ شأناً ممّن أدار المصانع حين تركت نهباً للسلطة و«رأسمالية المحاسيب» ــ لا ينفكّ عبد الحليم قنديل يردّد هذه العبارة ــ، أو ممّن وضع فيتو شعبياً على تعيين عملاء للسلطة في أماكن لا سلطة لهم عليها. في الحالتين مورست الديموقراطية على نحو موضعي، أمّا الآن فهي في متناول طبقتين على الأقلّ، وهذا ما يقلّل من احتمالات الإخفاق في إدارتها. أيضاً سيتوارى «العنف» المجابه لعنف السلطة إذا كانت الحلقة الجاهزة لاحتضان ممارسيه (وهؤلاء طليعة فحسب) كبيرة. من يعلم، قد لا يكون هنالك حاجة إليه من الأساس. من يحتاج إليه أصلاً في ظلّ وجود طبقتين على الأقلّ في الشارع؟ اسألوا علاء عبد الفتّاح.
* كاتب سوري