كأن قدر السوريين أن يخرجوا من إحباط ليدخلوا في نفق إحباط آخر وضعوا عليه آمالهم في الخلاص من الحرب، والقتل، والتدمير، والمهانة، وتشظي البلاد بين أمراء النظام الفاشي، وأمراء المجموعات الدينية المسلحة الفاشية!الأمل الذي مثّله إعلان جنيڤ (30/6/2012) لم يعط السوريين غير الفضول في متابعة المداولات والتصريحات والمناورات... التي لم تفضِ الى شيء، بينما وضع البلاد والعباد يزداد خراباً فوق خراب، ليس آخره حصار المدن مثل الزبداني ومضايا ودير الزور وموت السوريين منهم جوعاً وعطشاً، دافعين أبهظ الأثمان في صراع طرفين لا يمثلان لهما أي أمل في الحاضر والمستقبل.
مرت البلاد بعدها بما يزيد عن سنوات ثلاث عجاف، حاول فيها كل طرف حسم الصراع عسكرياً في ظل تصريحات دولية منافقة عن مخرج سياسي، في الحين الذي كان كل طرف دولي يدعم عسكرياً ومالياً حليفه المحلي في الصراع، ووصل الأمر إلى الانخراط العسكري المباشر لأطراف دولية وإقليمية! غير أن كل ذلك رغم كلفته الباهظة جداً على السوريين لم يفضِ إلى حسمٍ؛ فالصراع كما قلنا منذ الأشهر الأولى لاندلاع الأعمال المسلحة يحتاج إلى حل سياسي، وليست محاولات الحسم العسكري إلا وهماً سيؤدي استمراره إلى تدمير سوريا مجتمعاً ودولة ومقومات عيش... للأسف فإن هذا ما أكدته كل الوقائع العيانية على أرض الصراع منذ ذلك الوقت.
والآن نحن أمام أمل جديد يلوح للسوريين بعد مؤتمر ڤيينا 1 وبعد مؤتمر ڤيينا 2 (30/10/2015) والذي جاء مؤتمر الرياض للمعارضة تنفيذاً لاتفاق جميع الأطراف الدولية والإقليمية فيه.
إن التصعيد العسكري
من طرف، سيجرّ
تصعيداً مقابلاً

مستجدات الصراع

غير أن هذا الاتفاق لم يكن صحوة ضمير دولي، أو حرصاً على مصير الشعب السوري! فلقد جاءت قرارات ڤيينا 2 بعد أحداث ثلاثة لها ثقل وازن في الحرب المعلنة في سوريا.

1. داعش:

صعود داعش السريع إلى واجهة الأحداث، وإعلان دولته في الرقة (30/6/2014)، والذي سيطر فيه على قطاعات واسعة من الأرض السورية والعراقية في زمن قياسي، قارضاً من نفوذ النظام، ونفوذ العديد من المنظمات المسلحة، وفارضاً بؤرة للإرهاب الدولي لها أرض، وسلطة، وقدرات عسكرية وتمويلية استثنائية، والذي أثار كل العالم بما أظهره من وحشية قروسطية لا نظير لها. غير أن هذا الوحش الذي كان قد صُنّع أميركياً وسعودياً هو ومنظمته الأم «القاعدة» أصبح يشكل خطراً على الغرب عموماً، وعلى أوروبا بصورة مباشرة بسبب نفوذ التنظيم في أوساط العديد من أبناء الجاليات المسلمة فيها، وأيضاً بسبب العمليات التي قام بها في أكثر من بلد أوروبي مثل فرنسا. هذا الخطر دفع الغرب إلى تعديل سلم أولوياته بالنسبة الى الصراع في سوريا، فانتقل من أولوية: إسقاط النظام ورأسه عسكرياً، إلى: محاربة الإرهاب أولاً.

2. التدخل الروسي:

أما الحدث الآخر الذي شكّل عامل دفع باتجاه اتفاق ڤيينا 2، فهو التدخل العسكري الروسي، والذي جاء لنصرة النظام، بعد أن تم خلال السنوات الماضية استنفاذ كل فرص الحسم العسكري لصالحه! والذي لم ينفع فيه الإنخراط العسكري لحزب الله، ومن ثم النظام الإيراني والميليشيات الطائفية. في الحين الذي أظهرت فيه وقائع الأعوام الثلاثة الماضية التراجع العسكري البطيء والمتواصل للنظام تجاه المجموعات المسلحة، وهو الأمر الذي أوحى للأميركيين وحلفائهم السعوديين والقطريين والأتراك، بأن إطالة عمر الصراع يسير لصالحهم، لصالح الحسم العسكري ضد النظام... وعامل الزمن هذا هو بالضبط ما لحظه دون ريب حلفاء النظام الروس، ما حدا بهم إلى حسم قرارهم والتدخل بطيرانهم مباشرة في الصراع، منطلقين من الأهمية القصوى لسوريا بالنسبة الى نفوذهم ومصالحهم في المنطقة عموماً.
ومع معرفة الروس بأن الحسم العسكري مستحيل في ظل تدويل الصراع، لذا فإن مساعيهم متواصلة لإيجاد مخرج سياسي يحفظ لهم شيئاً من مصالحهم؛ فذلك أفضل في ميزان السياسة ـ كما في كل ميزان ـ من خسارة كل شيء.
ويلاحظ أن التدخل الروسي أحدث نقلة مهمة في ميزان الوضع العسكري، وقدّم شحنة عسكرية ومعنوية كبرى للنظام وقواته، ونقله من وضع الدفاع والتراجع البطيء المتواصل، إلى وضع هجومي في الكثير من المواقع. غير أن الروس يدركون جيداً أن تدخلهم لا يهدف الى حسم عسكري مستحيل، بل لتحسين مواقع النظام، ولتحقيق شيء من التوازن في المفاوضات الحقيقية بين النظام والمعارضات عندما تحصل. يؤكد ذلك إعلامهم النظام أن تدخهلم لن يتحول إلى تدخّل بريّ، وأن هذا التدخل له سقف زمني. كما يؤكد ذلك إبلاغهم رموز النظام بضرورة التغيير، ووضع دستور جديد للبلاد... إلخ.
من نافل القول إن التصعيد العسكري من طرف، سيجر تصعيداً مقابلاً من الطرف الآخر، والسنوات الخمس خير دليل. فلقد كان الصراع سورياً ـ سورياً، ثم أصبح إقليمياً (تركيا ـ السعودية ـ إيران ـ قطر ـ حزب الله) ثم تحول دولياً بتدخّل طيران التحالف بقيادة أميركية، ومن ثم بتدخل الطيران الروسي... بهذا المعنى فالتدخل الروسي مثل كل التدخلات السابقة التي استجرّ واحدها الآخر... وهو بدوره سيستجرّ تصعيداً عسكرياً مقابلاً بدأت ملامحه مع التصريحات التركية، والقطرية، والسعودية الأخيرة، هذه السيرورة لم تجلب لبلدنا إلا المزيد من القتل والخراب والتهجير، لكل هذا عارضنا هذا التدخل الخارجي مثله مثل كل التدخلات الخارجية السابقة باعتباره أمراً مرفوضاً إنسانياً ووطنياً وسياسياً، فالمواطن السوري يريد الخلاص من أتون الحرب لا الغرق فيها أكثر وأكثر!
رغم كل ما سبق فإن التدخل الروسي ربما تكون له نقطة مهمة هي إعطاءه الثقة للنظام بأن ثمن التسوية لن يدفعه هو وحده، مما يقرّبنا من مفاوضات جديّة أكثر بينه وبين مختلف قوى المعارضة.

3. موجات الهجرة:

الحدث الثالث الذي شكّل دفعاً لمختلف الأطراف الدولية للتوصل إلى إعلان عن مخرج سياسي في ڤيينا هو مسألة الضغط السياسي والإعلامي الذي شكلته الأعداد الغفيرة من السوريين الذين تركوا بلدهم أو بلدان الجوار وسلكوا كل الطرق البريّة والبحريّة الخطيرة للوصول إلى بر أمان أوروبي يُنجيهم من ويلات الحرب والموت، في أكبر كارثة إنسانية يشهدها العالم.
شكلت تلك الهجرة غير المسبوقة والتي قدرت بثلاثمئة ألف مهاجر خلال أشهر عدة مشكلة حقيقية للعديد من الدول الاوروبيّة. وعلى الرغم من الترحيب بهم في الأسابيع الأولى في العديد من الدول (وليس كلها بالطبع) إلا أن ذلك السلوك تغيّر مع الأيام، خاصة أن تلك الدول مع معرفتها بحاجتها الى اليد العاملة الأجنبية (ناهيك عن ذوي الكفاءات المهنية العالية) غير أنها تعرف أن هذه الهجرة الكثيفة شكلت، وستشكل مادةً مهمة إعلامياً وسياسياً لصعود اليمين المتطرف ذي النزعات الفاشية، ما سيخلخل التوازن السياسي ـ الحزبي في العديد من دول أوروبا، وهنا لا يجب أن ننسى أن وصول الحزبين النازي والفاشي في ألمانيا وإيطاليا، وماجرّه من ويلات على أوروبا في الحرب العالمية الثانية ما زال ماثلاً في الذاكرة الأوروبيّة القريبة.
ضغطت هذه العوامل الثلاثة، بدرجات متفاوتة على دول العالم والإقليم للذهاب باتجاه توافق دولي وتصور أولي للخروج من الحرب في سوريا، وهو توافق كان لافتاً للنظر في نصه أمران:

1-التأكيد للمرة الأولى على وحدة الأراضي السورية!
2-التأكيد للمرة الأولى أيضاً على العلمانية، كأحد أركان شكل الحكم في المستقبل.
الأمران يعكسان التخوف الغربي من داعش: فالتقسيم الذي كان أحد خيارات السياسة الأميركية في سورية والمنطقة، أصبح يشكل خطراً عليها لأنه يعني فيما يعنيه: دولة لداعش؛ أي دولة للإرهاب الدولي. كما أن الأمر الثاني يصب في القناة نفسها، حيث أن الإشارة إلى العلمانية تسعى الى قطع الطريق على دولة دينية، ربما تشكل تنويعاً من تنويعات داعش، وإن لم تك جزءاً صريحاً من مشروع تلك الدولة.

العرقلة الإقليمية

هذا على صعيد إعلان النوايا! فماذا عن التحقيق العملي لذلك الإعلان؟ فالسياسة في النهاية تصنعها الممارسات لا التصريحات! رغم أن التصريحات نفسها قد تكون جزءاً من آلية الممارسة... وفي الشأن السوري سنلحظ أن إرادات الدول الكبرى تشكل الحلقة الأهم من حلقات الوصول إلى مخرج سياسي، غير أن هناك مسافة بين تلك الإرادات وبين إرادات الدول الإقليمية والقوى المسلحة المحلية ولا شك. السياسات الإقليمية وإن كانت لا تملك القدرة على إلغاء القرار الدولي غير أنها قادرة على عرقلته إلى حين. هنا نصل الى أحد التجليات العمليّة لبيان ڤيينا 2، أي مؤتمر الرياض للمعارضة السورية، والذي شابه الكثير من النواقص عندما لم تدعَ إليه ـ بضغط تركي ـ بعض الأحزاب الكردية والإدارة الذاتية، كما لم يدعَ إليه العديد من أطراف معارضة الداخل والخارج مثل حزب الإرادة الشعبية والمنبر الديمقراطي بهدف إضعاف التيار القائل بالحل السياسي، مقابل دعوة أطراف من التيار العسكري المتشدد ـ أو الإرهابي ـ والموالي لقطر والسعودية وتركيا!
لقد تم تشكيل وفد المعارضين، وضغطت الدوحة والرياض وانقرة لتكون الكلمة الفصل في الوفد للقوى العسكرية المرتبطة بها؛ بعبارة أخرى فإن دول الإقليم اختارت إفشال جولة المفاوضات الأولى قبل بدئها، وتحويلها من خطوة أولى في آليّة الحل إلى موعد لإعلان النوايا المتشددة، مثلما حدث في مفاوضات جنيڤ2 (22/1/2014) حيث لم يترتب على تلك الجلسات أي تغيير في خريطة الصراع المسلح... واستمراره!
غالباً نحن اليوم أمام بوابة للحل السياسي في بلدنا، غير أن هذه البوابة ربما نقف أمامها زمناً طويلاً من دون الولوج إلى متاهاتها التي لا بد منها لإنقاذ بلدنا من أتون الحرب والدمار.
يقف اليوم القرار الدولي أمام تشابكات وتقاطعات وتعارضات دول الإقليم، وتعقيدات الخريطة العسكرية المحلية، ما يجبر وسيجبر شعبنا على دفع ثمن ذلك لزمن غير معلوم دماً، ودماراً، وانهياراً للقيم، واعتقالاً، وتهجيراً، وصدعاً متواصلاً في النسيج الوطني.
مهما تكن تعرجات الحل السياسي، ومهما طال الزمن في مناوراته ومساعي العرقلة فيه من مختلف الجهات، فإن الشعب السوري أُنهك في حرب السنوات الخمس، أنهك من حرب النظام عليه من جهة، ومن حرب المجموعات المسلحة من جهة أخرى، وهو يريد الخروج من أتون الدمار والقتل والاعتقال والتهجير، والمضي إلى تغيير سياسي حقيقي ينقل بلدنا من دولة القمع والقتل والاستباحة إلى دولة ديمقراطية، تعددية، تحترم المواطنين وخياراتهم، وتحتكم لهم، وتستمد شرعيتها منهم، فهم وحدهم لحمة المجتمع وسداه، وغاية الدولة.
(افتتاحية العدد الآخير من «الآن»، الناطقة بلسان حزب العمل الشيوعي في سورية)