﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (سورة المائدة، الآية 8).
خاضت التجربة الإسلاميّة في بداياتها الأولى حرب قيم حقيقيّة مع الجاهليّة، إذ بُعث رسول الله محمّد (ص) في مجتمع، الأب فيه يقتل ابنته بحجة الحميّة والشرف. فمن أولدت له زوجته فتاة ظلّ وجهه مسودّاً من سوء ما بُشِّر به ــ حسب ما عبّر عنهم القرآن الكريم ــ ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ * يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ﴾ (سورة النحل، الآيتان 58 و 59). بل كان الواحد يئد ابنته حتى لا تُهتك حرمتها ــ حسب مدّعاه ــ ولا يصيبه قترٌ من الفقر والعوز. نعم، كان القتل علاج الخوف الوهميّ.
وهنا جاء النصّ القرآنيّ ليقول: ﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ﴾ (سورة التكوير، الآيتان 8 و9). لتضع حدّاً لا مساومة فيه للقتل المجّاني، القتل على المظنّة.
ولم يعترف النصّ القرآنيّ، والقيم الإسلاميّة في حربها ضد قيم الجاهليّة بجريمة أكبر من القتل، إلّا جريمتين:
الجريمة الأولى: الشرك بالله الواحد الرحمن الرحيم. فمن غير المسموح تحت أيّ ذريعة أن يتخذ الناس لهم إلهاً من الحجر والصنم والرغبات والسياسة والزعامة والهوى ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ (سورة الفرقان، الآية 43)، وهذه جريمة لا تُغتفر، إذ كما قال النبي (ص): «كلّ الذنوب تغتفر إلّا أن يُشرك بالله»، حتى ولو كان هذا المشرك فقيهاً أو إماماً نصَّب نفسه للناس حاكماً دون حكم الله.
الجريمة الثانية: الفتنة، وهي حسب التعبير القرآني ﴿الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ (سورة البقرة، الآية 191). وقيل في سبب ذلك أنّ الفتنة وإن كانت مستقبحة بذاتها فهي مستقبحة أيضاً لما تتركه من آثار في إحداث شق وحدة الجماعة، وشقّ عصا المسلمين، ولما تسبّبه من قتل مجانيّ لا يشابهه إلّا قتل الموءودة. قتل دون ذنب وعلى المظنّة والافتراء والهواجس اللئيمة، بل والإشاعة الدنيئة واللئيمة.
من هنا، دعونا نتحدّث وبهدوء حول معنى الفتنة وعلاقتها بالقيم الجاهليّة السوداء، وهل وقعنا اليوم في حبائلها؟
لا يعنينا في هذا المجال القراءة اللغويّة لكلمة الفتنة والتي خلصت إلى أنّها تعرّضٌ لضغط شديد يتميّز فيه الخبيث من الصالح. كما لا نريد منها ذاك المعنى الاصطلاحيّ لها الذي ورد في القرآن بمعنى الشرك... بل ما يعنينا منها الاصطلاح الذي ربط مدلول الفتنة بالخداع. ﴿يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ﴾؛ وذاك المدلول الذي ربطها بالصراعات والنزاعات السيئة والتي ورد فيها كلام للإمام علي بن أبي طالب، منه:
«كن في الفتنة كابن اللبون لا ظَهرٌ فيُركب ولا ضرع فيُحلب»؛ أي إذا أراد أهل المصالح الفتنويّة أن يوقعوك في حبائهلم فإيّاك أن تجعلهم يستثمرونك لخدمة طموحاتهم ومشاريعهم.
وفي مورد آخر يتحدّث الإمام عليّ (ع) حول الفتنة فيقول: «إنّما بدء الفتن أهواءٌ تُتَّبع وأحكام تُبتدع. يخالف فيها كتاب الله ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله، فلو أنّ الباطل خلُص من مزاج الحق لم يَخْف على المرتادين، ولو أنّ الحق خلُص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسُن المعاندين، ولكن من هذا ضِغث، ومن هذا ضِغث فيمزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى» (نهج البلاغة، الخطبة 50).
فإنّ الفتنة التي نريد الحديث حولها ذات طابع اجتماعيّ، سياسيّ، مذهبيّ دينيّ. تبدأ انطلاقاً من أهواء ورغبات يؤهلها الناس ويجعلونها أصل القيم عندهم فيخترعون لها صيغاً باسم الدين، وما هي إلّا البدعة بعينها. بدعة هوىً تخالف كتاب الله الذي ينادي بوحدة أهل الإيمان وتعاضدهم في قضايا الحق فيخترع الناس قضايا على مقاسات زعاماتهم ومذاهبهم ويجعلونها أصلاً حاكماً على كتاب الله نفسه... ومن ذلك، أن يدّعي أشخاص زعماء وفقهاء وحركات أنّهم دون غيرهم يمثّلون كلمة الله وحكم الله وأمّة رسوله محمّداً التي يتولى على رجالها رجالٌ من هذا الصنف المبتدع. وهنا، تبدأ لعبة ممارسة إغواءات الشُبهة والفتنة على الامتداد الشعبيّ العريض بتبليسات يخلط فيها أهل البدع الباطل بالحق، والحق بالباطل حتى لا يعرف الناس أين الحق وأين الباطل.
وما أبلغها من كلمة قالها أحدهم يوماً: الكلّ يقول الله معنا، والكلّ يختلف مع الكلّ حتى ما عدنا نعرف أين هو الله.
وفي عقيدة أمير المؤمنين عليّ (ع) أنّ الباطل واضحٌ، وأنّ الحق واضح لا يحتاجان إلى من يشير إليهما، وأنّ الناس قادرة على تميّزهما، إلّا أنّ أهل الفتنة والإغواء الإبليسيّ لمّا كانوا يمتازون بخلط الحق بالباطل فإنّهم يشوّشون على الناس معرفتهم، ويشوِّهون وجه الحق. وهؤلاء هم الذين ورد فيهم في القرآن الكريم أنّهم ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ (سورة المائدة، الآية 41).
إذن، هؤلاء يرصدون ويعملون على تجميع المعطيات المتوافقة مع مصالحهم، وذلك لتعزيز موقفهم، لا لتعزيز معرفة الحق من الباطل. أمّا طرقهم في ذلك فهي: إمّا أن يستغلّوا المعلومات الكاذبة من الإشاعات والدعايات، أو أن يستندوا إلى معطيات غير مؤكّدة يدّعي أصحابها أنّهم كانوا في قلب الحدث فيتحدّثوا في أمور مفتراة لا بيّنة عليها، أو أنّهم، وهنا الأخطر، يحرّفون الكَلِم عن مواضعه، فكم فئة من المسلمين اتهمت فئات منهم بأنّهم لا يؤمنون بالقرآن أو لا يصلّون في المساجد، أو ينكرون النبوّة أو يسبّون الصحابة، أو... أو... إلى ما هنالك، وكلّها أمور رغم أن ملتقيات وتجمّعات إسلاميّة ــ إسلاميّة واسعة قد انعقدت لتبيان حقائق هذه الأمور، وتعامل الكلّ على أساس أن هذه المسائل قد وصلت إلى نهايتها وظهر فيها الحق من الباطل.. لكن ما إن يقع أي خلاف حتى يعود هذا الطرف أو ذاك إلى نقطة الصفر وإثارة التحريف للكَلِم عن مواضعه بغية إثارة الضغائن، أو تجميع الأنصار والمؤيّدين في حرب الذات الضروس، ضدّ الجماعات والهويّات المستهدفة، وإلّا فما معنى تهمة الصوفيّة بعبادة غير الله؟ وما معنى قتل الأشاعرة وتكفير المعتزلة؟ وما معنى أن يُقال عن الشيعة أنّهم على غير ملّة الإسلام؟ أو أنّهم لا هدف لهم إلّا الحرب ضد أهل السنّة؟ علماً أنّ الفقه الشيعيّ يقوم في موقفه من فقه السنّة على قاعدة من الاعتراف بمشروعيته بناء على قول الإمام الصادق (ع): «الزموهم بما ألزموا فيه أنفسهم». ما معنى كلّ ذلك إلّا إثارة الفتنة وبيع الذات والإسلام والمسلمين كرمى لعيون الزعامة والحقد الأعمى.
وبالمناسبة، فأنا أعتقد أنّ بعض هؤلاء من زعماء وفقهاء ورجال دين وسياسة انغمسوا في هذا الأتون لا لخبث فيهم، بل لأسباب أخرى منها الغضب المذهبيّ الذي لا يُبرِّر في واقعه تكفير أحد، أو إخراج أحد من الإسلام.
ولهؤلاء أقول: إن نصيحة قدّمها أمير المؤمنين عليّ (ع) للمسلمين في إطلاقهم الأحكام على الناس وهي أن نميّز بين الإنسان ــ الشخص، وبين الفعل الذي يمارسه.. فقد أكون أنا قد أخطأت هنا أو هناك، وأنت كذلك... لكن هذا يعني أنّ فعلنا كان خاطئاً لا إننا كفرة سندخل جهنم وعليك أن تخرجنا أنت من الدين.
وبهذا الصدد يقول الأمير (ع) ــ فاسمعوا يا علماء الأمة ــ: «إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالكم وذكرتم حالكم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر... وقلتم مكان سبِّكم إياهم اللهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج فيه» (نهج البلاغة).
وإن لم يقنعكم كلام الأمير، فهذا كتاب ربنا يقول فيه: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (سورة المائدة، الآية 8).
قد لا تحبّني ولا أحبّك، وقد لا توافقني ولا أوافقك، وقد لا أكون على مذهبك ولست على مذهبي، لكن لا يجرمنّك شنآني وكرهك لي أو عدم محبتك لي على أن تتهمني فيما ليس فيّ ولا عندي... أنت لست خصمي، وقرآنك هو قرآني، ونبيّك نبييّ، وقِبلتك قِبلتي وهكذا صلاتي وصومي ومحياي ومماتي هو لرب العالمين، بهذا أُمرت ــ أنا المسلم ــ وكذا سأكون مسلماً رضيتَ أم لم ترض، يا أخي... فتعال إلى كلمة سواء بيني وبينك.
* مدير معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة