منذ وصول حزب العدالة والتنمية عام 2002 إلى الحكم، بدأ الحديث يتواتر وبكثافة عن «الديمقراطية الإسلامية» وعن المصالحة بين الإسلام والديمقراطية بعيداً عن الجناح الآخر للحداثة، أي العلمانية، باعتبار (وفق رأيهم) أنها بدعة غربية وغريبة عن عالمنا الإسلامي الذي يمكن أن يقبل بالديمقراطية ولا يقبل بالعلمانية! المثال الذي كانت تستند إليه هذه الرؤية هي النموذج التركي الذي ما فتئ يتطوّر اقتصادياً بعد أن تمكن المجتمع التركي بقيادة حزب «العدالة والتنمية» من كسر عتبة الاستبداد العسكري وبلغ الحرية، ساعياً باتجاه ترسيخ ديمقراطية أرادها الحزب أن تكون ذات جذور إسلامية بعيدة عن العلمنة. فعمل على «قصقصة» المكتسبات العلمانية إلى أن نهض المجتمع التركي من جديد ووقف ضد تدخل السلطة في نمط الحياة الخاصة للمواطنين، إذ نقلت ضحى شمس عن أحد متظاهري تقسيم، قوله: «هل يظن أردوغان أن تركيا هي غزة؟ لقد منعت بلدية أنقرة أن يمسك الشاب بيد الفتاة في الأماكن العامة والمواصلات العامة! من يظن نفسه؟ لم يبق إلا أن يدخل معي إلى الحمام! ولمَ يمنع بيع الكحول بعد العاشرة مساءً؟ لست أفهم... نحن ندافع عن أسلوب حياتنا» (الأخبار 18/6 / 2013)، ما يعني أن الانتفاضة في أحد أبعادها ذات جوهر علماني، تطالب بوضوح بفصل الدين عن الدولة، ومنع تدخل الدولة في الشؤون الدينية والحياتية للمواطنين. هنا يأتي الرد من المجتمع نفسه، أي إن العلمانية مطلب شعبي وليست مطلباً نخبوياً/ غريباً كما يقول البعض. وما نضال المجتمعات التونسية والمصرية والإيرانية والسعودية ضد سلطات الكهنوت الديني إلا دليل على ذلك.
دعاة الفصل بين الديمقراطية والعلمانية في العالم العربي كانوا كثراً، وعلى رأسهم المفكر الراحل محمد عابد الجابري، مستندين إلى أن السيرورة التاريخية للمسلمين تحوي بذوراً ديمقراطية في حين أن العلمانية ولدت في الغرب، متجاهلين أن الديمقراطية نفسها هي ثمرة نضال غربي دؤوب، ما كانت لتثمر لولا جناحها الآخر، أي العلمانية بشقيها الفرنسي المتشدد أو الانكليزي المرن، أي إنها ليست مجرد «شورى» لها «تاريخ» وأسس في تاريخنا الإسلامي كما يقدم البعض، إذ يتجاهلون في هذا السياق أن العلمانية نفسها لها جذور، إن أردنا البحث في هذا السياق؛ فدستور المدينة الذي وضعه الرسول «محمد» يعتبر فعّالاً في هذا السياق، ومع ذلك تم إسقاط الأمر من التاريخ مقابل إبقاء أمر الشورى لتبرير الديمقراطية ونبذ العلمانية، فلماذا؟
الآن تتضح الأمور بصورة أكبر، إنها براغماتية الأحزاب الإسلامية والإسلام السياسوي الذي أراد توظيف الدين في خدمة وصوله إلى السلطة، فروّج لأسطورة الديمقراطية بشكل مقلوب، بالاستناد إلى فكرة الأقلية والأكثرية بالمعنى الديني التي تنسف الديمقراطية الحقيقية التي تستند إلى أقليات وأكثريات تأخذ معناها السياسي وليس الديني، إذ يجري اختصارها إلى مجرد «صندوق اقتراع» عبر تجاهل أن الديمقراطية جزء من منظومة حداثية متكاملة تبدأ من التعليم ونظام المدارس ولا تنتهي عند العقد الاجتماعي وفصل السلطات وعدم تدخل الدولة في شؤون المواطنيين العقيدية، لأن هذه الأحزاب تريد أن تضفي شرعية دينية غير قابلة للمساس على وصولها إلى السلطة، فيصبح وجودها في السلطة مقدساً وعصيانها من عصيان الله، مع سعي واضح لأسلمة (وهي غير إسلام) المجتمع وإبقائه في حيّز الجهل، أي تحويل الدين إلى إيديولوجية تقوم مقام الإيديولوجيات البعثية والقوموجية واليسارجية بهدف إغلاق العقل ومنع التفكير. وما سعي أردوغان وأقرانه في مصر وتونس لفرض أسلمة تدريجية إلا بهذا الهدف، سعياً لاستلهمام النموذج الإيراني بنسخة سنيّة!
هنا جاء النموذج التركي ونجاحه خلال السنوات الماضية ليكون المثال المرتجى لهذه النظريات الإسلاموية، إذ كل نظرية حتى تتسع وتأخذ صداها تحتاج إلى مثال أعلى، إذ كان سابقاً الاتحاد السوفياتي المثال الأعلى لنظريات الأحزاب الشيوعية العربية، وحين انهار انهارت النظريات التي كانت تقرأ ما يحصل في موسكو أكثر مما تقرأ ما يحصل في واقعها القريب.
حين أراد حزب العدالة أن يبني الديمقراطية بعيداً عن جناحها الآخر (العلمانية) اصطدم بتعقيدات الواقع التي ترفض السير وفق رؤيته التي تختصر الديمقراطية إلى مجرد صندوق اقتراع يبقيه في السلطة، فإذا كان حزب كالعدالة والتنمية المستند إلى ميراث علماني ونضال سياسي دؤوب في أنقرة قد تصرّف بهذه الطريقة ضد خصومه، فما بالك بالأحزاب الإسلامية العربية التي يكاد حزب العدالة التركي يعتبر «سوبر حداثة» بالنسبة إليها. وهو ما نقرأ تداعياته في مصر وتونس خصوصاً، حيث محاكم التفتيش بدأت تنصب مظلتها فوق المثقفين دون أن يتعارض هذا الأمر مع الديمقراطية! فالمقصود هنا ديمقراطيتهم، أي شورى في ما بينهم هم، وليس ديمقراطية الشعب وما يريده الشعب، فهم الأجدر بمعرفة مصلحة الشعب، كما كانت «النخبة» أو «الطليعة الثورية» هي من يقرر عن الشعب في الأنظمة التي سقطت، وكما «الولي الفقيه» يقرر من يترشح إلى الرئاسة أو لا، فتلك ديمقراطيتهم ولهذا ستبقى بذور الثورات قائمة. وما يحصل في أنقرة الآن ليس إلا تصويباً لهذا المسار المتعرّج لحداثة مبتورة تمشي على رجل حداثية تتقدم إلى الأمام وأخرى رجعية تعود إلى الخلف، إذ في لحظة ما سيتمرد الجسد/ البلد ضد محاولات فسخه، ليبقى السؤال: هل يتعلم العالم العربي من التجربة التركية؟ أم أنه لا أحد يتعلم إلا من تجاربه؟
أغلب الظن أن الأحزاب الإسلامية، وعلى رأسها الإخوان، عاجزة عن إحداث تغيير عميق في بنيتها، ولن تتغير إلا إذا دُفعت دفعاً في هذا السياق. حالها في ذلك حال الأنظمة العربية التي لم تصلح من تلقاء ذاتها بل أطيحت بفعل الانتفاضات، وها هي الانتفاضة التركية تقدم دليلاً على ذلك.
هنا يتعيّن على الأحزاب والقوى العلمانية في العالم العربي العمل في سياق تأصيل مشروع وطني ديمقراطي علماني جديد، لا يعادي الدين بل يتركه لأهله وشؤونه ويمنع تدخل رجاله في الحياة العامة. ويعمل على مصارعة القوى السياسية الإسلامية في مجال حقوق الإنسان والاقتصاد والعدالة الاجتماعية، بعيداً عن مماحكات الدين التي سيخسر فيها أي حزب غير إسلامي، لأنها الميدان الذي يجيد الإسلاميون اللعب فيه عبر استغلال تديّن الناس الشعبي. وهو ما نصحت به المحللة السياسية التركية «اجة تملكوران» التي خبرت طيلة عقد «ألاعيب النموذج التركي» الذي يستخدم «مارد الخطاب» الذي «لا يخدم أهداف أسياده فقط، بل يشرعن بشكل آلي كل سياسة ضد الديموقراطية، والمساواة الاجتماعية، وأحياناً ضد المنطق العام». وتقول: «أي نقاش بين العلمانيين والمتدينين، في دولة يشكل المسلمون السنّة أغلبية فيها، هو نقاش ميت، لا يخرج منه على قيد الحياة سوى الأغلبية الدينية... لم تتعرض المعارضة التي بنت خطابها على العلمانية للسحق فقط على يد مارد الخطاب الأردوغاني، بل كانت عرضة للسخرية والإذلال. كان المارد ذكياً كفاية ليستخدم الله والديموقراطية على نحو مترابط. هذا ما يجب أن يتنبّه إليه التونسيون والمصريون جيداً... السياسات الأوروبية والأميركية التي صنفت تلك الدول باعتبارها ديموقراطيات إسلامية معتدلة، مع ختم «صالح للشرق»، لن ترغب في معارضة تعتمد على العدالة الاجتماعية. من خبرتي الشخصية، أعتقد أنّ الغربيين الذين يشيدون بالديموقراطية في تلك الدول، يخافون حين يسمعون عبارة «عدالة اجتماعية»... لكن اعتماد المعارضة على الحقوق الاجتماعية، والمساواة الاجتماعية، على الأقل، سيجعل مارد الخطاب يبدو كأيل عالق أمام سيارة، بدل المعارضة، على سبيل التغيير» (الأخبار، السبت ٣ آذار ٢٠١٢). وإنّ التدقيق في خطاب أردوغان بمواجهة المتظاهرين يثبت صحة ذلك، حيث مخاطبة الغرائز الدينية للجمهور واضحة جداً، إذ قال أمام مناصريه: «دعهم يدخلوا مساجدنا بأحذيتهم... ودعهم يحتسوا الخمور في مساجدنا... ودعهم يمدوا أياديهم إلى فتياتنا المحجبات. دعاء واحد من شعبنا كفيل بأن يحبط خططهم»! محاولاً حرف الأعين عن أهداف الانتفاضة باتجاه مجال ديني يبرع فيه بعيداً عن الحقوق.
يبدو هنا كأننا نعود من جديد إلى الأسئلة التي طرحت قبل قرن تقريباً على يد محمد عبده وفرح أنطون ومجايليهما، إلى الأفكار ذاتها التي عاد واشتغل عليها سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف وفيصل دراج وجورج طرابيشي الذي فنّد منذ سنوات في «هرطقات 1-2» كل محاولات فصل الديمقراطية عن العلمانية.
الجديد اليوم أن هذه الأفكار تمتحن في الواقع وترفع كشعار في التظاهرات بعد أن كانت مجرد أفكار نخبة، لتبدأ مرحلة جديدة لن تكون سهلة أبداً بل هي طويلة ومتعرجة ونتيجتها تتوقف على وعي الشعوب وإرادتها وقدرتها على إبداع وسائل وآليات تضع أفكارهم موضع التنفيذ. وإذا قلنا إن الحركات السياسية والأحزاب هي الأداة الناقلة هنا، فإن النظر في الواقع ليس وردياً، لأن أغلب هذه الأحزاب ينتمي إلى الماضي أكثر من الحاضر، لذا فالنضال طويل ولكنه يبدو أكثر وضوحاً، فهو ضد الاستبداد أولاً، والأصوليتين الإسلامية (شيعيّة وسنيّة) والصهيونية ثانياً.
* شاعر وكاتب سوري