مع تقدم الصراعات العربية، خصوصاً السورية منها، وتداعياتها على لبنان، تبدو الساحة اللبنانية متّجهة إلى مزيد من التفلّت يوماً بعد يوم، ومؤسساتها أكثر شللاً وأقل قدرة على التأثير. كثيرون ممّن عايشوا تطورات الأحداث اللبنانية يستغربون كيف صمد لبنان كل هذه المدة من التطورات والتوترات الإقليمية أخيراً دون أن تنفجر ساحاته بتناقضاتها وخلافات فئاتها على أكثر من صعيد.وليس في الأمر غرابة، فقد كان لبنان يتأثّر على الدوام بما يجري في المنطقة، وكانت أوضاعه تنقلب رأساً على عقب، تتفكّك أجهزته ومؤسساته الرسمية، وتغيب دولته، ويتحلّل كيانه السياسي تحت وطأة الأحداث. وقد لعبت التركيبة السياسية ــ الديموغرافية، أي في الشكل الطائفي للدولة ومؤسساتها، الدور الأبرز في السقوط جراء التطورات والأحداث، فاندلعت أحداث 1958 تحت وطأة الصراع الناصري ــ الأميركي، وبدأ لبنان يتحلّل دولةً ومؤسسات وكياناً عقب نكسة 1967 وتأثيرها على لبنان، خصوصاً بدخول المقاومة الفلسطينية إليه، وظلّت التداعيات متواترة بأشكال شتى بلوغاً إلى اتفاق الطائف الذي كان الحد الفاصل للحرب الأهلية.
بعد سنتين ونصف من المحاولات الجاهدة لدى قوى محلية مؤثرة، تمكنت من الحد من الانهيار السريع المعتاد سابقاً (الثقل العسكري لحزب الله مترادفاً مع الجيش اللبناني)، بدأ تأثير التطورات وتواترها يلقي بثقله على الواقع اللبناني، فبدأ يتظهّر ضعف الدولة وغياب مؤسساتها، وتتفجّر الأحداث المتنقلة فيه في حدود معينة، يتفاقم واقع السلطة انهياراً وشللاً، ويتواصل تراجع مؤسسات الدولة، ونصل إلى ما يشبه الساحة الفالتة التي يصح القول فيها: «سارحة والربّ راعيها». وقد بدأ تفاقم انعكاس الأوضاع الإقليمية على البلد منذ أن دخل باستحقاقات مفصلية هامة: الحكومة، المجلس النيابي، والتالي رئاسة الجمهورية، وهي كلها يتم تشكيلها بتزاوج العوامل المحلية وتفاعلها مع العوامل الإقليمية، بمعنى أنها ليست استحقاقات منفصلة عمّا يجري في المحيط الخارجي.
منذ سقوط حكومة نجيب ميقاتي، وعدم تشكيل حكومة جديدة، وتأجيل الانتخابات النيابية، وقبله تطيير «الأرثوذكسي»، يدخل لبنان في مرحلة من الانتظار ستطول حتى ما بعد الحل السوري الذي لم تنضج ظروفه بعد. تقدم النظام السوري ولم ينتصر، تراجعت المعارضة ولا تزال القوى الدولية الحليفة لها تمنع هزيمتها. لا يزال الكرّ والفرّ سيّد الموقف في سوريا، لكن المحور الداعم للنظام سجل نقاط تقدم كبيرة لكنها لم تتركز كمعطى يمكن أن يفرض الحل بعد. فما سجله هذا المحور من تقدم لا يزال طري العود، ولم يترجم بالفعل على الأرض. فعلاوة على التقدم الميداني على الساحة السورية، كانت المناورات الإيرانية قد حققت سيطرة نيرانية على الخط الجنوبي الغربي لآسيا من مضيق «باب المندب» وحتى «مضيق ملقا»، وحققت المناورات الروسية بالنيران أيضاً على الخط الغربي لآسيا، إنْ بالمناورات العسكرية أم بالحضور الكثيف للبوارج الروسية التي رفعت التحدي بوجه العالم إلى أقصاه. ورغم أن المناورات الإيرانية والروسية أحكمت القبضة الاستراتيجية للمحور الشرقي على آسيا، إلا أن الترجمة السياسية لذلك الواقع المستجدّ لم يتحقق بعد، وقد لا يتحقق إلا بمعركة عسكرية تترجم قدرة المناورات على فعل فعلها، وربما كانت معركة سوريا هي الترجمة المقبلة لنتائج تلك المناورات.

بداية الانهيار: سقوط الأرثوذكسي

حدّة الصراع المحلي ارتفعت وتيرتها مع سقوط القانون الأرثوذكسي للانتخابات النيابية ليس لأنه فاقع الطائفية والمذهبية. استخدمت الأيديولوجيا لتغطية الهدف الحقيقي من إسقاطه: الحفاظ على السلطة الممسوكة منذ اغتيال الرئيس الأسبق رفيق الحريري 2005، من قوى الرابع عشر من آذار ومَن يقف وراءها من تحالف عربي ودولي. وتم جمع أكثرية برلمانية حول مشروع اللحظة الأخيرة المختلط بين الأكثري والنسبي، لا لأنه الأمثل للحياة السياسية في لبنان، وإلا لكان طُرح سابقاً، قبل الساعات الأخيرة، وبصورة متهالكة، من طرح «الأرثوذكسي» للتصويت.
استُعْمِل المختلط للقوطبة على «الأرثوذكسي» وإسقاطه، منعاً لسقوط السلطة بيد الخصم. ومَن طرح المختلط قطعاً للطريق على «الأرثوذكسي» بحجة طائفيته هي أعتى القوى طائفيةً في البلد: القوات اللبنانية والكتائب والمستقبل والاشتراكي، قوى معروفة القواعد الشعبية الصافية اللون المذهبي، من جهة، والتعبئة المذهبية غالباً. ولو كانت هذه القوى تسعى فعلاً لمنع السير بمشروع طائفي، لاختارت المشروع الوحيد: «لبنان دائرة انتخابية واحدة على قاعدة النسبية، وبعيداً عن القيد الطائفي والمذهبي». وفي غير ذلك الطرح، لن يقتنع أحد بصدق المدّعين بالحرص على لا طائفية البلد عبر مشروع انتخابي لا طائفي. بالإضافة، فهم تبنّوا مشاريع سابقة لم تكن أقل طائفية من «الأرثوذكسي». العيب الذي يتميّز «الأرثوذكسي» به عن سواه، هو وقاحة العنوان، ووقاحة التفصيل بأن ينتخب كل مذهب ممثليه.
في المشاريع السابقة كافة، انتخبت أكثرية المسيحيين غالبية النواب المسيحيين، من زغرتا شمالاً حتى بعبدا، وانتقالاً إلى جزين وزحلة. وانتخبت الأكثرية السنية في عكار والضنية وطرابلس وبيروت وصيدا والبقاع الغربي أكثرية النواب السنة، والمعادلة عينها تنطبق على المقاعد الشيعية والدرزية. فليس من مبرر للمزاودة على «الأرثوذكسي» بمذهبيته إلا ما يعنيه في البعد السياسي، أي انتقال السلطة من يد إلى يد أخرى.
أما ما جرى في جلسة المجلس النيابي في الخامس عشر من أيار الفائت، وقبلها بساعات، فكان يتركّز بشكل أساسي على تطيير «الأرثوذكسي»، رأس حربة السيطرة على السلطة من قبل قوى الثامن من آذار. وقد جاءت الخطوة في وقت لا تزال فيه التوازنات الإقليمية والدولية تمكّن فريق الرابع عشر من آذار من التأثير في مجرى الأحداث. فالأحداث السورية، التي تعبّر عن ميزان القوّة بين فريقي الحلف الشرقي والحلف الغربي لم تزل غير محسومة بصورة تامة لصالح طرف دون آخر بين السلطة والمعارضة السوريتين طالما لم تتم التسوية، ولم يكتمل عقد البديل السوري كنتيجة للأحداث، ذلك رغم أن الكفّة باتت تميل بشكل واضح في الوقت الراهن لصالح النظام السوري الذي تمكّن بعد سنتين من القتال من الانتقال من الدفاع إلى الهجوم، وبات ممسكاً بناصية المعركة. ونظراً لعدم تظهير التسوية السورية، التي لا تبدو قادمة في الأفق قريباً، لم يبلغ المحور الشرقي، المتبني للمشروع «الأرثوذكسي»، من القوة مرحلة فرض الحلول، فطار المشروع، وطارت الجلسة النيابية.
وبذلك يدخل لبنان في مجهول تشريعي وسياسي جديد، أصبحت الانتخابات في المجهول، والحكومة لم تتشكل مع انفراد التوافق الداخلي على المشروع الانتخابي، بتنا اليوم أمام ما يشبه عام 1988، يوم انتهت ولاية الرئيس أمين الجميل، ولم ينتخب بديل منه، وانقسمت الحكومة، وصولاً إلى تسوية اتفاق «الطائف» التي كانت مطلوبة من الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، ومرعية من قبل المملكة العربية السعودية، وكانت ثمرة الاتفاق سلخ صلاحيات من يد قوة طائفية (المارونية السياسية)، وتركيز صلاحيات أعلى بيد طائفة أخرى (السنية السياسية). يومها، أخرج البلد من صيغة الدولة الرأسمالية، إلى الصيغة الليبرالية الأوروبية مطلع القرن العشرين، لكن الممسوخة والتابعة، إلى الصيغة الليبرالية الأميركية المهمّشة للدولة ولدورها في المجتمع، والذي ترجمت تعبيراته السياسية بتهميش مؤسسات الدولة، وحلول مجالس وصناديق ومؤسسات مستقلة على هامشها في الفترة التي أعقبت إقرار الطائف من التسعينات وحتى دخول البلد بالمنعطف التاريخي الذي لا نزال نعيش تداعياته، أي اغتيال الرئيس الحريري.
يبقى على اللبنانيين أن يعيشوا مرحلة انتظار طويلة، أقلها عام، ريثما تتظهّر الصورة السورية، أي عندما يعاد انتخاب بشار الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية، حيث تتعثّر التسويات ومحاولات إيجاد حل بالتفاوض، فالبحث الذي يرافق طرح مؤتمر دولي يظهر أن التسوية غير ناضجة على الأقل، في ظل استمرار التباعد بالرؤى والتباين في الخطاب السياسي بين تحالفي القوى المتصارعة، والتوجه إلى مزيد من التسلّح لدى المحور الداعم للمعارضة السورية على ما تأكد علانية في مؤتمر الدوحة الأخير للتكتل المعروف بـ«أصدقاء سوريا». ثمّة مفارقات غريبة ترافق البحث في التسوية السورية: الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق «جنيف 2»، لكن حليفتها المعارضة السورية لا تقبل بأي تسوية، بينما لا تريد المعارضة، المتراجعة القوّة، التفاوض مع الأسد مستندةً إلى ضغط دولي مفترض، يضاف إليه استعداد لتقديم السلاح الأكثر تطوراً من السابق. والأسد الذي يلمس قوة في الموقف يشترط معرفة التفاصيل للمشاركة أو عدم المشاركة في المؤتمر الذي يجري الحديث عنه، هكذا تستمر المراوحة، وهو بدوره يستعد لمعركة مواجهة يرجّح أن تكون أكثر قساوة وعنفاً من الجولات السابقة في العامين المنصرمين.
كما أن النظام السوري وحلفاءه قد يظلّون متقدمين في الساحة العسكرية، لكن من غير المؤكد قدرتهم على الحسم الكامل، فليس من السهل إقفال البوابات التركية والإسرائيلية والأردنية، وبالتالي قدرتهم على فرض شروطهم للتسوية، أو فرض حل من جانب واحد.
وبين عدم اتّضاح صورة الحسم على الساحة السورية، وعدم التأكد من نجاح المؤتمر الدولي حول سوريا، وحتى بلوغ الانتخابات الرئاسية السورية العام القادم، سيكون الواقع اللبناني في براد الانتظار، وسيطاوله يومئذٍ ما ستؤول إليه الأمور الإقليمية في ذلك الحين. أما ما هو قاطع وحاسم بتأجيل الانتخابات النيابية، وسقوط «الأرثوذكسي» معها، وعدم الاتفاق على مشروع انتخابي، وبالتالي تعقّد إجراء الانتخابات موضوعياً، يعقبه تعقّد موضوعي أيضاً لتأليف الحكومة، هو شلل المؤسسات التي تشكل نصاب الطائف، أي سقوط «الطائف» إلى غير رجعة.
* كاتب لبناني