«طوبى لجسدٍ يتناثر مدناً»محمود درويش
في مثل هذا اليوم، الثامن من يوليو/ تموز عام 1972، قبل واحد وأربعين عاماً، اهتزت منطقة الحازمية في مدينة بيروت على صوت انفجار هائل. دقائق سريعة مرت قبل أن تتوضح صورة المكان. أشلاء وحديد أسود محترق، تناثر على عشرات الأمتار. كان جزء من الأشلاء للأديب والإعلامي المبدع، السياسي الأممي والعربي الفلسطيني غسان كنفاني، الناطق الرسمي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورئيس تحرير مجلة «الهدف». بقية الأشلاء كانت تخص الشابة لميس نجم، ابنة شقيقة غسان، القادمة من مكان إقامتها في الكويت لزيارة عائلة خالها.

عاش الشهيد حياة قصيرة، ستاً وثلاثين سنة، كانت زاخرة بكل المعاني، لأنها ارتبطت بتلك الأحداث الكبرى التي عاشتها الأمة العربية والوطن العربي وفلسطين. عاش نكبة عام 1948 وهو فتىً لم يتجاوز الإثني عشر ربيعاً. حملت ذاكرته كل تفاصيل عمليات الهجرة القسرية من فلسطين. كَبُر في المنافي التي تعددت أسماؤها، لكن فلسطين بقيت محفورة في العقل، تتحرك داخل دورته الدموية.
ككل أبناء جيله، دخل معترك العمل باكراً. انتقل ما بين التدريس والصحافة. كانت الكلمة والريشة، أدوات التعبير عما يعتمل داخله. تقدمت الكتابة الأدبية/ السياسية على الرسم. بدأ يكتب وينشر في أكثر من مكان، الكويت وبيروت ودمشق، بأسماء مستعارة (أبو العز، فارس فارس، هشام). كتب في المقال السياسي والأدب الساخر، وفي القصة (موت سرير رقم 12، أرض البرتقال الحزين، عالم ليس لنا، عن الرجال والبنادق) والرواية (رجال في الشمس، ما تبقى لكم، أم سعد، عائد إلى حيفا).
تلك الروايات والقصص ــ والعديد غيرها ــ، قدمت للقارئ العربي، وللناقد الأدبي، تراثاً زاخراً بكل القيم الجمالية، والصور البلاغية، النابعة من المعاناة الجماعية للشعب والأمة. لم يكن كاتباً توصيفياً فقط، بل كان نقدياً ثورياً، لا يقف عند حدود التشخيص، بل كان يعمل من أجل استئصال كل الأدران بمشرط الجراح، رغم كل الآلام التي لم تتوقف داخل الجسد/ الذات، بل امتدت للبيئة المحيطة.
نضج وعيه في الأطر الجماعية التي حاول أن يجد الإجابة فيها عن الأسئلة الملحة عن أسباب النكبة والتخلف والتجزئة. كانت حركة القوميين العرب هي الأداة التي بلورت وصقلت الأفكار، ووضعت برامج العمل في أكثر من ساحة ومجال. كانت الحركة سباقة في التجهيز للكفاح المسلح ضد العدو الصهيوني. في ملحق فلسطين الذي أنجزه لصحيفة «المحرر»، كتب بأسلوب أدبي، يلامس شغاف قلوب اللاجئين الباحثين عن العودة لوطنهم. كتب بشكل مباشر حيناً ومستتر أحياناً كثيرة عن الفدائيين الأوائل لمجموعة «أبطال العودة». كانت كتاباته في «الرأي» و«الحرية» و«الهدف» أداة تحليل لكل مهتم بالقضية الفلسطينية والنضال القومي. كتب ناقداً عن مظاهر الفساد والترهل والانحراف، وما زالت كلماته «إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغيّر المدافعين، لا أن نغيّر القضية» خطة عمل مئات المناضلين القابضين على جمر المقاومة، الباحثين عن أدوات التغيير الحقيقية للواقع المتكلس والمتيبس.
لن أضيف في رثائك إلى ما قاله عن رحيلك محمود درويش «أن تكون فلسطينياً يعني أن تعتاد الموت... أن تتعامل مع الموت... أن تقدم طلب انتساب إلى دم غسان كنفاني... طوبى للقلب الذي لا توقفه رصاصة ولا تكفيه رصاصة... نسفوك كما ينسفون جبهة وقاعدة... لأن الوطن فيك صيرورة مستمرة، وتحوّل بين سواد الخيمة إلى سواد النابالم ومن التشدد إلى المقاومة».
غسان: غاب جسدك، لكن فكرك تَحَول إلى روح تضخ الحياة فينا.
* كاتب فلسطيني