فجأة، انتبهنا الى سوريا. كم نحبها وكم نجهلها! فجأة، الطعنة التي أدمت قلبها أدمت قلوبنا! سوريا، بمعنى ما، بكل المعاني هي بلدنا جميعاً نحن الأردنيين اللبنانيين الفلسطينيين العراقيين، ولم نكن لندرك أن وجودها هو الثابت في وجودنا، هو الجدار المضمر في كل تفكيرنا السياسي ومشاريعنا الوطنية، فجأة، انكشفنا في عراء الذئاب، فجأة اكتشفنا أنه كان يمكننا ان نكون ثوريين أو شيوعيين او قوميين او وطنيين او مقاومين، فقط لأن الجمهورية العربية السورية تشغل مكانها الاستثنائي في الجيوسياسية الاقليمية.
فجأة وإذا بسوريا حاضرة في بيوتنا؛ وعلى الصراع فيها وعليها، تتمفصل صراعاتنا وتنشق أوطاننا على نفسها، تحت اللافتة المضحكة المبكية: النأي بالنفس!
في لبنان حرب وفي الاردن مواجهة وفي العراق تفكك وفي فلسطين ضياع. لقد برهنت التطورات السورية أننا نعيش في مجال جيوسياسي واحد هو المشرق. المشرق ليس عقيدة ولا فكرة ولا مشروعاً قومياً خاصاً – مع احترامنا العميق للعقيدة والفكرة والمشروع – وإنما هو واقع معقد من التداخلات الجغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الحية، كانت موجودة دائماً وظهّرتها الحرب في سوريا وظهرت اسئلتها الشائكة حول العلاقة السورية اللبنانية والأردنية العراقية والعراقية السورية وحول علاقتنا جميعاً بفلسطين.
على هذه الخلفية اشتغلنا، يساريين وقوميين ومقاومين، لنبني مشروعاً فكرياً سياسياً جديداً، وأشهد هنا ان بلدي الحبيب لبنان هو الذي فتح ذراعيه لاستقبال المشروع الفكري والحوار حوله وتطويره وقدّم له منابره. هذا البلد، على رغم كل ما يعانيه، لا يزال قادراً على اثارة الدهشة بما ينطوي عليه من حيوية فكرية وفرص نضالية.
من لبنان ايضاً جاءت المفاجأة الكبرى، بواسل حزب الله هبوا الى سوريا لكي يكتبوا شهادة ميلاد المشرق الجديد بالدماء. ومن رجفة القلب امام الجرأة والبطولة والوفاء والتضحيات، ذهبنا الى السؤال الصعب: الم يحن الوقت لكي نستردّ بنادقنا ورؤيتنا ورفاقنا؟
معركة القصير، في دواعيها وضرورتها ومفاعيلها، برهنت على ان سوريا ولبنان لا يمكنهما الانفصال، سواء أفي مشروع المقاومة أم في سياقات الأمن الوطني ومقدراته. وأعرف، بالطبع، أن هناك من الوطنيين اللبنانيين من يتحفّظ من دون أن يرى أن حزب الله يقاتل في سوريا لأسباب لبنانية تهمّ جميع اللبنانيين؛ رفع حزب الله، في سوريا، لبنان من طرف الى شريك ندي في المحور الإقليمي الدولي الجديد الذي يتشكل كقطب عالمي من قلب الصين الى الشواطئ اللبنانية حيث الثروات المكتشفة التي لن يمتلكها اللبنانيون اذا لم يتحقق لبلدهم دور الشريك الاقليمي والدولي، وحيث اسرائيل تحلم بالحديقة اللبنانية، وحيث التعددية الطائفية والمذهبية والإتنية المعدّة للنحر على ايدي الغزاة التكفيريين. لقد قيّض الله لهذا البلد حزبه، لكي يضمن سيادته وامنه وسلمه وثرواته.
واعرف أن هناك من الوطنيين السوريين من يرى في حزب الله متدخلاً من غير ان يرى، بالمقابل، أن كسر الحدود بين البلدين بالمقاومة هو الضمانة الوحيدة لضمان امن سوريا من الخاصرة اللبنانية. واذا كان ثمة من يفكر من السوريين في أن بلاده يمكنها أن تسير من الحضور الاقليمي الى العزلة الاقليمية لبناء جمهورية ليبرالية، فهو واهم؛ فأمن سوريا ومستقبلها لا يتحققان داخل اسوارها، ومعاركها على كل صعيد لا يمكن حسمها داخلياً.
هنا، نقول بوضوح شديد إننا ندعو الى التدخّل المشرقي في سوريا لضمان الانتصار في اربع معارك، أولاً، معركة استئصال الإرهاب، وثانياً معركة إعادة البناء في خطة تنموية وطنية تستأصل النيوليبرالية والكمبرادورية والفساد، وثالثاً معركة تجديد الدولة الوطنية المدنية العلمانية الديموقراطية، ورابعاً معركة تعزيز خط المقاومة.
الأردن بلد يرتبط وجوده الجيوسياسي وممكناته التنموية بسوريا والعراق؛ وقد تعودت السياسة الأردنية التنقل بين هذين الحضنين اللذين طالما كانا في خصام مديد، إلى أن سقط العراق عام 2003 فدخلت البلاد في أزمة مزمنة، ومنذ ان تعرضت سوريا للهجمة الامبريالية الرجعية والأردنيون الواعون لمصالح بلدهم الاستراتيجية، يشعرون بالقلق العميق ويتحسبون من الانكشاف التام أمام المشروع التوسعي الصهيوني. واليوم تنفتح امكانية غير مسبوقة لكي يعيد الأردنيون تأسيس دولتهم بالاستناد الى حاضنة سورية – عراقية.
العراق الذي يتعرض، بدوره، للعدوان التكفيري المدعوم من السعودية وقطر وتركيا، لا أمل له باستعادة وحدته الداخلية ودولته التنموية المركزية من دون العلاقات الاستراتيجية الممكنة مع سوريا والاردن.
وهل يمكن تجاوز الاستعصاء الفلسطيني فلسطينياً؟ ألم يحن الوقت لترتيب العلاقات والتأسيس لخط جديد في المقاومة والتحرير والعودة. اسرائيل، كما وصفها السيد حسن نصر الله، أوهى من بيت العنكبوت. المعجزة هنا أن تحقيق هذه العقيدة الاستراتيجية، يتطلب الكثير الكثير، لكنه رهن بالإيمان بها.
مجتمعات المشرق مجتمعات تعددية دينياً وطائفياً ومذهبياً وإتنياً وتاريخياً وثقافياً. وهذا التعدد هو مصدر احتراب اهلي على مستوى الاقطار المشرقية المفردة، لكنه يغدو مصدر غنى وتوازن اذا ما نظر اليه على مستوى المشرق كله حيث لا تعود هناك اقليات واكثريات. ودعونا نلاحظ هنا انه
في الشقيقة الكبرى، مصر، بمجتمعها المتجانس ودولتها المتجذرة، كان يمكن اسقاط الحكم الديني الرجعي المرتبط بالمشروع الاميركي الوهابي في ثورة سلمية مجيدة، لكن في الشام والعراق، إن أي ارتباط بين الدولة والدين هو مشروع انتحار لا يحتمل سنة ولا شهراً ولا يوماً. ولذلك، لا مكان للإسلام السياسي في بلادنا، ابتداءً. يمكن، بالطبع، أن يكون للطاقة الايمانية أفضل ادوار الحشد للمقاومة، لكن ليس للدين موقع في السياسة والدولة في بلادنا الا كعنصر تفجيري للحروب الاهلية.
سوريا جوهرة التحرر العربي، دولة المقاومة القائمة والقادمة ودولة التنمية الممكنة، حمّلناها جميعاً أثقالاً كادت ان تكسر ظهرها وظهورنا؛ كان واضحاً ان دور سوريا الإقليمي ومشروع المقاومة لا يتسقان مع اقتصاد السوق المعولم والمشروع الكمبرادوري والفساد، ولا مع الانفتاح على الاطماع العثمانية القديمة الجديدة في الارض السورية، ولا مع التفاهم مع قطراسيل وباقي الرجعيات.
وكان واضحاً، بالمقابل، أن اي معارضة متشددة، سواء امن اليمين أو اليسار هي عامل تفجير في سوريا، وعامل إضعاف لدورها الإقليمي الضروري لحياتها. واذا كنا نعتقد حازمين أن اهمية ذلك الدور واولوية المقاومة لا تبرران منع الحياة السياسية الداخلية، فإننا نعتقد بالحزم نفسه ان تجاهل الجيوسياسية السورية هو مجرد وهم قد ينتهي الى الخروج من خندق الوطن.
استذكر يوسف الصايغ ووجعه:
«أنا لا أنظر من ثقب الباب إلى وطني، لكن أنظر من قلب مثقوب وأميّز بين الوطن الغالب والوطن المغلوب».
أميز، بكل شغاف القلب، المأساة التي يعيشها شعبنا في سوريا، وأبكي الضحايا والشهداء والجوع والألم والتشرد وثقل الحرب على مجتمع مجروح بالانشقاقات، بل أبكي إشارات الحب على جدران البيوت المضمخة بأنفاس الناس والياسمين، وهدمتها الحرب، أبكي فرحة ولدي صبيحة يوم الميلاد في باب توما وأبكي وأدرك ان الجرح السوري غائر ونازف، لكنني ادرك ايضاً انه من دون خوض المعركة ضد الارهاب وهزيمته لن تكون هنالك بعد سوريا، ولا المشرق كله. ولن يكون بإمكاننا بعد النضال من اجل البديل التنموي الوطني الديموقراطي. المقاومة ضرورة للمشروع الاجتماعي التقدمي مثلما انه لن يكون بإمكان المقاومة ان تعيش من دون هذا المشروع.
هذه بعض رؤانا في مركز التقدم المشرقي الذي يسعى لتفعيل الحوار النقدي المفتوح حول قضايا المشرق، وفي المقدمة منها اليوم القضية السورية التي آمل ان يتوصل هذا اللقاء الى تكوين رؤية شاملة حولها، وطنية وتقدمية في آن واحد، جيوسياسية وديموقراطية معاً.