كشفت جريدة «نيويورك تايمز» قبل أيّام عن حقيقة السياسة الأميركيّة التي أدّت إلى غزو ليبيا في ٢٠١١ وقلب نظام الحكم هناك. والتقرير الطويل لم يحز تغطيةً في الإعلام العربي لما فيه من معلومات عن دور للنظامين القطري والإماراتي في الحرب التي أدّت إلى تفتيت البلاد وسوقها نحو حرب أهليّة لا نهاية لها. والحديث عن ليبيا بات نادراً في الإعلام العربي والغربي لأن المُحتلّ يحاول دوماً أن يتجاهل إرثه المُدمِّر بعد أن يدمِّر: هكذا ترك المُستعمر الأميركي وحلفاؤه الخليجيّون أفغانستان بمجرّد أن انسحب الجيش السوفياتي منها، كي تتحوّل البلاد إلى أسوأ بكثير من عهد السيطرة السوفياتيّة (لا شكّ أن الهيمنة السوفياتيّة كانت أرحم على المرأة وعلى الفقراء من الهيمنات الأميركيّة التي تتخصّص في استجلاب القبليّة والطائفيّة كمعين لها على حكم البلاد). ولم تكترث أميركا لمرحلة ما بعد الغزو في ليبيا، هي اكتفت بأن قالت لجماعة المعارضة الليبيّة المنصاعة: لنتباحث في الأمر في ما بعد. لم يتسنّ لهم ذلك بعد.
العلاقة الأميركيّة مع حركة معارضة ليبيّة ليست جديدة

طبعاً، إن نشر الجريدة لمقالَين مسهبَين ليس بريئاً، فهو تزامن مع المناصرة القويّة من قبل الجريدة لحملة هيلاري كلينتون الرئاسيّة. فالأخيرة تظهر في الجريدة بمظهر الحازمة القويّة والمستعدّة دوماً لاستعمال القوّة (وهذا الاستعداد هو من الشروط الضروريّة للفوز بالرئاسة الأميركيّة). ودور كلينتون في غزو ليبيا (بالاشتراك مع حلف «الناتو» وقطر والإمارات) كان ينبع من عنصرين: ١) من عقيدة «القوّة الذكيّة» التي وسمت نقد أوباما لعقيدة بوش. لم يكن أوباما، خلافاً لما لحقه من انطباع بعد خطاب القاهرة (التي لم يعد يذكرها أحد لأنها لم تكن إلا خدعة لفظيّة للعرب والمسلمين)، في وارد وقف الغزوات الأميركيّة أو في وارد الحدّ من النيات الاستعماريّة الأميركيّة التي لا تُحدّ إلا بهدف ديمومة السيطرة العالميّة. لكن أوباما كان يرى أن هناك استعمالين محتملين للقوّة العسكريّة الأميركيّة: استعمال غبي من قبل سلفه بوش (أي أن استعمال القوّة كان يتصف بالغشم والتسرّع والإفراط) مقابل استعمال ذكي (عندما يكون الاستعمال مُحدّداً ومدروساً و«عن بعد» لو أمكن للتقليل من الخسائر البشريّة والماديّة الأميركيّة). والاستعمال الثاني أقل كلفة من الأوّل لأن الإفراط في استعمال الطائرات من دون طيّار (والتي منذ عام ٢٠٠٤ — بحسب دراسة لـ«مكتب الإعلام الاستقصائي» — قتلت من المدنيّين والمدنيّات بين ١٠٪ و٢٤٪ من مجمل الضحايا، وأن القصف الأميركي هذا أودى بحياة ١٧٢ طفلاً وطفلة في باكستان. (طبعاً، لا تتفق الحكومة الأميركيّة مع نتائج الدراسة لأن التصنيف العسكري الأميركي بات يعتبر أي ذَكَر مسلم في «سن العسكريّة» هو إرهابي لو سقط نتيجة القصف الأميركي). وهذا التمييز بين «القوّة الغبيّة» و«القوة الذكيّة» يؤدّي إلى تعميم نظريّات الانكفاء العسكري الأميركي في صحافة الخليج (وصحافة لبنان الرديفة) التي تحبّذ المزيد من القوّة العسكريّة الأميركيّة المفرطة في وحشيّتها. كما أن «القوّة الذكيّة» التي تحدّث عنها أوباما تعتمد على جيوش محليّة كي تقوم قوى غير أميركيّة بالقتال (والموت) بالنيابة عن أميركا. لهذا، فإن «قيادة أفريقيا» في القوات المسلّحة الأميركيّة باتت أكثر نشاطاً من أي يوم في تاريخ التعاطي الأميركي العسكري مع القارة الأفريقيّة. لم تعد أميركا تثق بحلفائها الأوروبيّين من المُستعمرين (السابقين؟) لإدارة المُستعمَرات السابقة.
العامل الآخر في دور هيلاري كلينتون ينبع من دورها كامرأة طامحة للعب دور الرئيس الأميركي. ونظريّات النسويّة في دراسة العلاقات الدوريّة تأخذ في عين الاعتبار المفارقة الكبرى: ان النساء بصورة عامّة أقلّ (بنحو عشرة بالمئة أو أكثر، حسب البلد) تأييداً وحماسة من الخيار العسكري من الرجال (وتفسير هذه الظاهرة يمكن أن يتراوح بين نظريّات النوع الجنسوي المُغاير، وبين نظريّات الاختلاف في التنشئة الذكوريّة التي، منذ الولادة، تميّز بصورة فاقعة في معايير التربية والتلقين بين الذكور والإناث). لكن المفارقة تكمن في أن المرأة كقائدة سياسيّة تحتاج، من أجل أن تنال تأييد الذكور والإناث على حدّ سواء، إلى الظهور بمظهر القادر أو الراغب في انتهاج الخيار العسكري. والتجارب التاريخيّة المُعاصرة حول قيادات نسائيّة تدلّ على حاجة المرأة إلى استعمال القوّة في سنواتها في السلطة: هذه كانت حكاية أنديرا غاندي في الهند وبنازير بوتو في باكستان ومارغريت تاتشر في بريطانيا، وطبعاً غولدا مائير في دولة العدوّ الإسرائيلي (لكن مثال دولة العدوّ يختلف لأن الإجرام والإرهاب من متطلّبات الحكم والاحتلال هناك). وعليه، فإن هيلاري كلينتون كانت تبني سلطتها السياسيّة منذ ولايتها في مجلس الشيوخ بناءً على الظهور بمظهر الصقر العسكري والمُستعدة لاستعمال القوّة رهن أوّل إشارة.
ومجموعة الرسائل الإلكترونيّة الخاصّة بهيلاري التي اضطرّت وزارة الخارجيّة الأميركيّة إلى نشرها بسبب احتفاظها بحافظ إنترنت خاص بها في مخالفة لشروط حفظ السريّة في الحكومة الأميركيّة، تكشف كيف أن مصائر الشعوب العربيّة والإسلاميّة ليست إلا علفاً لطموحات الساسة في الغرب. كان مصير ليبيا يتقرّر بناء على طموحات امرأة لا تتورّع عن قلب المواقف وتغيير السياسات والتحوّل من أجل كسب مقعد في مجلس الشيوخ، أو الرئاسة في ما بعد (أو أن القرار كان يتراوح بين طموحات هذه السياسيّة وبين مصالح الإمبراطوريّة التي لا يحدّ جشع سيطرتها حدود). والكارثة الليبيّة التي أشرفت عليها الإدارة الأميركيّة (بمشاركة النظام القطري والإماراتي وحلفاء «الناتو») كان لها أبعاد تتخطّى بمئات الأميال حدود ليبيا: هي، باعتراف أميركا، لم تضخ أسلحة فتّاكة في الحرب السوريّة فقط، بل وصلت الأسلحة من ليبيا إلى مالي والنيجر ونيجيريا وتشاد والسودان ومصر وتونس والجزائر ولبنان ومصر وتركيا، وهذه الأسلحة بعضها مصدره إرث النظام القذّافي، وبعضه الآخر من مخلّفات التدخّل العسكري العربي والغربي.
والسمة المشتركة في كل عمليّات الغزو والاحتلال الأميركي تعتمد على عنصر نموذج: أداة محليّة على نمط أحمد الشلبي أو أياد علاوي أو فؤاد السنيورة. ويكون العنصر هذا غالباً شخصاً من بقايا النظام السابق الذي تعمل واشنطن على تغييره: أياد علاوي كان مرتبطاً بشبكة مخابرات نظام صدّام في أوروبا (كان ذلك قبل أن يسوّق خبر محاولة الاغتيال بفأس) أو رياض حجاب الذي كان قد نشأ وترعرع في حضن حزب البعث في دير الزور أو عمر سليمان الذي وقع الاختيار عليه من قبل أوباما وهيلاري كلينتون بعدما فشلت الحكومة الأميركيّة في إبقاء حسني مبارك في سدّة الرئاسة، أو محمود عبّاس الذي وقع اختيار «الموساد» عليه (حسب رواية مدير سابق لـ«الموساد») كي يخلف ياسر عرفات في حياته. في الرواية الليبيّة، الرجل كان محمود جبريل. وجبريل هذا لم يكن أبداً بعيداً عن النظام الليبي، بل كان من الحلقة المحيطة بسيف الإسلام القذّافي. والطريف أن هيلاري عقدت اجتماعاً معه في آذار من العام ٢٠١١ (أي بعد نحو سنتين من لقائها الشهير في مقرّ وزارة الخارجيّة مع معتصم القذّافي، أثناء السنوات الحميميّة في العلاقة الأميركيّة ــ الليبيّة). وكالعادة، يعرض مسؤول المعارضة المحلّي كل ما تريد الإدارة الأميركيّة أن تسمعه (كما أن أحمد الشلبي كان قد وعد الإدارة الأميركيّة وصهاينة الكونغرس بأن العراق «مُحرّراً» سيوقّع على اتفاقيّة سلام مع العدوّ الإسرائيلي). وفي الاجتماع في باريس في آذار ٢٠١١، قدّم جبريل كل ما يريد الأميركيّون سماعه. لم يكن التدخّل الأميركي بشق النفس في ما بعد، كما صوّر الإعلام. والعلاقة الأميركيّة مع حركة معارضة ليبيّة ليست جديدة البتّة: أقامت الحكومة الأميركيّة في عهد ريغان علاقة قويّة مع فئات «ليبراليّة» (بالمفهوم العربي الرجعي) وإسلاميّة، وموّلت ودرّبت وسلّحت عناصر عديدة من «الجبهة الوطنيّة لإنقاذ ليبيا» قبل أن تفقد الأمل من إمكانيّة نجاح مخطّطاتهم التي كانت أشبه بخطط خليج الخنازير (وصل بعض هؤلاء من تلك المعارضة إلى السلطة بعد سقوط نظام القذّافي).
كلينتون كانت تبني سلطتها بناءً على الظهور بمظهر الصقر العسكري

وانتابت الإدارة الأميركيّة في حينه نزعتان: نزعة متحفّظة لأنها تريد أن تركّز على الحروب الأميركيّة الجارية في العراق وأفغانستان وأخرى متحمّسة تقودها كلينتون لأسباب سياسيّة محضة (وكان يحيط بها فريق الصهاينة من الشباب الذين كانوا ولا يزالون يدافعون عن وجهة النظر التي تقول إن من مصلحة الإمبراطوريّة الأميركيّة دعم الشباب الديموقراطي في العالم العربي من أجل احتوائه واستيعابه ودفعه نحو السلام مع العدوّ الإسرائيلي، ومن أجل أن يحفظ الشباب العربي الجميل للدعم الأميركي). واعترف وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس (الموروث من إدارة بوش، والذي أنهى عمله في إدارة بوش بخطاب شهير في كليّة «وست بوينت» عندما قال إن أي رئيس أميركي مُقبل يُقرّر أن يغزو دولة ما في الشرق الأوسط يحتاج إلى فحص في قواه العقليّة) بأن كان هناك مَن عبّر عن تخوّفات من مضاعفات إسقاط النظام الليبي. كما أن القذّافي كان، حسب ما نقلت «نيويورك تايمز» عن مدير وكالة الاستخبارات الدفاعيّة في حينه، «يحفظ الاستقرار». والقذّافي غيّر كل مواقفه وسياساته (والمؤشّر الأكبر في تغيير السياسات لمراضاة أميركا يكمن دائماً في حسن العلاقة مع العدوّ الإسرائيلي، ويُذكر أن القذّافي أرسل حجاجاً إلى القدس المحتلّة لإثبات حسن النوايا لصهاينة الكونغرس) وسلّم كل ما بحوزته من سلاح وخطط سلاح دمار شامل إلى المحتل الأميركي كي يرتقي إلى مرتبة «الحلفاء العرب المعتدلين».
وكانت كلينتون تحضّر بذكاء لمعركتها الانتخابيّة عبر معارضة كل سياسات أوباما في السياسة الخارجيّة من جهة اليمين، والتصلّب كي تفوّت الفرصة على أعدائها لانتقادها في ما بعد على أساس ضعف مواقفها ومعارضتها للعمل العسكري (لم يكن أوباما يأخذ برأيها في معظم الأحيان، وكان هو يقرّر مسائل السياسة الخارجيّة بمفرده، للمرّة الأولى منذ عهد ريتشارد نيكسون، وإن كان أوباما يفتقر إلى شخصيّة مثل كيسنجر يعتمد عليها في هذا المجال من السياسات). وقرّبت هيلاري نفسها من روبرت غيتس كي تبدو في صف اليمين في السياسة، كما أن الخيار العسكري كان دوماً هو المُفضّل عندها (وهي تزهو هذه الأيّام كيف أنها حاولت قدر المستطاع أن تُبقي على حسني مبارك في الحكم إلى أبد الآبدين).
لكن السرديّة الغربيّة والعربيّة عن ليبيا في ذلك الربيع كانت مرسومة بعناية من قبل الحكومات المعنيّة ووسائل الإعلام المتعاونة. التضخيم الإعلامي الذي رافق أو حضّر لمرحلة غزو حلف «الناتو» لم يسبق له مثيل... إلا عندما تحضّر أميركا لغزو بلد عربي. أرقام مضخّمة وسيناريوهات مختلقة مُستقاة من الحرب العالميّة الثانية وجرائم حرب هتلر. وكانت محطة «الجزيرة» (قبل أن تفقد كل صدقيّتها وقبل أن تفقد جمهورها وتصبح صوت الإسلاميّين الصادح في البراري) تدوّي في تقارير تنبئ بمشيئة النظام القطري الذي حلم بإعادة رسم المنطقة وفق أهوائه الإسلاميّة (متحالفاً بذلك مع الحكومة التركيّة). وبسبب غياب الدور السعودي في آخر أيّام عبدالله بن عبد العزيز أدار حمد بن جاسم الجامعة العربيّة كما يشاء من دون معارضة أو رقيب (كما تديرها اليوم العائلة السعوديّة المالكة). كانت «الجزيرة» مع وسائل الإعلام الغربيّة تتحدّث عن ضحايا بعشرات الآلاف، وهناك مَن تحدّث في حينه عن أكثر من مئة ألف ضحيّة. هذا التهويل كان مقصوداً طبعاً. ولم نعلم حقيقة أكاذيب تلك الحقبة إلا بعد الغزو. لم تقم منظمّات حقوق الإنسان الغربيّة (وهي باتت الرديف «الأخلاقي» للجيوش الغربيّة الغازية في منطقتنا) بتصحيح الصورة أو بالتحذير من استغلال قضايا حقوق الإنسان من قبل حكومات الغرب لتسويغ حروبها وتدخّلاتها العسكريّة. لكن منظمة «هيومن رايتس ووتش» انتظرت انتهاء الغزو لتوضح بخجل أن الرقم الحقيقي لضحايا نظام القذّافي بلغ ٣٥٠ متظاهراً (أي أقلّ من ثلث ضحايا قمع نظام مبارك الذي دعمته الحكومة الأميركيّة حتى الرمق الأخير) ــ ولا يمكن التهوين بعدد الضحايا، لكن الرقم لم يكن مئة ألف. غير أن التعاطي والتداول بعدد الضحايا لم يكن في حسبان الحكومة الأميركيّة إلا للاستغلال السياسي. حتى الساعة، ترفض الحكومة الأميركيّة أن تذيع تقديراتها الرسميّة (السريّة) لضحايا غزوها واحتلالها للعراق وأفغانستان (والرقم بحسب تعداد منظمّة طبيّة بريطانيّة قد يتعدّى المليون في حالة العراق فقط).
لكن حجّة هيلاري كلينتون لم تكن مدعومة فقط من الحليفين البريطاني والفرنسي، بل أيضاً من الحلفاء العرب. وهذا التوافق بين الحلفاء العرب (أي الأنظمة القطرية والإماراتية والسعودية) وبين الحلفاء الغربيّين هو الذي رجّح كفّة الغزو والتدخّل عند أوباما الذي وافق على خطة التدخّل، وإن تحت مسميات واهية من قرار في مجلس الأمن (سُمِح للمندوب اللبناني بتقديمه هناك كي لا يبدو أميركيّ المنشأ). طبعاً، لم تكن الحكومة الأميركيّة في وارد احترام القرار بحذافيره (قد يكون هذا الاستهتار بقرار الأمم المتحدة من قبل الحكومة الأميركيّة وتطويع القرار لغايات هجمة من حلف شمال الأطلسي السبب الرئيس لتغيّر موقف الصين وروسيا نحو مبادرات الولايات المتحدة في الأمم المتحدة).
لكن التقرير في «نيويورك تايمز» يكشف أيضاً أنّ الحكومة الأميركيّة أجهضت مشروعاً لتلافي حرب مدمّرة في ليبيا، إذ إن مسؤولاً عسكريّاً رفيعاً في ليبيا تقدّم بمشروع لوقف إطلاق النار يسبق ترحيل القذّافي وعائلته عن البلاد، لكن الحكومة الأميركيّة تجاهلت المبادرة (كما أن الحكومة الأميركيّة تجاهلت مشروع القرار الفرنسي في ١٩٩٠ لتلافي الحرب الأميركيّة ــ العربيّة ضد الجيش العراقي والشعب العراقي في عام ١٩٩١)، وكانت هناك مساع عبر قنوات أخرى لتجنيب البلاد حرباً غربيّة ــ عربيّة مُدمّرة، لكن لم تكن الدول الغربيّة (وتابعاتها العربيّة الخليجيّة) في وارد وقف الحرب. كانت هناك طموحات النفوذ والنفط ووهج النصر اللائح. وكالعادة، تتذرّع الحكومة الأميركيّة بأن عروض السلام لم تكن «جديّة». لكن متى قبلت الحكومة الأميركيّة بعروض سلام بعدما تقرّر شنّ حرب؟
طبعاً، فإن الطاغية الليبي سعى إلى تذكير الحكومات الغربيّة بمدى مساعدته لهم وكيف يجمع المعلومات عن «التنظيمات الإرهابيّة» ــ بالمقياس الأميركي ــ وكيف يُعذّب إسلاميّين في سجونه. وهذه حال الأنظمة عندما تواجه خطراً غربيّاً محدقاً. تسعى إلى طمأنة الغرب الصهيوني بأشنع الوسائل (كما أن رامي مخلوف في سوريا ــ هل لا يزال متفرّغاً لأعمال البرّ والإحسان؟ ما أخباره، يا ترى؟ ــ حاول بعد اندلاع الانتفاضات في سوريا في أوّل حديث صحافي له أن يُطمئن العدوّ الإسرائيلي).
لكن تجمّع الحماسة العربية الخليجية من أجل المساهمة في إقصائه كان في جانب منه انتقاميّاً لأن القذّافي لم يكن محبوباً من قبل زملائه الطغاة، كما أنه وقع في مشكل مع الحكم السعودي (بناءً على سوء فهم لأن الملك السعودي، عبدالله ــ الذي يعصى الفهم البسيط عليه ــ ظنّ أن القذّافي في كلام له في جلسة مفتوحة للجامعة العربيّة كان يذمّ الملك فهد، فيما كان هو يكيل المديح له). والأحكام القاسية التي كان القذّافي يصدرها ضد بعض زملائه الطغاة كانت مزعجة لهم. لكن النظام العربي الرسمي نظام محافظ ويسعى إلى الحفاظ على نظام الطغيان على أن لا يخلّ طاغية بهذا النظام، أو يسعى إلى قلب نظام الحكم في دولة ما (القذّافي كان يدعم جهاراً حركات معارضة في دول عربيّة شتّى). كما أن الرغبة الجامحة لدى النظام القطري بالسيطرة على مقدّرات العالم العربي برمّته (كم يبدو هذا الطموح غبيّاً اليوم، فيما يُسيّر آل سعود قطر وغيرها من أعضاء مجلس التعاون الخليجي) زادت من حماسة المشاركة العربيّة في العدوان على ليبيا.
ومحمود جبريل والمعارضة «الليبراليّة» خاطبت العالم بلسانين، على عادة المعارضات العربيّة الموالية لواشنطن: هي خاطبت دول الخليج بلسان محافظ وخاطبت الغرب الصهيوني بلسان أصول مخاطبة الكونغرس. والمعارضة التي نجحت في غضون أشهر فقط في إرجاع وضع المرأة إلى عقود إلى الوراء كانت قد أغدقت وعود التحرّر على هيلاري كلينتون ــ هذا لا يعني أن الإدارة الأميركيّة تحرص البتّة على حقوق النساء في أي دولة في العالم، لكن هيلاري لعبت دور الحريصة على حقوق الأخوات (خارج الأنظمة الموالية للمشيئة الأميركيّة).
وشعار «حماية المدنيّين» حسب القرار المطّاط الرقم ١٩٧٣ الصادر عن مجلس الأمن تحوّل بسرعة إلى قرار عدوان غير مشروط. وتعترف مستشارة هيلاري كلينتون نفسها، آن ماري سلاتر، اليوم (في المقالة المسهبة نفسها في «نيويورك تايمز») بأن حماية المدنيّين لم تعن لهم حماية المدنيّين الذين يعيشون في مناطق لا تسيطر عليها المعارضة المدعومة خارجيّاً. والمدنيّون والمدنيّات (كما في سوريا) صنفان بالمعيار الأميركي ــ الغربي: صنف يستحق الدعم والاهتمام، وصنف آخر يستحق القصف من الجوّ والقتل. لا بل إن جرائم الحرب من قبل فصائل المعارضة المُسلّحة بدأت مُبكّراً، لكن قطر كان تغدق السلاح على فصائل المعارضة المسلّحة (وتصنّعت الحكومة الأميركيّة في ما بعد عدم القدرة على منع قطر، كأن النظام القطري أو السعودي يرد طلباً للحاكم الأميركي). وعبّرت هيلاري باسم الإدارة عن رضاها: قالت إنها انتشت لمشهد قوّات عربيّة تشارك في القصف في ليبيا. كانت لحظة تاريخيّة، أو قل (وقولي) إنها إيذان لمرحلة جديدة. يُسمح لقوّات الطغاة الخليجيّين بالمساهمة في القتال بالنيابة عن التحالف الأميركي ــ الإسرائيلي، كما يُسمح لهم بالموت ذوداً عن مصالح ذلك التحالف. إنها معركة الهويّة العربيّة في القرن الواحد والعشرين ــ لكن بقيادة أميركيّة، كما تصرّ أنظمة الخليج.