أجمعت مختلف الآراء على أن معركة القصير مثلت تحولاً في مسار الصراع السوري، ومنها انتقل الجيش السوري من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم. ولا يختلف اثنان على الأهمية القصوى، وربما المفصلية، لمعركة القصير إثر سقوطها بيد القوات النظامية.إلا أن حقيقة التحولات في مسار المعركة السورية بدأت قبل ذلك بكثير، وانتقال الجيش السوري من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم جرى منذ شهور طويلة وربما سنة أو أكثر. ولم تكن القصير إلا مرحلة متقدمة من تحولات الصراع على الساحة السورية. ففي تشرين الأول من عام 2012، اتخذت القوات المعارضة للنظام السوري خطوة غريبة، وتعدّ غلطة في التقديرات العسكرية، وهي خطوة الهجوم على العاصمة دمشق. في غضون ذلك، أي في شهري تموز وآب كان الجيش السوري قد استكمل استعداداته، وانتهى من إعادة تأهيل لواءين وعدة وحدات نخبوبة لحرب الشوارع، وأنجز وحدات الدفاع الوطني وبدأ بعض من العافية يعود إلى صفوفه، وخاصة بعد نجاحه في استيعاب واحتواء العديد من الضربات والهجمات في أماكن عدة، والصمود في مواقع استراتيجية: وادي الضيف، الحامدية، مطارات كويروس، منّغ، أبو الضهور، وبعض النقاط المهمة في ريف حلب: خان العسل، السفيرة، نبّل والزهراء.
أمام هذه الوقائع، كان لا بد للجيش النظامي من إعادة ترتيب سير المعارك انطلاقاً من نقاط ارتكاز أساسية ساهمت في استعادته المبادرة، والبداية من دمشق وما آلت إليه من فشل وإخفاق، وما حدث لاحقاً من تداعيات نتيجة فشل هجوم المعارضة والخسائر البشرية الضخمة في صفوف المهاجمين.
عادة تخضع التشكيلات العسكرية لقيادة تدرك ماهيّة المهمات ومكامن القوة والضعف، مرتكزة على نجاحات وتراكم انتصارات كي تمضي في ترجمة الغايات والأهداف، وخاصة الاستراتيجية منها. وفي الحالة السورية، أي استهداف العاصمة مركز النظام وثقله، مسألة لا يجوز أن تخضع للتجريب والمغامرة، بل تكون حصيلة إنجازات وانتصارات. ولذلك كانت خطوة الهجوم على العاصمة دمشق مفاجئة، وقفزة في المجهول وحرق مراحل واختصار مسافات واستبدال التدرّج بالحسم السريع. في العلم العسكري تعدّ هذه الخطوة تهوّراً وانتحاراً.
توافدت كل المجموعات والفصائل إلى مكمن القوة _ إلى العرين. في الحرب العالمية الثانية، فعلها جوكوف في برلين، فزجّ بكل قواته نحو مقرّ النسر (قيادة هتلر)، ونتيجة الهجوم سقط مئة ألف قتيل روسي، لكنه حسم المعركة متجاوزاً الحصار والتدرّج وتحرير المدن الأطراف، مختصراً كل المسافات إلى القيادة مباشرة، ولكنه جوكوف، بينما الذين اندفعوا نحو دمشق كانوا قوى مبعثرة مشرذمة ضعيفة، تفتقد التنظيم فيما بينها، تعتمد المبادرة الفردية، في كل الحالات ليست محترفة.
هل صحيح أن المهاجمين لم يكونوا يدركون حقيقة قوة النظام في العاصمة وعديد جنوده ومستوى تسليحه وحجم أنصاره، حيث الوحدات الخاصة وقوات النخبة والفرقتان 18 و14 والحرس الجمهوري وسرية المداهمة وسرية الدوريات والفرقة الرابعة وعشرات الآلاف من عناصر الأجهزة الأمنية والمتطوعين من وحدات الدفاع الوطني وعصائب أهل الحق ولواء الفضل وآخرين؟ هذا الفائض الضخم من العسكر كان ينتظر خطأ كهذا، وكأن مَن أرسل قوات المعارضة إلى دمشق استدرجها إلى حيث يريد النظام.
في تلك المعركة غير المتكافئة، انكسر التوازن العسكري على الأرض، وبالرغم من استهداف الطائرات الإسرائيلية مقارّ الحرس الجمهوري (اللواءين 104 و105، وبعض وحدات النخبة ومستودعات الأسلحة النوعية في قاسيون ومطار دمشق) نجح الجيش السوري في احتواء الموقف واستيعاب الضربة.
في تقدير المخططين للهجوم على العاصمة ثمّة حق لا يختلف اثنان عليه من زاوية أن سقوط العاصمة يعني سقوط الحكم. هذا صحيح، لكن الغريب وغير الصحيح على الإطلاق، هو افتراض أن يكون المخططون للمعارضة للهجوم على دمشق قد أساؤوا تقدير الموقف العسكري إلى هذه الدرجة.

ضربة انتحارية... إمّا قاتل أو مقتول

لكن حقيقة الأمر أن المهاجمين على العاصمة آنذاك لم يخطئوا الحساب. فهم يعرفون قوتهم جيداً ويعرفون قوة خصمهم من ناحية ثانية على نحو واضح، ويعرفون أن قوات النظام أقوى بما لا يقاس من قواتهم، وظروفهم أسوأ بكثير من ظروف جيش نظامي مجهّز ومدرّب ويمكنه استحضار الإمدادات ساعة يشاء، ولن يكون بإمكانهم إضعاف قوته بينما لم يكن لديهم ما يزيد من قوتهم ويعزز موقفهم. ولو كانت المسألة مسألة احتساب إمكانية الربح والخسارة لتريّثوا ولم يأتوا على الهجوم بانتظار توافر الظروف للمعركة من أجل الانتصار.
المعارضة تدرك عبر أكثر من سنة ونصف سنة من القتال الطاحن أنها لا تستطيع هزم الجيش السوري. فقد كانت الأشهر الطويلة من الصراع أكبر دليل لديها على فارق القوة والقدرة على الاستمرار والتجييش، لكنها أصرّت على الهجوم على العاصمة دمشق وليس لديها خيار آخر، فربما نجحت في غفلة من الزمن، لكنها لو لم تبادر إلى الهجوم لكانت قد استسلمت بينها وبين نفسها ويئست من أيّ حظّ في الانتصار.
ومن المعروف أنه في العلم العسكري _ السياسي يفترض بالمعارضة أن تشن هجوماتها من الأطراف باتجاه المدن، وعليها أن تقضمها الواحدة تلو الثانية وتحتفظ بها، وصولاً إلى محاصرة العاصمة، ثم الإطباق عليها لكي تنتصر، لكن هذه الآلية كانت بعيدة المنال في الصراع السوري. فالمعارضة لجأت في بداية الصراع إلى الهجوم، لكن من دون خطة واضحة، فانتشرت في مختلف أنحاء سوريا، وسبّبت إرباكاً كبيراً للجيش، لكن حركتها افتقدت التركيز والسير في عملية التدرّج نحو العاصمة.
أما الجيش النظامي، فبدا، في بداية الأمر، منجرّاً من منطقة إلى أخرى لإخماد نيران المجموعات المسلحة المنتشرة في كل مكان، وكان في موقع دفاعي بحت، لكنه مع تقدم الأعمال العسكرية استطاع أن يستعيد زمام المبادرة بالتدريج وفهم مخاطر اللعبة، فعمد إلى وضع خطة قضت بتنظيف المدن الرئيسية، وخصوصاً حماه وحمص، وحاصر تمدّد المعارضة في حلب، وحاول تكراراً اقتحام الأرياف المختلفة لرد المعارضة عن المدن.
بنتيجة الصراع، وبعد استرداد الجيش زمام المبادرة، وجدت المعارضة نفسها في مأزق العجز عن التقدم وتحقيق انتصار فعلي على قوات النظام، فلم يكن أمامها إلا تحشيد قوة كبيرة وشن هجوم سريع على العاصمة لعلّها تفلح في السيطرة عليها كفرصة أخيرة لها في الصراع. ولم يكن الهجوم على دمشق إلا لعبة التقاط لحظة ما، في غفلة ما، لعلّ وعسى تنجح بالمصادفة، لكنها لم تكن البتّة خطة مدروسة ومبكّلة بعلم عسكري يؤدي نتيجة مطلوبة.
وإزاء الفشل البديهي في دمشق، كان على المعارضة أن تقدم تبريراً لفشل هجومها، فاعتمدت صيغة القصير كمعركة مفصلية وشديدة الأهمية في الصراع السوري وراحت تطبّل للقصير وتجعل منها المعقل الأكبر والمعركة الفصل في الصراع.
لقد كانت معركة القصير الاختبار الحقيقي في موازين القوى وهزيمة فعلية لأحدهما، لكنها لم تكن بداية الهزيمة التي حصلت في معركة دمشق، ولكن في القصير تثبَّتَ كسر التوازن. لهذا كانت معركة القصير معنوية تتجاوز أهميتها المادية، ففيها اجتمعت عوامل وخبرات ونماذج وأساليب كثيرة، وفيها وضعت حماس كل خبراتها، و«النصرة» كل مهاراتها، والجيش الحر كل عناصره، والجيش النظامي كل ترسانته، والروس أقمارهم والغرب تقنياته، و«العربية» و«الجزيرة» كل طاقاتها الإعلامية، والخليج كل أمواله، وحزب الله خيرة رجاله.
والقصير يمكن وصفها بالكوريدور أو الممر لمحافظات عدة، بسقوطها يجري تأمين قاعدة النظام الخلفية. وبذلك يستعيد 3 محافظات دفعة واحدة: حمص، حماه، دمشق، وتستريح محافظتا اللاذقية وطرطوس. كانت معركة القصير امتحاناً لما ستؤول إليه المعارك الكبرى في حلب ودرعا. لقد كان الكوريدور الذي سيفتح باقي الأوتوسترادات إلى باقي المدن. ولا شك أن معركتي دمشق والقصير مهّدتا الطريق وأسستا استراتيجية جديدة تبدو ملامحها ونتائجها قريباً في المعارك التالية.

سقوط محتوم هنا... نهوض محتوم هناك

لم تكن معركة القصير على روزنامة النظام بتلك السرعة، إنما فرضتها المعارضة التي حاولت التعويض عن معركة دمشق فاختارت منطقة ساقطة بالعلم العسكري (على تخوم حزب الله) فكان انتصاراً إضافياً للنظام. هاتان المعركتان حددتا مصير المعارضة، وتراجعها السريع، ودفعتا النظام إلى اعتماد تكتيكات جديدة تناسب الوقائع المستجدّة. بعد معركة القصير، كثر الحديث عن معركة حلب، وعن هجوم مرتقب على غرار ما حصل في غرب العاصي، لكن الوقائع والمعطيات تشير إلى عكس ذلك، فالعمليات العسكرية تتواصل ببطء مع استكمال العزل والالتفاف والخنق، وهذه الخطة تتضمّن، على ما يبدو، استنزاف أحياء حمص السبعة والرستن وتلبيسة، وترجّح معلومات متواردة أن ينتهي في شهر آب، وتعلن حمص مدينة آمنة، وكذلك ريف دمشق، مع استكمال تطهير السلسلة الشرقية مروراً بيبرود _ الزبداني _ سرغايا _ مضايا، وبذلك يستطيع النظام سحب 150 ألف جندي (حمص، دمشق وريفها) وإرسالهم إلى مناطق أخرى.
بعد بلوغ النظام مرحلة من النضج العسكري، بدأ انتهاج أسلوب الموت السريري للمعارضة، دون إعلان الوفاة، فمعظم مناطق الريف الدمشقي تعيش حالة حصار مطبق، مقطّعة الأوصال، محاصرة، تعاني نقصاً في الذخائر وشحّاً في الرجال، ولكن النظام لا يستعجل في اقتحامها أو حسمها، فهو يريد إطالة الاستنزاف، وهي لعبته القديمة المعروفة بـ«حافة الهاوية». مع مرور الوقت ونفاد كل خطط الدول الداعمة للمعارضة، ونجاح النظام في تجاوز القطوع تلو الآخر، أيقنت الوحدات العسكرية المترددة والمتشككة في بقاء النظام، وتراجع الحلف الغربي، بسقوطه وعجز المعارضة عن توحيد صفوفها، أصبح منطقياً انضمام هؤلاء إلى زملائهم في القتال، وهذا سيعطي النظام فائضاً كبيراً من القوة لاستكمال تحرير بقية المناطق. وهذا ما يفسر حالياً توسّع رقعة القتال دفعة واحدة، الغوطتان _ ريف حماه_ وهجوم مركزي على باقي مناطق حمص، وتعزيز مناطق حلب والتمسك بدرعا، وشن عمليات نوعية في إدلب والرقّة.
بانتظار نضج الحلول يكون النظام قد استعاد المناطق الرئيسية، وأعاد وصل أوتوسترادات المناطق الحيوية، ورتّب بعض الأوضاع الاقتصادية، وآوى لاجئي المناطق المستعادة، وهذا يعدّ موتاً بطيئاً لفصائل المعارضة التي بدأت هزيمتها بعد فشل هجوم دمشق.
* كاتب لبناني