جملة المتغيّرات التي أضعفت قبضة الطوق حول سوريا لم تثن نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف عن استلهام التجربة اللبنانية، فطرح صيغة «لا غالب ولا مغلوب» _ الصيغة التي أنهت أحداث 1958 _ كحل للأزمة السورية. ويعبّر الطرح عن ميلٍ دولي للتسوية، لا لحسم الموقف لصالح طرف دون آخر، رغم أن سير المعارك على الأرض يظهر بجلاء غلبة واضحة للجيش السوري على أطياف المعارضة السورية المعسكرة... وإنْ دلّ هذا الأمر على شيء، فإنما يحسم الجدل حول عالمية الصراع في سوريا، وعلى أنه ليس صراعاً بين معارضة محلية وسلطة قائمة، وأكثر من ذلك، أن الحل تجاوز مسألة التوازن المسلح الداخلي في سوريا إلى رغبة وتقاطع مصالح الأطراف العالمية، التي تنحو في ما بينها باتجاه التسوية والتقاسم والشراكة، لا باتجاه الصراع.ويأتي طرح بوغدانوف ليكون عنواناً لإخراج خارطة طريق ما، تمهّد لمؤتمر «جنيف 2»، في وقت صعّدت فيه الولايات المتحدة موقفها في مؤتمر أصدقاء سوريا في الدوحة منذ أسابيع، داعية إلى تسليح المعارضة السورية، تبعه توضيح أن الغاية من التسليح هي التوصل إلى نوع من التوازن العسكري مع النظام، بما يؤمّن إمكان بدء التفاوض بين الأطراف المعنية.
وإنْ دلّت تطورات الموقف المذكورة على أمر، فإنما تشير إلى تقدم واضح لقوى تحالف الشرق الصاعدة، الذي حقق جملة انتصارات في سوريا، وفي الدول الإقليمية وبحارها، في مقابل تراجع وضعف محور الدول الغربية وحلفائها بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، فاستطاع تحالف دول الشرق فرض شروطه في المنطقة، وتمكنت روسيا خصوصاً من بسط نفوذ مهم لها في المشرق العربي.
وإذا شئنا سبر مواقف الدول والساحات واحدة واحدة للمسنا أسباب ضعف القبضة المطوّقة لسوريا ميدانياً. فالموقف الأميركي مصاب بانتكاسة أزمتها المالية _ الاقتصادية المعروفة، بما لا يؤهل الولايات المتحدة الأميركية للتدخل العسكري المباشر، لأن ذلك سيمثل دخولاً في ورطة لم تخرج منها بعد في معارك أفغانستان والعراق هي بغنى عنها، لا بل صممت على عدم الانخراط فيها مجدداً، مكتفية بأداء دورها البراغماتي المعروف بالتأقلم مع التطورات ومعايشتها. لم تستطع المعارضة السورية إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، وكانت تلك رغبة كل الدول الغربية، بما فيها الولايات المتحدة، لكن عندما ثبتت صعوبة إسقاطه، بدأت واشنطن تعيد النظر في موقفها، فسكتت عن الأمر وطرحت مع موسكو تسوية لا تشترط سقوط الأسد.
ينسحب الموقف الأميركي على مجمل الساحات المعنية بالصراع، ليتأجج في غير ساحة. ولا ريب في أن الولايات المتحدة الأميركية ستتعامل مع التطورات وفق نظرتها التاريخية البراغماتية، بتسوية الموقف مع المنتصر. وهذا ما سيتظّهر في بقية الساحات، من مصر إلى تونس فتركيا.
لكن الموقف بدا أكثر وضوحاً في التعامل مع قطر، حيث تشير المعلومات إلى أن التغيير القطري لم يكن مجرد تأقلم أميركي مع التطورات، بل مسعى لتغيير الواقع بغية إقامة وقائع جديدة تمهّد للتسوية، فكان الطلب من حمد بن خليفة التنحي تمهيداً للدخول في التسوية. كان الدور الأميركي هو المؤثر، وهو الذي يرسم المنحى الذي ستتخذه الأحداث المتتالية في بقية ساحات الحراك، مصر وتونس وتركيا، دون إغفال الدور الإيراني، الذي هدد بقطع التعاون مع قطر إثر اكتشاف شبكة استخبارية تعمل في إيران بتمويل وتوجيه قطريين.
وتأتي الأحداث في مصر لتضيف إلى مسار الصراع هذا بعداً جديداً، ولتطرح سؤالاً حقيقياً عن الرغبة العالمية، وخصوصاً الغربية، في استمرار الاعتماد على حكم «الإخوان المسلمين»، وتبني نهجهم في الحكم في أكثر من دولة. وتشير أحداث مصر إلى أن الحراك الكبير المتجدد بوجه رئيس الجمهورية المعزول محمد مرسي، وما يمثّله كرئيس منتمٍ إلى «الإخوان المسلمين»، إنما عنى التوصل عالمياً إلى خلاصة مفادها أنّ عاماً من حكم الإخوان في مصر كان كافياً لأن يتخلى العالم عن النهج، وبالتالي فما جرى في قطر، التي دعمت وصول الإخوان إلى الحكم، لم يكن إلا ترجمة لهذه القناعة.
وثمّة مَن يعتقد أن الدول الكبرى المؤثرة، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية، رغبت في إيصال الإسلام السياسي إلى السلطة بهدف حرقه تمهيداً لإخراجه نهائياً من الحكم، بغية فتح المجال لأنظمة حكم تتّسم بطابع ليبيرالي. وما أحداث مصر إلا توطئة لهذا المنحى.
الموقف عينه ينسحب على تركيا، فهناك فرع إخواني يحكم باسم «حزب العدالة والتنمية». جاء الحراك الشبابي المعارض في ساحة «تقسيم» في إسطنبول ليضفي على التحولات معنى تأكيدياً لرغبة جامحة في التخلص من حكم الإخوان، والبحث عن بدائل أكثر حداثية. ومن هنا أولى تصاريح تميم بن خليفة أن حركة «الإخوان» هي من الماضي وليست صالحة للعصر الحديث. تحرك الشباب التركي يريح الساحة السورية، فنظام أردوغان دخل بإرباك مواجهة قاسية مع الشارع التركي، وإن لم تكن بقوة التحرك المصري، إلا أن للتحرك مفاعيل مربكة للدور التركي في التفرغ للساحة السورية، فضلاً عن الضغط الروسي على تركيا لكبح جماح تدخلها بإمداد الساحة السورية بالمسلحين والسلاح، وبذلك يخف الضغط التركي على الساحات الواقعة بمتناول اليد التركية تمويلاً وتسليحاً.
ويبدو أن القيادة الإيرانية تلمّست روحية المتغيّرات الدائرة، فنحت في انتخابات رئاستها منحى معتدلاً، منفتحاً، تسوويّاً، فجاءت الانتخابات كاسحة بإصلاحي أعاد إلى الأذهان تجربة محمد خاتمي، التي جاءت في فترة تراجع التهديد الغربي لإيران بين الأعوام 1997 و2005، لكن التغيّر الإيراني لن يخفف من دعم طهران لسوريا، وبالتالي فإن التغيير الإيراني يأتي في سياق الاتجاه الدولي نحو الاعتدال والانفتاح وليس بالضرورة لتغيير التموضع السياسي لها.
قد يمثل التغيير الجاري في قطر ومصر وتركيا والمرتقب في ليبيا وتونس، مكسباً للموقف الأميركي الذي يبدو أنه، برفع اليد عن «الإخوان المسلمين»، وتبني سقوطهم من السلطات، هو انتصار لسياستهم في الاستراتيجية المتّبعة لحل أزمات المنطقة، باتجاه «جنيف 2». ومن هذا المكسب للأميركي، يصبح الحديث عن تسليح المعارضة السورية مسألة لها معنى، ويمثل ثقلاً في مسار إقامة نوع من التوازن تمهيداً للتسوية.
فإذا سُجّل للولايات المتحدة تقديم ورقة إسقاط «الإخوان المسلمين»، فإن التسليح إضافة إلى قوتها التي تستطيع، من خلال التمسك بها والحديث عنها، الدخول في مفاوضات مع الروسي من منطلق إعادة شيء من التوازن إلى المعركة السياسية _ العسكرية الجارية في سوريا، وتصبح معادلة «لا غالب ولا مغلوب» احتمالاً قائماً، وقد تكون إشارة روسية إلى الولايات المتحدة، التي تواصل السلطات الروسية وصفها بالشريك الدولي، لالتقاط اللحظة، وتفعيل التغيير الجاري بغية بلوغ التوازن المرجو قبل التفاوض على التسوية، وبذلك تتمكن الولايات المتحدة من جرّ أطياف المعارضة السورية إلى طاولة المفاوضات المفترضة.
ولا نستطيع الجزم بأن هذا المسار هو الذي سينتصر ويتحقق، لأن تحالفاً آخر لم يعرف فعلاً مدى قبوله شروط التسوية المقبلة التي ترتسم بين الولايات المتحدة وروسيا لتترجم اتفاقات وتسوية في جنيف. وهذا التحالف يضم سوريا وإيران وحزب الله، وهو تحالف مؤثر في الساحة السورية، وهو الذي تمكن من تحديد مساراتها ونتائجها حتى الآن، وبالتالي ستكون له كلمة فاعلة في قبول التسوية أو عدم قبولها، وخصوصاً أن هذا التحالف يرى أن معركته لن تنتهي في سوريا، حيث لا تزال أمامه معركة ربما أكبر وأعنف، وهي قضية فلسطين، التي لا تزال عالقة دون حل، وتحمل إمكان صراع عسكري كبير ينتهي بإعادة ترتيب المنطقة لولوج عصرها الجديد.
ومن هنا، يتمسك هذا التحالف برفع سقفه السياسي، ورفع وتيرة الصدام، وهو الذي قد يحدد، سلباً أم إيجاباً، مآل الصراع والتسوية، وفي ضوء النتيجة التي باتت شبه واضحة، يمكن لهذا التحالف الدخول في التسوية على الصيغة اللبنانية: «لا غالب ولا مغلوب» كإطار للحل، لكن بشروطه.
* كاتب لبناني