مدينةٌ وَجدَها وافدوها ولكنّ الحربَ أضاعتهم وأضاعت أهلها، تضيقُ عليهم كلَّ يوم فيما هي تكبرُ وتتسع كلَّ ساعة. هي ليست مدينةً منكوبةً لكنَّها مدينةُ المنكوبين، عندما تمشي في شوارعها تظنُّ أنَّه لا حربَ مرَّت من هنا، صحيحٌ أن ضجيجَ الحياة الصاخب أرَّق موتَ حجارتها، لكنهُ نالَ من النفوس فيها ما نال. فيكفيكَ أن تنظرَ في العيون المتعبة وأن تُصغي إلى الأنفاس المتقطّعة، لتدركَ جيداً أن زفراتِ الحرب أتقنت العبورَ منها. حربٌ تحيط وتتربصُ بالمدينة والأسود أعمى بصيرة الناظرين، لا يقَِلُّ سوادُ الموت عن سواد الفقر وصعوبة العيش فيها، إن جالست أهلها فلا حديث يشغلهم سوى هبوط قيمة حياة البشر في مقابل غلاء تكاليف معيشتهم الذي لم يعد يُطاق، في مدينةٍ معظم دَخل ساكنيها يعتمد على الوظائف الحكومية ذات الأجر الثابت، وتكاليف الحياة تزداد على نحو شبه يومي. يتناقلون هذه الأحاديث أينما التقوا، في المواصلات العامة، في الشوارع، بين أرتال انتظار الأفران والمؤسسات. لا يعرفون بعضهم بعضاً مسبقاً ربما، لكنهم ظنّوا أنهم عرفوا مدينتهم. في أحد المحال التجارية امرأة أرادت شراءَ موادّ تموينية.

عند انتهاء جدالها مع البائع حول الأسعار اللامنطقية ختمت شكواها بقولها: «نحن خلقنا لنموت مو لنعيش»، عبارةٌ سمعتُ صداها يتردّد من علب الزيت والسمن والجبن وأكياس الرز والسكر، وصناديق البيض وحتى من أكياس الشيبس وقطع البسكويت، فيكفي أن يعرف الطفل بكم أصبح ثمن قطعة البسكويت لينظر الى يده وتتحول رغبته منها إلى عيون، عيون فقط.
نكبةُ الفقر والحجر والبشر وضعت حِملها كاملاً على كاهلِ وافدي المدينة. وافدون! لا تقلُّ غربةُ اللقب على المدينة عن غربتهم عنها. لا مكان لهم في المكان، ولا زمان في عمرهم من هذا الزمان. سلّموا ما لهم من الابتسامات والفرح قبل أن يجيئوا. حياتهم الآن ركضٌ لا ينتهي، سبقوا الحرب عدواً لكنّها سبقتهم جوراً. عندما تلتقي أحدهم سيحدثك مباشرة عن بيتٍ تركهُ وراءه، لمصير لا يقلُّ غموضاً عن مصيرِ ما ينتظرُه أمامه، يتكلم عن حرقته ووجعه بصوت يرن في الآذان ليُرهق الروح. معظم أطفالهم ضمّتهم الشوارع وإشارات المرور. يتراكضون بين السيارات ويَعلقون بأكمام المارة، والمارة منهم من يديرُ وجهه بتجهم مردداً (كان ناقصنا)، وآخرون ينظرون بشفقة تشملهم: «الله يساعدنا ويساعد البشر». بعض أصحاب السيارات لا جواب لهم قبل إغلاق النوافذ.
عند إحدى الإشارات اقتربت مني فتاة، نظرتُ إليها بتفحّص، فقاطعت نظراتي بطلبها، «خالة ما بدي مصاري عطيني قلم كحلة... لو صغير». سألتها: لماذا؟ فأجابت: «بدي اتكحل مشان يصيرو عيوني أحلى»، أعدت: لماذا؟ فأجابت: «لتصير الدنيا أحلى كمان». أطلقتُ زفرة تأثرٍ عالية أخافت الفتاة، فركضت مبتعدةً، مبتعدة وغير مدركة أنها أخذت من قلم الكحل الذي لم يصل إلى عينيها، جمال العيون وسواد الكحل. في طريقٍ آخر رجلٌ منهك، يركض مسرعاً يقف عند باب الميكرو ويسأل: «بتوصل ع حيّ الدعتور معلم؟»، بعد النعم يصعد لاهثاً ويجلس معاكساً في مكان غير مخصص للجلوس إلا في حالات الزحام الشديد. يجلس معاكساً بالرغم من وجود مقاعد فارغة في الميكرو! أفكر: تُرى لمن ترك مقعدهُ ؟!
هل اكتفى من الطريق عناءه؟ اعجز عن تفسير اختياره. أتأمله طويلاً، نظراته تائهة في لا مكان، وطاقته مهدورة في لا حركة. فعلت الحياة بعينيه الخضراوين ما فعلت الشمس بجلده المحروق. عمر النكبة في عمره لم أستطع عدّه. أقول في نفسي: الغريبُ الذي يمشي تائهاً هائماً في المدينة، أتُراه يعلم أنَّا تقاسمنا الغربةَ معاً؟!
ماذا فعلنا للمدينة لترد علينا بهذه القسوة؟ ماذا فعلنا لهذه الحياة لتحاسبنا بهذه الطريقة؟
اللاذقية تلك المدينة الوديعة الهادئة، التي أقامت برفق على شاطئ المتوسط وقد ملأتها الحياة برويّة فنان. لا ضجيج يعكر صفوها أكثر من أصوات تلاطم الأمواج على الصخور. تحولنا فيها نحن الى أمواج تتقاذفنا الرياح على صخورها. كانت مدينة يقصدها جيرانها للسياحة والاصطياف، فأصبحت ملاذاً لهم من القصف والقتل. ولكن دون جدوى فقد سبقهم إليها الفقر والحرمان والتعب. اللاذقية الآن مدينة المراثي والمرثيات. لا نعلم من أين نبدأ لننتهي!
* كاتبة سورية