في السنوات الأخيرة بدأ لبنان يشهد نموّاً متزايداً لحماسة دينيّة لبعض المنتمين إلى الدين المسيحيّ الذين هاجموا، كبعض المؤمنين المسلمين، ما يعدّونه مسّاً «بمقدّساتهم»، وبدأوا بوضع خطوط حمر في الفنّ، أوسع من تلك الخطوط التي وضِعَت حول تمثيل رمز ديني (شيخ، بطريرك). ومن هنا تنادى بعض المسيحيّين الذين مسّ فيلم تنّورة ماكسي مشاعرهم الدينيّة، لمنعه من العرض، واليوم نرى الهجمة نفسها على مهرجان بعلبك، الذي استخدمت أحد عروضه الراقصة ترتيلاً مسيحيّاً، وفايسبوك المتحمّسين يضع تحت المجهر مسلسلاً سورياً وردت فيه موسيقى (مجرّد موسيقى) أحد التراتيل الكنسيّة، لكن هناك جملة من الأسئلة الضروريّة أمام ردّات الفعل هذه.
من الذي يقرّر ما هو مسموح به وما الذي يمسّ المشاعر الدينيّة؟ ففي حالة فيلم تنورة ماكسي، كما في حالة مهرجان بعلبك، رجال الدين لديهم آراء واجتهادات. إلى من تصغي الدولة (إذا افترضنا أنّ هذا هو دورها)؟ إلى هذه المجموعة أم إلى تلك؟ قد تتفتّق عبثيّة بعضهم يوماً ما عن أن يضعوا حدّاً «للشرذمة» وللأصوات «النشاز» في طوائفهم، بمأسسة العمليّة الرقابيّة أكثر مما هي عليه الآن، وذلك بتأسيس فريق يمثّل شرعيّاً كلّ طائفة، أو دين، مهمّته أن يضع «ختمه» على الأفلام والمسرحيّات أو أيّ منتج فنّي قبل عرضه؛ أو أن يحكم بعد العرض في كلّ شكوى تقدّمها مجموعة مؤمنين مُسَّت مشاعرهم الدينيّة من جرّاء عمل فنّي أو حتّى علميّ (نظريّة فرويد أو نظريّة داروين). وعندها أيّ بحث وأيّ إبداع ممكن في ظلّ تنامي غرف الرقابة الدينيّة؟ أيّ بلد هو هذا الذي سينشأ؟
اليوم هناك مجموعة من الناس تريد أن تقرّر عن كلّ المؤمنين ما الذي يمسّ مشاعر المؤمنين الدينيّة. هذه ديكتاتوريّة على الضمير. فإن كان يحقّ لمطلق أيّ مجموعة أن تواجه لاعنفيّاً وبالطرق القانونيّة المتاحة (كالمقاطعة)، فيلما أو مسرحيّة، وأن تدعو إلى هذه المواجهة كلّ الناس، وأن تطلب من الدولة أن توقف مسرحيّة أو فيلماً إن كان يتيح لها ذلك القانون (مهما كان تقويمنا له)، فإنّ هذه المجموعة، في مطلق الأحوال، لا يمكنها أن تدّعي تمثيل كلّ الناس من طائفتها أو دينها. ولهذا فالأجدر بهؤلاء أن يتكلّموا باسمهم الشخصيّ أو الجماعيّ لا باسم المؤمنين جميعاً؛ وفي حالة مهرجان بعلبك، لا يستطيع المعترضون أن يدّعوا احتكار تمثيل مشاعر المسيحيين الدينيّة.
لمَ محاولات الغاء أو فرض تغيير حفل أو عرض أو فيلم إلخ؟ لئلا تمسّ المشاعر الدينيّة للمؤمنين؟ ألا يستطيع المؤمنون أن يقرّروا أن يقاطعوا، أن لا يستمعوا، ألاّ يروا ما يمسّ مشاعرهم؟ القدرة الحقيقيّة ليست في المنع، بل في نقاش الفنّ المطروح من زاوية فنّية أو حتّى اجتماعيّة أخلاقيّة فلسفيّة، هذا وحده دليل حقيقيّ على ثقة الإنسان، والمجموعة الدينيّة بذاتها. أمّا الحماسة والانفعال من أجل المنع، فلا يعكسان ثقة لا بالذات ولا بالله، الذي هو في النهاية المدافع عن الحقيقة، وعن الكنيسة التي «لن تقوى عليها أبواب الجحيم». إنّ المشاعر التي نراها منتشرة على صفحات الفايسبوك، وردّات الفعل المطالبة بالمنع، تنضح بالعدائيّة والعنف اللفظيّ والتهديد والتنكيل المعنويّ، وهذا يطرح سؤالاً إيمانيّاً عن طبيعة الخبرة الروحيّة التي تنعكس في ردّات الفعل تلك.
إنّ الإحساس بأنّ المقدّس مهدّد لدى أي مجموعة مثير للغضب بلا شكّ، هذا أمر معروف في علم النفس، لكن ما دور القيادات الفكريّة والإيمانيّة والدينيّة والروحيّة أمام ردّات الفعل الأوليّة شبه الغريزيّة؟ أيكون بتأكيد حالة الهياج الجماعيّ، أم بتوجيهها نحو عمق روحي؟ هل الموضوع هو كرامة الله وأنبيائه مثلاً؟ لكن الله لا يمسّه شيء يقوله أو يفعله إنسان، ولا شيء يمكنه أن يمسّ أنبياءه. هل الموضوع في الدفاع عن «المقدّسات» هو الدفاع عن الوجود؟ لكن عندها السؤال هو عن أيّ وجود نتكلّم؟ هل الوجود هو وجود «كرامة» الطائفة مثلاً؟ أم هو وجود «عزّة» الطائفة، التي لا يجوز أن تظهر بمظهر «المنكسر»، «المهزوم»، «المُهان»، أمام الطوائف الأخرى؟ ولكن ما هي كرامة الطائفة وما هي عزّتها وما هو وجودها؟ الجواب الوحيد الذي له معنى هو أنّ كرامة الطائفة وعزّتها ووجودها هي من كرامة وعزّة ووجود الإنسان في تلك الطائفة؛ لكن بالنسبة إلى المؤمن المسيحي، يعلّمنا الإنجيل والتراث الكنسي، أنّ الوجود المسيحيّ هو الوجود بالمسيح، أي هو الالتصاق بالمسيح، والمسيح دعا المسيحيين إلى أن يكونوا موجودين بأن يدافعوا عن وجود وعزّة وكرامة الإنسان، كلّ إنسان (مثل السامري الشفوق) وكلّ الإنسان، في أبعاده جميعاً. الوجود المسيحيّ إذاً يكون بالدفاع عن حقوق الإنسان في لبنان، ولا يكون بضمان عزّة وهميّة، وكرامة وهميّة، ووجود وهميّ، للطائفة، بشعارات حماسيّة يستعملها السياسيون عادةً للاستفادة الماليّة والسلطويّة في بلاد لا تحترم الإنسان.
من هنا فإنّ ما نراه أمامنا من انفعالات تحت عباءة المساس بالشعور الدينيّ، وإن تكن مفهومة كردّات فعل نفسيّة أوليّة، تعبّر في رأينا ــــ من جملة ما تعبّر ــــ عن زوغان روحيّ وفصام، وعن جبن أو كسل. هي تعبّر عن زوغان روحيّ، لأنّ هؤلاء يقيمون الدنيا ولا يقعدونها إذا ورد في مشهد مسرحي أو تلفزيوني أو في كتاب ما يمسّ مشاعر البعض من المتدينين؛ أمّا عندما يسحق السياسيون يوميّاً حاضر ومستقبل شعب بأكمله في النهب المُمنهج، وإهمال التعليم والصحّة وفرص العمل، فهذا لا يستدعي من هؤلاء أيّ توتّر أو قلق أو صوت عال أو كلمة، لأنّ هذا – ويا للعجب - لا يمسّ مشاعرهم الدينيّة. وهنا يتجلّى الفصام المعروف بين الفكر والفعل عند بعض المتديّنين. فكلّ متديّن مسيحي، يعرف بالفكر، أنّ المسيح طلب منه أن يهتمّ بمأكل ومشرب ومرض الآخرين، وأنّ هذا هو المحكّ في حقيقة علاقته بالله؛ أمّا بالفعل، فإنّ بعض المتديّنين باجتماعهم الحماسيّ على مهاجمة بعض من فنّ، وبسكوتهم العمليّ عن الغياب المُمَنهج للرعاية الصحيّة والتعليم والعمل، وبسكوتهم عن سياسات التفقير البنيويّة، فهم عمليّاً يديرون ظهورهم لما قاله يسوع، ويتّبعون طرقاً من صَنيعة الطائفيّة اللبنانيّة، التي هم ضحاياها ولو لم يعوا ذلك.
وما نراه أمامنا من حماسة تعبّر عن جبن، أو كسل بأفضل الأحوال، لأنّ هؤلاء المتحمّسين لا يتكاتفون معاً ومع غيرهم من الطوائف الأخرى من أجل الإنسان في لبنان، وتحسين ظروف حياته اليوميّة، فهُم لا يظهرون حماسةً لتنظيم تظاهرة أو حتّى للخروج بتظاهرة للمطالبة بالتعليم لكلّ الناس، أو للمطالبة بالصحّة لكلّ الناس، وبسياسة نظيفة، وبالدفاع عن العمّال الأجانب ضحايا العنصريّة، وهم لا يظهرون الحماسة نفسها في تنظيم أيّ تحرّك، أو دعم عمليّ لأيّ تحرّك، من أجل الوصول إلى وطن حقيقي خادم للناس وكرامتهم ووجودهم وعزّتهم الإنسانيّة الحقيقيّة، كأبناء لله وعيال له.
بالنسبة إلى المسيحيين، يسوع وحّد نفسه بالفقراء والمظلومين، لا بترنيمة ولا بكلمة، مهما كانت جميلة، ومهما قلنا إنّ مكانها الكنيسة لا المسرح. يسوع والفقراء واحد: الدفاع عنهم دفاع عن يسوع. إنّ التعاضد مع المظلومين والعمل من أجل تحريرهم من السياسات التي تجعل حياتهم جحيماً، هما ترجمة للرغبة باتّباع يسوع، الذي نزل إلى الجحيم ليقيم البشر.
إنّ الحماسة التي رأيناها مطالِبةً بمنع فيلم أو مشهد أو موسيقى، هي حماسة محفوفة بمخاطر روحيّة كبيرة، قبل أن تكون محفوفة بمخاطر فنّية، خطر تحول المشاعر الدينيّة إلى صنم يتعبّد له المؤمنون، دون أن يدروا. المشاعر الدينيّة ليست هي يسوع، ما يمسّ المشاعر الدينيّة قد لا يمسّ يسوع بشيء، ما يمسّ يسوع هو أن يُسحق الإنسان – أيقونة يسوع - تحت وطأة السياسات الطائفيّة الاستغلاليّة. فلنوجّه الحماسة في خطّ إيجابيّ، في خطّ يسوع، خطّ الدفاع عن الإنسان المسحوق في هذا البلد.
* أستاذ جامعي