لأول مرّة منذ سقوط مبارك تقريباً تتوافر القاعدة الاجتماعية الجاهزة لمناقشة أفكار جدّية حول «الاستقلال الوطني». لم يحصل ذلك في الموجة الأولى من الانتفاض لأنّ الأولوية حينها كانت لأحداث أكبر تصدّعات ممكنة داخل السلطة، وبالتالي جعلها ضعيفة إزاء المجتمع الذي بدأ يقوى تدريجياً ويمتحن قدرته على قيادة المرحلة. بكلمة أخرى أتاحت موجة يناير للطبقات الشعبية بأن تتمدّد أفقياً وتجرّ معها الحراك إلى صراعات اجتماعية لم يكن ممكناً حدوثها لولا انكسار السلطة بالشكل الذي تمّ. هذا هو جلّ ما فعلته الأيقونة المسمّاة بثورة يناير، وهو ليس بالقليل أبداً بالقياس إلى احتجاجات وانتفاضات أخرى ما لبثت أن انتكست وانقلبت على مكتسباتها. بهذا المعنى تصبح أهميّة يناير في ما أنجزته وفي ما لم تنجزه أيضاً. شعاراتها في العيش والحرية والعدالة الاجتماعية وجدت لها حاملاً اجتماعياً مناسباً لمرحلة كان عنوانها الصدام مع العسكر والنظام القديم. «لم يتغيّر الحامل كثيراً» عندما أصبح الإخوان هم عنوان الاشتباك، وهذا دليل إضافي على أنّ «الصيرورة هي ذاتها» في الحالتين، وما تغيّر فقط هو إضافة شعار جديد إلى جملة الشعارات التي رفعتها الثورة منذ بدايتها: «الاستقلال الوطني». كان الشعار مطروحاً في السابق ولكن ليس كأولويّة على الطبقات التي أسقطت مبارك، وحين يعاد طرحه حالياً فهذا يعني أنّ ثمّة متغيراً طرأ على المشهد وفرض على الجميع بمن فيهم ثوريّو يناير ترتيباً مختلفاً للأولويات. لنقل إنّ التعاطي مع 30 يونيو هو الذي حتّم هذا التعديل، فموقع الجيش هنا بدا مختلفاً قليلاً، وكذا مواقف المؤيّدين له والمعترضين على أدائه. تكلّمنا سابقاً عن التركيب الطبقي للاحتجاج في موجتيه الأولى والثانية وعن دوره في صياغة مواقف الجميع من تحرّك الجيش في مواجهة الإخوان، ولكنّنا لم نتكلم بالقدر ذاته عن تفاعل الطبقات تلك مع تدخّلات الخارج على أثر ما حدث في 30 يوليو. البعض يعتقد أنّ الترتيب ليوم 30 يونيو بين الجيش وحركة «تمرّد» هو بحدّ ذاته تدخّل في مسار الثورة، بدليل مسارعة قوى إقليمية بعينها إلى مباركة إزاحة الإخوان (السعودية، الإمارات، الكويت... إلخ) وهي قوى معروفة بتبعيتها للامبرياليات الغربية وباحتقارها لفكرة الانتفاض من أساسها. ليس مهمّاً مناقشة هؤلاء في أمر يجزمون «بحتميته» وإنّما المهم أن تكون مواقفهم مركّبة قليلاً، بحيث لا تتعامل مع تصوّراتها عن الواقع كمعطى نهائي، أو تحكم عليه - أي الواقع - من باب التفاعل مع رموز منقضية وغير ذات صلة حقيقية به (الفلول، البلطجية، «الإعلام المباركي»، التدفّقات المالية الخليجية... إلخ). وما لم يحصل ذلك فسيكون علينا توقّع انضمام هؤلاء بالتحديد إلى قائمة المتدخّلين في 30 يونيو. وهذا ما قصدته بالتحديد بالكلام عن التعقيد في المشهد. فحين يسمح المرء لنفسه بالتقليل من شأن انتفاض ملايين المصريين على سلطة الإخوان فعليه أن يجهّز ذاته لملاقاة غضبهم وحنقهم عليه وعلى من يمثّل سياسياً. «حماس» وجدت نفسها في هذا الموقع منذ سنة على الأقلّ، أي قبل أن يتراكم الغضب على الإخوان وينفجر أخيراً، ولأسباب لا علاقة مباشرة لها بفلسطينيتها أو بموقفها من «فتح». علينا قراءة المشهد جيّداً قبل الحكم عليه من الخارج، وإذا فعلنا ذلك فسنجد أنّ الموقف من «حماس» لم ينبن على أساس حسابات سياسية، بل على مدى تفهّمها من عدمه لما تقوم به الطبقات الاجتماعية حين تقرّر أن تخلع حاكماً أو تنتفض ضدّ سلطة قمعية. وما حصل بالضبط هو أنّ الطبقات تلك لم تحتمل مشاهدة أطراف تحكم على حراكها من الخارج ووفقاً لحسابات يدخل التحالف مع الإخوان في صلبها، فأتى خروجها عارماً ضدّ الجميع بمن فيهم شركاء الإخوان الإقليميون في إدارة المرحلة، وعلى رأس هؤلاء كما نعلم «حماس» وتركيا وقطر وحزب الإصلاح في اليمن الذي تنتمي إليه العبقرية توكّل كرمان و... إلخ. كلّ هؤلاء عارضوا ما حصل على أساس أنّه قد تمّ بمعيّة الجيش وحده. موقفهم من الإخوان يعدّ تفصيلاً بالقياس إلى ما أبدوه من احتقار للطبقات التي انتفضت ضدّ سلطة مرسي و»جماعته». لنتذكّر معاً كيف تصرّفت شريحة بعينها من المصريين حين فعلت السعودية وباقي مستعمرات الخليج أمراً مماثلاً تجاه الطبقات التي انتفضت ضدّ مبارك. لقد ووجهت حينها «بغضبة مشابهة»، وبدا أنّ الأمر ذاهب إلى صدام ليس مع السلطة الجديدة فحسب بل مع القاعدة الاجتماعية التي فوّضتها بإدارة المرحلة أيضاً،وهذا ما عجزت عن فهمه وستظلّ تفعل السلالات الحاكمة هناك. من هنا نشأ التناقض مع الخليج - في رأيي أنّه حتمية تاريخية لا تستطيع أيّ كتلة في مصر تجاهلها حتى لو اتفقت مرحلياً مع بعض مستعمرات الخليج كما تفعل حركة تمرّد الآن - وبدأت قضايا مثل اعتقال أحمد الجيزاوي (بالمناسبة هل من يذكر هذا الرجل الشجاع حالياً؟ أين أصبحت قضيته ولماذا تجاهلتها كلّ السلطات التي تعاقبت على مصر في الفترة الماضية؟) والإساءة إلى المصريين في الإمارات والسعودية في أخذ موقعها من المشهد. وكما في يناير 2011 كذلك الآن ستنشأ تناقضات جديدة مع أيّ طرف يجرّب تجاهل الإرادة الشعبية التي عبّرت عن نفسها في 30 يونيو وما بعده (3 يوليو وبدرجة أقلّ 26 يوليو). هكذا تصطنع «العداوات بين الشعوب» عادة، إذ بمجرّد أن يصدر عن سلطة أو حزب ما موقف من حراك شعبي مجاور يجري تلقائياً الزجّ بقاعدة تلك السلطة - أو الحزب - في مواجهة القطاع الذي ينتفض أو يتظاهر في الجوار. هذا ما حدث بالضبط مع السوريين والفلسطينيين المقيمين في مصر، وأيّ محاولة لإظهار الأمر بمظهر مغاير ليست إلّا تقليلاً من شأن ما ووجه به حراك الطبقات الاجتماعية المنتفضة ضدّ الإخوان. بالطبع ثمّة فلول (وكذا قطاعات داخل أجهزة الأمن والجيش والإعلام) استخدموا الشوفينية القذرة كدعاية ضدّ العرب الموجودين في رابعة العدوية 6 أكتوبر وغيرها من التجمّعات القريبة من أماكن تواجد الإخوان، إلا أنّ ذلك لا ينسحب على قطاعات أخرى امتعضت من الإخوان بالضبط لأنّهم يشبهون الفلول في طريقة تعاملهم مع السوريين (وكذا الفلسطينيين) الفقراء. يمكن اعتبار هذا الأمر جزءاً من التعقيد الذي ترفض نخب بعينها رؤيته لأنّه ينقل المواجهة بينها وبين «الانقلابيين» إلى ملعب الطبقات الاجتماعية التي ثارت ضدّ الإخوان. وهي مواجهة ستصعّب عليهم المهمّة بخلاف ما يحدث عندما يكون الجيش أو أجهزة الأمن هما الطرف المقابل. بكلام آخر لا تدخل الطبقات الشعبية أو الوسطى حتّى في حسابات هؤلاء،ـ فالذين «تدخّلوا لتقويض الشرعية» في عرفهم هم الجيش والمخابرات وإعلام الدولة العميقة فقط، أمّا الشعب الذي فوّض أكثر من مرّة وانتفض مرّتين وثلاثة فلا وجود له بالنسبة إليهم إلّا كأرقام في صناديق الانتخاب الصورية. لنأخذ عزمي بشارة وموقفه كمثال (جوزف مسعد وأسعد أبو خليل أخذا موقفاً مشابهاً ولكن من موقع أكثر استقلالية بكثير). فقد قرأت له قبل أيّام كلاماً عن «الغوغاء» وعن أولويّة عدم احتكام النخب الديمقراطية للشارع في تحديد المسار الانتقالي في مصر وتونس. كلام غريب فعلاً. لقد صدّع الرجل رأسنا منذ سنتين على الأقلّ بالكلام عن الشعوب وثوراتها، وحين اختارت هذه الشعوب أن تطرد من السلطة من انتخبته بالصندوق تنصّل من كلامه وبدأ يستعير في وصفه لها مفردات نيوليبرالية سبق أن سمعناها مراراً من «خصوم فكريين له» (حازم صاغية مثلاً). واضح أنّ الجذر الليبرالي الذي يصدر عنه عزمي هو ما يحكم رؤيته للمرحلة الحالية، وهذا يقدّم دليلاً إضافياً على تهافت السرديات التي تمسّحت بالشعوب وثوراتها قبل أن تنحاز ضدّها عندما لم يعد الصندوق هو الطريق الوحيد للديمقراطية وحكم الشعب. يحصل كلّ ذلك بينما تتقاطر إلى مصر وفود عربية ودولية بدعوى أنّها أتت للوساطة فحسب. والفرق هنا بين الوساطة والتدخّل ليس كبيرا جدّاً. إذ كيف نتوسّط بين المصريين ونحن لا نملك أن نقول لهم كلاماً غير الإملاء والتهديد بقطع المعونة. وإذا كان هنالك من توسّط حقّاً فهو الوفد الإفريقي الذي أتى لمعاينة ما حصل، وعندما استمع للجميع قرّر أنّ ما حدث «ثورة شعبية» وليست انقلاباً. ومن جملة «ما قاله» أيضاً أنّه احتكم إلى معيارية معيّنة (شرعية الصندوق إيّاها) في حديثه الأول عن الانقلاب لم يلبث أن أجرى تعديلا عليها حين اكتشف أنّ الواقع المصري قد تجاوزها بكثير. هؤلاء أناس ديمقراطيون فعلاً بدليل أنّهم لا يعتبرون تجربتهم في الانتقال الديمقراطي نموذجاً يجب تطبيقه حرفياً على دول لا تعيش الشرط ذاته، ولا تحتكم طبقاتها الاجتماعية بالضرورة إلى ديمقراطية المرّة الواحدة الجاري نمذجتها وتصنيمها كولونياليّاً. يجب بالتالي على السلطة الجديدة في مصر أن تستفيد من وجود أناس يحترمون تجارب الآخرين، وأن تحتكم إليهم في نزاعها مع الإخوان بدل الاحتكام إلى الإرادة الكولونيالية التي تحتقر المصريين وتسخّف تعرّضهم «لشرعية» لم يظهر أنّها تقيم اعتباراً لأحد خارج دائرتها المباشرة. بإمكان المرء أن يفهم تجاهل الإخوان لوساطة الاتحاد الإفريقي على اعتبار أنّها لم تفرض نفسها كطرف على أحد ولم تسارع إلى إسناد مرسي وشركاه في «مظلوميّتهم» الجديدة، لكن سيكون من الصعب فعلاً فهم مواقف الآخرين من تلك الوساطة، وخصوصاً أنّها أنصفت الجميع تقريباً، ولم تبد مهتمّة بالاحتكام لغير الواقع وديناميّته المتصاعدة. أرجّح شخصياً كتفسير لهذا السلوك من جانب البعض نظرية «التحالف الموضوعي» بين كلّ المعترضين على موجة 30 يونيو: ثمّة ما يجمع بين دبلوماسية الغرب تجاه مصر في هذه المرحلة وتقويم النخب الليبرالية الممجّدة لأيديولوجية الصندوق لما جرى عقب سقوط الإخوان. كلاهما يعتقد بأنّ التدخّل جائز حين يتعثّر التفويض الانتخابي المحدود، وكلاهما أيضاً يغلّب أولوية حكم الأغلبية على ما عداه، فإذا اعترضت كتلة كبيرة على هذا الحكم تكون هي المسؤولة عن تعطيل العمل بالديمقراطية، لأنّها في النهاية أقلّية بحسب ما أظهرته الانتخابات، وتواجدها في الشارع بكثافة لا يعطيها الحقّ بسحب الشرعية من «سلطة منتخبة». هذا الكلام لا يقال في العلن لكنّه يقبع في خلفية كلّ ما يحدث حالياً. لطالما ركّزت الامبرياليات الغربية على المعطى السوسيولوجي (وأحيانا الأنثربولوجي) في تقويمها للسياسة هنا، فنحن بالنسبة إليهم لسنا طبقات اجتماعية تتحرّك على ضوء التهميش الذي يحصل لها اقتصادياً واجتماعياً،بل جماعات طائفية ومجموعات أهلية تنفعل بالواقع أكثر ممّا تفعل به، ولأسباب لا علاقة لها بالرّطانة الماركسية عن الاقتصاد والتهميش السياسي والاجتماعي و... إلخ. دعكم من الماركسيّة الآن فهي ليست في صلب الموضوع طالما أنّ الثورة الاشتراكية ليست على الأجندة بعد، ولنركّز أكثر على ما يحصل بين الطبقات الاجتماعية والسلطة، أيّ سلطة. الغرب لا يريد لنا أن نفهم الآلية التي تحكم العلاقة بينهما، فبمجرّد أن نفهمها نصبح تقريباً على عتبة التحرّر من الفهم الصندوقي لنمط إدارة العلاقة بين الدولة وشعبها. الليبراليون أمثال عزمي بشارة وحازم صاغية ومأمون فندي و... إلخ يصنّمون النّمط ذاك ويسمّونه «ديموقراطية»، لكن ثمّة آخرون أقرب إلى اليسار بطبعته الليبرالية اقترحوا تسمية تليق به أكثر: «صندوقراطية». من هؤلاء عمرو عزّت الكاتب الموهوب في «المصري اليوم» وأحد منظّري موجة يناير 2011. يمكن اعتباره كذلك من المعترضين حاليّاً على عسكرة موجة 30 يونيو. أقترح عليكم متابعة عمرو ورفاقه جدّياً،فهم يبشّرون فعلاً بتجاوز الجيل الذي حبسنا طويلاً في صندوق الديموقراطية الصّورية. سمير أمين في مقاله الأخير في «الشّروق» يؤكّد على هذا التجاوز من موقعه كرمز لحركة التحرّر العالمية في الستينيات وكمنظّر للعولمة البديلة منذ مؤتمر بورتو اليغري على الأقلّ. بالفعل لا يمكن التعويل على مرتبطين بسلالات الخليج لدى نقاش جدليّة العلاقة بين «الديمقراطية» والاستقلال الوطني. اسألوا نوّارة نجم.* كاتب سوري