تحوّل معظم اللبنانيين منذ أكثر من عقدين إلى مجرد مستوردين ووكلاء وناسخين بسبب هيمنة النيوليبرالية، ليس فقط اقتصادياً، بل في المجالين السياسي والثقافي أيضاً. وجد البرنامج الدولي لإعادة تشكيل وعي المجتمعات المتخلفة الكثير من الناشطين في لبنان ممّن أسسوا منظمات مجتمع مدني ممولة ومفكراً عنها في الخارج. وانعكس ذلك في طبيعة الأنشطة والقضايا التي حملتها معظم هذه المنظمات. وفي ظل الصدمة التي عانت منها القوى العلمانية والوطنية بعد اتفاق الطائف وسقوط الاتحاد السوفياتي، صار لبنان مرتعاً لأبشع السياسات النيوليبرالية التي كانت تتقدم في ظل نشاط «مدني» مدار بعناية بحيث يغطي عملية النهب والتضليل ولا يواجههما. ولم يكن ذلك سوى نموذجاً عن استيراد القيم والأولويات والبرامج.لم يختلف الوضع كثيراً بعد الربيع العربي رغم كذبة جماعة 14 آذار أن تظاهراتهم المليونية المتلفزة هي التي أسست لثورات «الزووم أَوْت» برعاية «الجزيرة». يتناسى هؤلاء أن الثورات البرتقالية ابتكار أميركي جرى تجريبه في غير بلد قبل لبنان الذي تميّز، ربما، بالمساهمة الخاصة لشركات الدعاية والإعلان وكثرة محطات التلفزة فيه. ومع أن الكثير قد كتب عن آليات «الحرب الناعمة» التي تستخدم المنظمات «المدنية» والحشود المتلفزة والشعارات التحريضية فإن البعض يصر على التجاهل. المهم هو أن الربيع العربي شكّل مجالاً عملياً للإختبار لم يشذ لبنان عن قاعدته. فالشباب اللبناني سارع إلى «نسخ» شعار إسقاط النظام مشفوعاً بإرادة «الشعب» وها هو الآن يعيد إنتاج «تمرد» المصرية في الوقت الذي يتقمص ناشط لبناني شخصية وائل غنيم فيدعو إلى «ثورة» ــ دفعة واحدة ــ ضارباً لها موعداً محدداً بعد أشهر عدة. وبعيداً عن الجوانب السيكوباتية في الدعوة الأخيرة، فإن ما تقدم يشير إلى المرض الخطير الذي تمكن من المجال السياسي والنضالي في لبنان، بسبب الغزو النيوليبرالي، وهو ثقافة الإستسهال والخفة في التعاطي مع الشؤون الجدية وخصوصاً الشأن العام. وشكل هذا المرض حليفاً قوياً للسلطة التي لا تزال تتوالد بالرغم من كل هشاشتها وضحالتها. فالسلطة في لبنان تستمر في البقاء منذ فترة طويلة لأن النضال «الصبياني» الذي يظن أنه يواجهها، يكاد لا يقترب منها. وسيبقى الأمر على هذا النحو طالما بقيت المعارضة الجدية مأزومة، وأزمة هذه المعارضة تتجلى بالتحديد في عجزها المستدام عن خوض معارك جدية مع السلطة، فضلاً عن الفوز فيها. ولن يكون ممكناً الخروج من هذه الأزمة طالما بقيت الأحزاب السياسية والحركات الشبابية التي تنظم «تحركات» مختلفة أسيرة المستبقات والعناد وانتفاخ الذات وثقافة التنافس والمكايدة والامتناع عن المراجعة والمكاشفة والمساءلة الشفافة. وليس أدل على هذه الحاجة مما نراه من نضال يكاد ينحصر في «تعرية» السلطة وانتشار الأطر والدعوات «الفطرية» المحكومة بمنطق تنافسي، وكل ذلك دونما نتائج تذكر. فلقد أدّى خطاب كشف طبيعة السلطة ونزع الشرعية الشعبية عنها غايته منذ فترة غير قليلة، ولن يضيف شيئاً الاستمرار في ابتكار صفات جديدة لها، مهما بلغت قساوتها وحدة تعابيرها، لأنها تبقى تنفيساً عن قهر وعجز. كما أن الجهات الداعية «للثورة» تتكاثر كالفطر وهذا ليس دليل قوة أو عافية بقدر ما هو تأكيد على الفرقة والتشتت والضياع، وهو قد صبّ حتى الآن في مصلحة السلطة. فما تحتاج إليه جموع المحبطين يتجاوز مجرد دعوتها إلى إعلان الغضب الذي أدى في بلدان أخرى إلى الفوضى والحرب. ثمة حاجة إلى جهود جدية تفتح أفقاً وتقترح برنامجاً وخطة عمل واقعية قابلة للقياس وقادرة على تحقيق تقدم ملموس. وحدها تجربة «هيئة التنسيق النقابية» تعبّر عن هذه الحاجة وهي قد تشكل استثناء إذا ما جرى وعي وفهم ودعم نضالاتها بعيداً عن الحسابات الضيقة والفئوية.
إن ما يمكن أن يكون مفيداً في لبنان لإنتاج «ثورته» وإحداث التغييرات المطلوبة، يبدأ، برأينا، من كسر منظومة الوعي المهيمنة منذ الاجتياح النيوليبرالي واستعادة الأفكار والقيم والمبادئ السابقة لها، استعادة نقدية تعيد إنتاجها وتشكيلها من جديد. فلا حرية من دون مسؤولية والديمقراطية ليست صندوق اقتراع والنهب ليس استثمارا والاستيلاء على الأملاك العامة ليس نمواً اقتصادياً، والثورة ليست هيصة في الشوارع. هذا هو المدخل الضروري كي تستقيم الأمور ولكي يفكر كل فريق بأدواته ولكي تحمل كل طبقة فكرها.
فواقع الأمر أن السلطة، بتكوينها الطبقي، لا تزال أمينة لمبادئها وتستخدم نفس أدوات الهيمنة والسيطرة التقليدية وعززتها باختراقها لعقول وقلوب معارضيها المتفاخرين بتخلصهم من «اللغة الخشبية» أو المنبهرين «بالتقنيات» النيوليبرالية التي فرّغت السياسة من مضمونها. لا يستقيم صراع هذا هو حال طرفيه، لأن نتيجته معروفة مسبقاً ودائماً. ولذلك تبقى سيطرة التحالف المهيمن مستقرة في لبنان رغم كل الهشاشة والضحالة. الحقيقة المرة والقاسية يجب ألا تصدم أحداً: نحن، جميعاً، أثبتنا أننا اضعف من سلطة هشّة وضحلة في آن. جميع أطياف المعارضة في لبنان، وخصوصاً اليسارية، تعاني من عجز استثنائي هو نتيجة الأمراض التي شلّت تفكيرها وأقعدتها عن الحركة الفعالة. ففي الوضع الراهن لمجموع التشكيلات المعارضة، يمكن الجزم أنّها لو جمعت كامل قواها الجماهيرية والتنظيمية لعجزت عن تمرير قانون «رأسمالي» يتضمن الحد الأدنى من شروط الوطنية. ولو أفسحت المجال أمام تلاقح مختلف أدبياتها السياسية وإنتاجها الفكري وبرامجها النضالية لعجزت عن الاتفاق على كيفية خوض الصراع في الملعب المناسب. ولا ينتقص ذلك من كفاحية أو وطنية أي فصيل سياسي معارض ولكنه يدلل خصوصاً على أن العقل المهيمن في اليسار يفكر بأدوات الخصم الطبقي وعقله فيقع أسير مفاهيمه وقواعد لعبته التي يعرف كيف يفوز فيها دائماً. وتصح هذه الملاحظة على مختلف ألوان الطيف اليساري، المحافظ والمجدد، الإصلاحي والثوري، الوطني والطبقي بما في ذلك العريق وحديث النشأة. فلا تظنُ حركة شبابية أنها أوفر صحة من حزب كهل ولا يفترض المحاربون القدامى أنهم أرجح عقلاً من جيل يضج بالحيوية. إن الاعتراف بهذا العجز هو نقطة البداية من أجل إعادة إنتاج فكر البديل الوطني اللبناني وبناء أدواته السياسية وصوغ برامجه النضالية بما يعيد للصراع معناه ويفتح الآفاق أمامه. ثمة ورشة مطلوبة داخل جميع الأطر السياسية القائمة لتخليصها من معوقات تطورها كما يجب الكف عن المكابرة، والاستعانة بجميع الشخصيات والمناضلين الذين خسرهم العمل الوطني بسبب الأمراض آنفة الذكر. كذلك فإن التواضع مطلوب من الشباب المتنقل من حراك إلى آخر ومن جمعية إلى أخرى، خصوصاً أن هذا الجيل هو الأكثر تأثراً، في لاوعيه الجمعي، بالأفكار النقيضة. إن النجاح في استنقاذ العمل الوطني، واليساري خصوصاً، لن يكون ممكناً دون إيجاد الحل المناسب لإشكالية إضافية شديدة الأهمية، هي الانتقال السليم للتجربة من جيل إلى جيل. ففيما عدا استثناءات قليلة، يقف المخضرمون خارج الأطر الحزبية والسياسية، قليلة الكفاءة أصلاً، ويقع معظم الجيل الشاب في التجريب استناداً إلى ثقافة هجينة يتساكن فيها المفهوم وضده. وطالما تمتنع الأحزاب والمثقفون عن القيام بدورهم الطبيعي في «التجسير» وتشكيل حواضن لإنتقال التجارب فإن المخضرمين يصبحون، موضوعياً، مطالبين بابتكار صيغة تؤمن القيام بهذه المهمة غير مواقع التواصل الإجتماعي، على أهميتها.
من جيل إلى جيل نشهد تراجعاً للقيم النضالية، خارج المناخات الدينية، لصالح قيم تستتر بالحداثة بينما هي تنمي القابلية على الاستلاب. وإذا كان الجيل الحالي مبتعد أصلاً لمسافات غير قليلة عن مصادر التجربة والمعرفة فإن الجيل الذي ينمو الآن تحت وطأة تقنيات ثورة الاتصالات والتواصل متوهماً انتماءً فعلياً إلى «الهوية العالمية»، سيكون لقمة سائغة أمام الاستعمار والاحتلال والاستغلال. لا تزال الفرصة سانحة لمنع مثل هذا الإحتمال الزاحف بقوة وسرعة، والكرة في ملعب الأحزاب والمثقفين والمناضلين المخضرمين.
وما لم يحصل ذلك فإن الساحة ستبقى متروكة لصراع غير متكافئ بين ثعالب السلطة ودجاجات المعارضة.
* قيادي يساري ــ لبنان