لا يسرّ المراقب المسكون بهاجس التغيير والإصلاح رؤية قوات الأمن المصرية، من جيش وشرطة ورجال استخبارات، تفضّ بالقوة، ولو النسبية، اعتصامي «رابعة العدوية» و«النهضة» في العاصمة المصرية. من المفترض أيضاً، أن لا يُسر المراقب نفسه حين كان يشاهد استخدام القوة العسكرية والأمنية الكاملة والمفرطة في مواجهة الاحتجاجات الشعبية السورية حين كانت في مرحلتها السلمية. على نحو عام، وخصوصاً في الدول النامية، لم يكن دور الجيوش، في الغالب، خادماً للعملية الديموقراطية والتحررية، أو حتى، جزءاً منها. ورغم ذلك، فلكل قاعدة استثناء حسب الواقع الملموس وحسب المصالح التي توجه هذه القوة أو تلك وذلك الشخص أو ذاك. من ذلك ما جرى في مصر عام 1952 قبل حوالى ستة عقود حين وقعت ثورة 23 يوليو (تموز). ومن ذلك أيضاً، دور الجيش في كل من تونس ومصر في أواخر عامي 2010 و2011 وأوائلهما حين رفضا تنفيذ قرار بقمع المتظاهرين المحتجين، وتجاوزا ذلك إلى الضغط على حاكمي تونس ومصر لتخليهما عن السلطة.في الحالة المصرية، بدا قرار إبعاد قيادة الجيش المصري للرئيس المصري محمد مرسي استجابة لطلب، بل لمطالب، الأعداد الهائلة، وغير المسبوقة، من أبناء الشعب المصري الذين رفضوا فئوية سلطة الإخوان المسلمين ورعونتها، إلا أنه لا يمكن الاكتفاء بتفسير القرار على هذا النحو فقط. إنه جزء من صراع متعدد الأطراف، معقد وطويل، تشارك فيه قوى سياسية واجتماعية واسعة، داخلية وإقليمية وخارجية. الجيش جزء من هذا الصراع. هو أداة دائماً، وهو لاعب نشيط في أحيان كثيرة.
في المخاض العربي المهم الراهن، سيستمر الأمر على هذا النحو. لن تكون الجيوش طرفاً محايداً أو محيّداً: أولاً لأنّ الجيوش، كل الجيوش، قد أُعدّت، قبل أي أمر آخر، لمهمات الدفاع عن الأنظمة وقمع معارضيها، لا لمهمات الدفاع عن الأوطان وعن سيادتها وسلامة أراضيها. ثانياً، لأنّ الجيوش، كما أسلفنا، قد توفر لها من عناصر القوة، ما أغرى قادتها، في الغالب، باستغلال الأزمات وباستغلال فساد الحكام وعجزهم وخيانتهم، من أجل القفز على السلطة والاستيلاء عليها لآجال لم تكن، وفق كل الحسابات، موقتة أو قصيرة أو انتقالية.
إلى ذلك، فقد شكلت الجيوش أحد مرتكزات النفوذ الخارجي وحقلاً أساسياً من حقول توظيفه السياسي والأمني وحتى الاقتصادي. وفي الحالة المصرية، مثلاً، فإن قيادة الجيش المصري هي بالتأكيد احتياطي موثوق للنفوذ الغربي عموماً والأميركي خصوصاً. وإذا كان الأميركيون قد عقدوا صفقة مع الإخوان المسلمين (باشروا التمهيد لها منذ سنوات) للحلول مكان الرئيس حسني مبارك، الذي لم يعد حكمه مقبولاً من غالبية الشعب، فإنهم قد انتقلوا الآن، إلى دعم القيادة العسكرية المصرية و«خريطة طريقها» لاحتواء وتوظيف النقمة الشعبية الهائلة، التي تراكمت خلال وقت قصير بكل المقاييس، ضد حكم «الإخوان» في مصر.
ليس من المبالغة القول إنّ قيادة الجيش المصري هي احتياطي أساسي في الخطة الأميركية للاحتفاظ بنفوذ كبير وراجح في أكبر دولة عربية. ويزيد من أهمية ذلك وجود معاهدة «سلام» بين مصر وإسرائيل، التي هي (أي المعاهدة) أيضاً ثمرة ذلك النفوذ والانحراف الكبير الذي مثله الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات. لكن سيكون من المبالغة أيضاً، وصف كل ما يحدث في مصر، مرة بصعود «الإخوان»، ومرة بسقوط سلطتهم، بأنه من تدبير ومن تأثير الولايات المتحدة الأميركية فحسب. ثمة أسباب وعوامل كثيرة جعلت الأمور تسير على هذا النحو. فلو أنّ الإخوان المسلمين اعتمدوا سياسات أخرى لم تثر في وجههم تسونامي يوم 30 يوليو (تموز) الماضي، لما كان تقدم دور الجيش على النحو الذي شهده العالم: لجهة إقصاء رئيس «الإخوان» وإدارتهم، وفرض «خريطة طريق» كان آخر فصولها فضّ اعتصامي «رابعة العدوية» و«النهضة» قبل ثلاثة أيام.
في مجرى هذا الواقع المعقد، هذا المخاض المفتوح، لا يمكن إطلاق الأحكام السريعة أو المتسرعة (والمغرضة غالباً) تفسيراً أو تقويماً أو لجهة التعامل السياسي أو النظري معها. إنّ «جديد» المخاض العربي الراهن، وهو ذو صلة شديدة بروح العصر الحالي، يتجاوز ما في ترسانة و«ستوكات» بعض التحليل التقليدي من مفاهيم وأدوات، وخصوصاً منها ذلك الذي انقطع عن جذره الجدلي ومنهجيته الثورية، والذي تحوّل طقوساً، بل وسلفيات، هذا إذا لم نتحدث عن الأنانيات والتفاهة والعجز والفئوية. في شروط ما عشناه ونعيشه منذ سنوات، تنطلق عملية التغيير بكثير من العفوية وبكثير من الزخم والإبداع والمشاركة الشعبية. يرافق ذلك تعثر وتداخل وتدخل خارجي وإقليمي بكل الطرق والوسائل. هذه العملية قد تجد محطتها المقبلة، في مصر مثلاً، إذا حاول «العسكر» المصري البقاء في السلطة بعد الاستيلاء عليها وتعطيل المسار الديموقراطي الذي كان في أساس ثورتي 25 يناير (كانون الثاني 2011) و30 يوليو (تموز) 2013. و«المسار الديموقراطي» هو تعبير مكثف يجب أن ينطوي على عناوين متكاملة سياسية واجتماعية وسيادية واقتصادية.

■ ■ ■


ولا بدّ في ذكرى عدوان تموز الأميركي ـــ الإسرائيلي على لبنان، وفي ذكرى هزيمة هذا العدوان بشكل مدهش، من التأكيد أن مقاومة ذلك العدوان قد أضافت عاملاً نوعياً الى مسار المقاومة الشعبية بالمعنى الشامل، وإلى مسيرة التحرير، من حيث تلكأت وعجزت وتواطأت الأنظمة والسلطات الحاكمة. وهي بوصفها جزءاً مهماً من العملية التحررية المنشودة، مطالبة اليوم بأن تضع تجربتها في هذا السياق قبل سواه من الاعتبارات والالتزامات، فضلاً عن الارتباكات والعثرات والتي تُبعد جميعها الصراع عن وجهته الصحيحة.
ثمة إبداع شبابي وشعبي دفع الجميع، في مرحلة من المراحل، إلى تسمية ما حصل ابتداء من نهاية عام 2010 بأنه «ربيع عربي». إنه على الأقل مخاض عظيم ومفتوح ومرير وطويل لتجاوز واقع مخز من الهزائم والإفقار والفساد والتبعية.
* كاتب وسياسي لبناني