قضايا المشرق | استدعى استئناف المفاوضات «الإسرائيلية» ـــ الفلسطينية، برعاية أميركية مانعة، ردود فعل متنوعة، وخاصة مع تصريح وزير خارجية الولايات المتحدة، جون كيري، الذي احتكر فيه حق الكلام الرسمي بشأن تطورات المحادثات لشخصه، بينما اعتبر كل ما يصدر عن طرفي المفاوضات مجرد ثرثرة. ودون الدخول في تفاصيل ردود الفعل، إذ لكل فصيل فلسطيني أسبابه الخاصة، فإن ثمة تياراً واسعاً يناهض استئناف المفاوضات من حيث المبدأ، لكن الشيطان يظل متخفياً عادة في التفاصيل وفي المرجعيات. بيد أنّ ما يعنينا في هذه العجالة هو آفاق تشكيل جبهة وطنية شعبية في الأردن، تضم قوى سياسية وهيئات شعبية وشخصيات وطنية، لمواجهة الاستحقاق الأردني المترتب على المفاوضات، في حال تمكن الجانب الأميركي من لجم بعض العنعنات الهامشية لجانبي المفاوضات، والتوصل إلى صيغة تسوية «نهائية» تنهي حق العودة، بصيغة ما _ كالتعويض أو عودة اللاجئين جزئياً إلى «الدولة الفلسطينية» الموعودة (فعلياً إلى الأردن في حال لم يجد مشروع الكونفدرالية من يوقفه)، أو عبر تبادل للأراضي يحفظ القسط الأكبر من البؤر الاستيطانية «الإسرائيلية» (المستقلة ذاتياً) داخل تلك الدولة.
الإشكال الذي يواجه عقد «جبهة وطنية شعبية» في الأردن هو الشرخ الإقليمي، الناجم في الأساس عن التحاق أغلبية من الفلسطينيين ببرنامج «منظمة التحرير الفلسطينية» وتالياً حماس، ما أوجد هوية ثنائية في الأردن، هذا أولاً. والإحباط العام لدى الجماهير الفلسطينية الناجم عن تحول منظمة التحرير من قيادة للنضال الفلسطيني، إلى سمسار اقتصادي لتحسين شروط معيشة الفلسطينيين، حيث هم، في صيغة «سلطة وطنية»، وفق البرنامج الأميركي ـــ الصهيوني، سلطة ترى في الحل الاقتصادي (ولو مرحلياً) عرضاً إيجابياً، في سياق فلسفة «خذ وطالب». وتمكنت من إلحاق أغلبية الفلسطينيين، في الواقع الفعلي، بهذا المنطق، وأحبطت بالتالي آفاق تعزيز خيار المقاومة وفرض الانسحاب على «إسرائيل» وإنجاز قسط كبير من الحقوق الفلسطينية.
وعلى هذه الخلفية، وجه خروج حماس من محور المقاومة، وارتباطها بالبرنامج الإمبريالي الرجعي لتدمير مركز المقاومة في سوريا، ضربة جديدة لروح المقاومة لدى قطاعات أخرى من الفلسطينيين، ممن وقعوا في وهم أولوية مشروع الأخونة على الصعيد الإقليمي.
في المقابل، يواجه الأردنيون (من السكان الأصليين _ العشائر الأردنية في التصوير الكاريكاتيري للحالة!) إشكالية الارتباط العضوي، عبر الدور البنيوي للدولة الأردنية، بأجهزة الدولة المختلفة، التي بدأت قطاعات من بيروقراطيتها تعي الخطر على دورها ومكتسباتها مع تراجع دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، لصالح القطاع الخاص واقتصاد السوق ـــ الذي تسيطر عليه بدرجة كبيرة البورجوازية الفلسطينية ـــ، وترى في مشروع الكونفدرالية كإطار «للوطن البديل» المقونن، مقابل «الوطن البديل» الافتراضي القائم في الأمر الواقع، خطراً داهماً يهدد مصالحها الوطنية والدولة الأردنية برمتها.
وفي غياب البرنامج الثوري، القائم على الحقائق الطبقية الأفقية، من وحدة الطبقة الحاكمة والتناقض في آن بين البيروقراطية (التي يسميها الملك عبد الله الثاني الديناصورات) والبورجوازية الطفيلية عامة، وهي فلسطينية في الأساس، تظل السمة الغالبة للاستقطاب الاجتماعي ـــ السياسي في الأردن، عمودية، حيث ترى أغلبية «الفلسطينيين» مصالحها الحقيقية (المطلبية) عند اليمين الفلسطيني، العلماني والإخواني، بينما ترى أغلبية «الأردنيين» في الحفاظ على النظام، بأي ثمن، وفي الاصطفاف وراء بيروقراطيتها، صمام الأمان لعدم خسارتها كل شيء والآلية «الوحيدة» للحفاظ على دولتها.
وهذا يقودنا إلى دور العامل الذاتي (الطليعة الثورية) في الأردن، بغض النظر عن أصولها. فمن دون التوصل إلى فهم وطني ـــ طبقي ثوري يرى في تحرير الأردن من التبعية خطوة ضرورية للمقاومة ضد الاحتلال «الإسرائيلي» وضمان الحقوق الوطنية للفلسطينيين (حق تقرير المصير للفلسطينيين على أرض فلسطين، واختيارهم الحر لجنسيتهم وفق شروط تاريخية لا يوفرها إلا الخيار المضاد للمفاوضات)، ويرى في النضال الطبقي للتخلص من الطبقة الحاكمة، بغض النظر عن منابتها وأصولها، الخيار الوحيد لإنجاز التحرر الوطني، من دون ذلك، يظل شبح الحرب الأهلية لصالح المشروع الأميركي ـــ الصهيوني (الذي ينحاز القصر إليه راغباً أو مكرهاً للإبقاء على دوره التاريخي) ماثلاً في سياق الفوضى الخلاقة الأميركية، ومساعي إعادة إنتاج الهيمنة الغربية في طور أفول نظامها الرأسمالي.
إن المصلحة الطبقية/ الوطنية «للأردنيين» و«الفلسطينيين ـــ الأردنيبين» الفعلية تكمن في التوصل إلى البرنامج الوطني/ الطبقي المشترك لجماهيرهما.
وهذا يقتضي مواجهة برامج التيئيس من إمكانات المواجهة والمقاومة، والتضليل القائم على جر الفلسطينيين إلى صراع على «الحقوق» في الأردن، عوضاً عن النضال من أجل الحقوق الوطنية والطبقية المشتركة ضد التحالف الإمبريالي ـــ الصهيوني ـــ الرجعي العربي، بما في ذلك السلطتان الفلسطينية والأردنية؛ وكذلك بناء الكتلة الشعبية الحرجة القادرة على وقف المشروع المضاد، من دون الالتفات إلى خصوصيات الهوية الضيقة، وفي سياق حل التناقض الرئيسي مع قوى الحلف المؤتلف موضوعياً وطبقياً، دون أوهام «يا وحدنا» و«كلنا أردنيون أو فلسطينيون». وباختصار، فإن الحصيلة المتوقعة للمفاوضات الفلسطينية ـــ «الإسرائيلية»، برعاية أميركية حاكمة، لن يكون سوى المزيد من التفريط بالحقوق الفلسطينية وخلق المناخ لـ«وحدة» أردنية ـــ فلسطينية جديدة، على غرار ضم «الضفة الغربية»، ولكن هذه المرة من دون ضفة غربية، وإنما مع كوريدورات تسمح بالتسرب السكاني في إطار الكونفدرالية الجديدة، وتخلِّص «إسرائيل» من كابوسها السكاني، عبر عملية ترانسفير ناعمة، وحقوق منقوصة ينبغي
تلبيتها.
الرد في الأردن هو جبهة وطنية شعبية أردنية (من شتى المنابت والأصول) متحالفة مع جبهة وطنية فلسطينية في الأراضي المحتلة، للنضال المشترك ضد الإجهاز على القضيتين الفلسطينية والأردنية، بالتنسيق مع القوى المناهضة للإمبريالية والمقاومة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
* كاتب أردني