قضايا المشرق | كشفت المرحلة الثانية من سيرورة ثورة 25 يناير المظفرة والعدوان الوحشي المتعدد الجنسيات على سوريا عن عمق وطبيعة العلاقة الاستراتيجية بين التنظيم الدولي للإخوان المسلمين والدوائر الإمبريالية، وضلوع الإخوان حتى النخاع الشوكي في مشروع إقليمي ـــ دولي شامل يسعى إلى تحطيم الجيشين العربيين المصري والسوري وتفكيك الدولتين الوطنيتين وإقامة إمارات وهابية في المنطقة، من بينها إمارة حمساوية في قطاع غزة وعلى جزء من سيناء المصرية عوضاً عن فلسطين.
كذلك بيَّنت مسيرة السلطة الفلسطينية المنحدرة باطِّراد منذ اتفاق أوسلو أنها تخلَّت عن شعبها وعن جميع «الثوابت» التي ما برحت تتشدق بها، وهي غارقة في مفاوضات مع إسرائيل على مصير الأرخبيل الفلسطيني في الضفة الغربية ستُفضي إلى كونفدرالية أو ما شابهها مع الأردن، ليست سوى الاسم «الكودي» للتخلي التام عن الوطن
الأصيل.
وفي ظروف الثورات العربية، ودرَّة تاجها الثورة المصرية، وبداية بروز التعددية القطبية وانفجار الأزمة البنيوية للرأسمالية العالمية (التهديدات) من جهة، والثورات المضادة أو «الربيع العربي» وتكالب التحالف الإمبريالي ـــ الصهيوني ـــ العثماني ــ العربي الرجعي ـــ الوهابي (الفرص). من جهة أخرى، ترى القوتان المهيمنتان على الأردن واللتان تتحكمان بمصيره، وهما الولايات المتحدة وإسرائيل، أن هذه التطورات، بتهديداتها وفرصها، تطرح ضرورة عاجلة لفرض حل «تاريخي» - أي نهائي - لمشكلة «الدولة اليهودية» وتصفية «تاريخية» كذلك - أي نهائية - لقضية الشعب الفلسطيني برمتها على أرضه. وعلى هذه الخلفية أعتقد أنهما تتداولان اليوم بجدية بالغة كيفية تنفيذ سيناريو «الحل النهائي».
ويتمثل هذا السيناريو في تخليق كيان هجين «هايبريد» يستعيض عن الهوية الوطنية بهوية كوزموبوليتية أو بهويات فرعية قاتلة كما يسميها أمين معلوف. وبدلاً من «الشعب» ستكون هناك مجاميع سكانية منعزلة أو متناحرة أو متربصة أو حتى متحاربة. وبدلاً من المجتمع الطبيعي سيكون هناك خزان ديموغرافي إقليمي ضخم، وسينشأ مجتمع مهاجرين أو «دار هجرة» (لكن بدون فتح مكة). وسيتلاشى الوطن لتحلَّ محله جغرافيا سلَعية تقطن فيها تلك المجاميع السكانية ويقيم عليها الكومبرادور، بصنفيْهم الملتحي والحليق، التابعون والعابرون للكيانات والإثنيات والحدود، قصورهم ومزارعهم المسوَّرة ومشاريعهم التجارية، بينما يظل الفقراء والمستضعفون من المكونات كافة يكابدون بؤسهم ويخسرون حتى أحلامهم ويواجهون انسداد آفاقهم. وسيكون المخلوق الهجين تابعاً تماماً لخالقه ومعتمداً كلياً عليه وموجَّهاً من قِبله، سواء عن قرب أو «بالريموت كونترول».
لحظة الحقيقة (moment of truth)
هل هذا يعني أن «لحظة الحقيقة» في ما يتعلق بالحل النهائي للقضية الفلسطينية، أو بالأحرى «للمسألة اليهودية» قد
أزِفتْ؟
يمكنني المجازفة بالقول إنّ الأردن يقترب اليوم بخطى حثيثة من مواجهة لحظة الحقيقة الصادمة، حيث يجري التفكير حالياً بإنهاء الدور القديم لنظام الحكم أو إحداث تغييرات دراماتيكية فيه أو نقله إلى طور جديد أو مرحلة جديدة، الأمر الذي يعني موت الدولة القديمة، أو ما يسميه البعض هنا «تفكيك الدولة»، وقد يتم ذلك من دون إعلان مدوٍّ للوفاة.
وهل سيكون «حل» المعضلة الصهيونية ــ الإمبريالية بتصفية القضية الفلسطينية على حساب فلسطين والأردن معاً؟ بالطبع ليس شكل الحل هو المهم، بل جوهره، الذي يتمثل في إقامة وطن قومي يهودي «نقي» (يهودية الدولة) مهيمن، وحرمان الفلسطينيين والأردنيين وطنَهم القومي إلى أمد غير منظور.
قد يستهوِل البعض هذا الكلام ويعتبره بمثابة نعي فعلي للدولة، وقد يعتبره البعض الآخر تلويحاً بـ«فزاعة» الوطن البديل بهدف تأجيج الصراع الأهلي.
وقد يتساءل آخرون: هل هذا قدَر مكتوب لا مفرَّ منه؟ أليس هناك من سبيل للخروج من هذه المتاهة؟ أليس ثمة فسحة أمل كي لا يضيق بنا العيش؟
لعل الأمل الوحيد الذي بمقدوري أن أفكر به الآن يكمن في حل التناقض المعقد وتحقيق التطابق الأكثر تعقيداً في العلاقات الداخلية في كلٍّ من المكوِّنيْن الأساسييْن: أي فك الارتباط بين جُلِّ الأردنيين ونظام الحكم، وفك الارتباط بين جُلِّ الفلسطينيين وسلطتيْ أوسلو وحماس، والدخول في حالة اندماج اجتماعي طبيعي على أساس وطني ــ طبقي. وهو أمر يحتاج تحقُّقه إلى توافر ألف شرط وشرط - لا أدَّعي علماً بها.
قد يغويني أن أُعيد إلى الأذهان نموذجاً «ذهبياً» من تاريخنا الحديث، تجلَّى في عقديْ الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم، أي منذ ضم الضفة الغربية إلى الأردن في نيسان 1950 حتى أيلول 1970، وهي الحقبة التي اندمج خلالها الأردنيون والفلسطينيون في نسيج اجتماعي - طبقي وطني واحد إلى حد كبير، فهل يمكن أن يتكرر؟ إما هذا أو الاندثار.
* قيادي يساري ــ الأردن