ليست المشكلة حالياً أنّ الفوضى قد وقعت وتوسّعت جغرافياً بمعيّة العسكر وميليشيات الإخوان، فالأمر كان متوقّعاً منذ البداية ولو على شكل صراع أقلّ استقطاباً من ناحية الهوية وما شابه. المشكلة إذاً هي في مكان آخر، وهذا المكان له علاقة بانقطاع التراكم الذي بدأ مع دخول العمال على خطّ الاحتجاج يوم 30 يونيو. بالأساس لم يحدث أن توقّفت الإضرابات العمالية إلا قليلاً. وفي الفترة الوجيزة التي أعقبت خروج الإخوان من السلطة. وبمجرّد استتباب الأمر للسلطة الجديدة عادت طلائع الإضرابات العمالية إلى الحيّز العام (إضرابا المحلة وعمّال الصلب في السويس). وبدا بالفعل أنّ الإمكانية متاحة لتوسيع القاعدة الاجتماعية لموجة 30 يونيو، وبالتالي وضع السلطة الجديدة أمام التزاماتها، وخصوصاً أنّها بدت أقرب إلى الطبقة الوسطى التي أتت بها إلى السلطة منها إلى الفقراء الذين دفعت بهم موجة يناير إلى الواجهة. لقد ذكرت مراراً أنّ الفقراء لم يكونوا أكثرية ضمن الموجة الحالية، وبدا هذا واضحاً من تواجدهم بكثافة في رابعة العدوية، الأمر الذي عقّد بالطبع العمل على البرامج «التي تخصّهم» وعلى رأسها الحدّان الأدنى والأقصى للأجور وعملية ربط الأجر بالأسعار (لا بالإنتاج كما كان يريد اليمين الاخواني الفاشي). الشريحة العليا من الطبقة الوسطى التي شاركت جنباً إلى جنب مع الشرائح الأخرى في إسقاط الإخوان لا تعتبر المساهمة في هذه البرامج من ضمن أولوياتها، فمهمّتها كانت تنحصر على ما يبدو في إسقاط السلطة الإخوانية التي همّشتها سياسياً و«اجتماعياً»، وقد تحقّق لها ذلك بفضل الجيش الذي لا تبدو مستعدّة أيضاً لانتقاده تحت أيّ ظرف من الظروف. يمكن ملاحظة الأمر بسهولة من حجم الانتقاد الذي يواجه به أيّ ناشط يذكّرنا بحكم العسكر وبعدم انتظار الكثير من أطراف لا تختلف كثيراً عن الإخوان في ما يتعلّق بالشأنين الاقتصادي والاجتماعي. لنلاحظ كذلك أنّها الشريحة ذاتها التي حدّت من التضامن مع قتلى الإخوان من الفقراء حين استهدفهم الأمن بالرصاص الحيّ عملاً بالحالة الاعتباطية التي تساوي بين قيادات الإخوان المجرمة وقواعدها «المغلوبة على أمرها». وهذا أمر يدخل في صلب النقاش حول الإمكانات المتاحة لتطوير حساسية 30 يونيو تجاه الفقراء، بما يتجاوز الكلام الإنشائي عن «العوز» و«الحاجة» و«العطف الاجتماعي» وباقي العدّة الصدئة التي يستخدمها اليمين عادة، وخصوصاً حين يحشر في المسألة الاجتماعية. ثمّة مناسبة أخرى لهذا الكلام، وتتعلّق مباشرة بما صدر عن الشرائح العليا التي تسكن رابعة العدوية ومدينة نصر من تعليقات تجاه فقراء الإخوان قبل فضّ اعتصامهم. فقد تذكّرت وأنا استمع إلى تعليقات البعض منهم كلاماً مشابهاً قيل في بيروت أثناء الاعتصام الشهير لقوى 8 آذار في ساحة رياض الصلح قبل سنوات من الآن (2007 ـــ 2008). في الحالتين كان الامتعاض من الفقراء هو نفسه، وكذا التلميح إلى «روائحهم» وعاداتهم التي جلبوها إلى المدينة من الضواحي والأرياف (ضاحية بيروت الجنوبية في حالة بيروت وأقاليم وأرياف مصر في حالة رابعة العدوية). يجب الاعتراف بأنّ أموراً مماثلة لم تكن لتحصل، وبالتالي تحملنا على استدعاء حوادث شبيهة من الماضي لو تواجدت الحساسيّة تجاه الصراع الاجتماعي فعليا ــ لا صورياً ــ في موجة 30 يونيو. الغياب هنا هو الذي فتح المجال لدخول اليمين واحتلاله المشهد بذريعة أنّه لا يملك أن يتعاطف مع فقراء الإخوان، وهذا يعني بالنسبة للجيش والقطاعات المحافظة داخل الدولة أنّ اليسار لا يصلح بالدرجة ذاتها «للاستخدام» نظراً لامتلاكه حساسية تجعله يعترض على أيّ إجراء قمعي يهمّش أولئك الفقراء ويسحقهم بزعم تبعيتهم للقيادات (المجرمة والعميلة لرأس المال النفطي القطري). وهذا ما حدث بالفعل أثناء فضّ اعتصامي رابعة العدوية والنهضة، حيث جرت الاستعانة نظامياً بأصوات غير نقدية ومستعدّة لممالأة الجيش والشرطة في كلّ ما يفعلانه، الأمر الذي يفسّر انكفاء القطاعات الأكثر راديكالية داخل اليسار المصري (الاشتراكيون الثوريون وبعض قواعد التحالف الشعبي الاشتراكي) على ذاتها في المرحلة الأخيرة، وتفضيل أجهزة الدولة عليها قطاعات يسارية أخرى (الحزب الاشتراكي، حزب التجمّع، بعض قيادات «كفاية» الأعضاء في الجمعية الوطنية للتغيير) لدى الاحتياج إلى أصوات أقلّ جذرية في التعامل مع المشهد.
كلّ ذلك مضافاً إليه تراجع الاعتراض الجنيني على عسكرة حركة المحافظين جعلنا نرتاب في إمكانية جرّ الطبقة الوسطى «المحافظة» إلى نقاشات أكثر أهميّة بكثير من نزولها إلى الشارع بالشكل الذي حصل. النزول بحدّ ذاته كان مفاجئاً لكثيرين، ولكنه مع مرور الوقت أخذ يفقد بريقه، فهو ليس مهمّاً إلا بمقدار ما يضيفه للقطيعة التي سبق وبوشر العمل بها في يناير 2011. للتذكير فقط فانّ القطيعة حينها لم تحدث بالشكل الأمثل ولكن التلويح بها بدا مناسباً في ظلّ المواجهة غير المتكافئة التي خيضت ثوريّاً ضدّ «تحالف» العسكر والإخوان ــ كم يبدو الكلام عن التحالف بينهما بعيداً اليوم ــ. ومن ضمن التحدّيات وقتها كانت المسألة الاجتماعية التي تعاملت معها موجة يناير على دفعات، وبالتقسيط المريح. فقد مضى وقت طويل على استلام المجلس العسكري السابق للسلطة قبل أن يواجه علانية من جانب الثوريين بمسألة الحدّين الأقصى والأدنى للأجور وإسقاط ديون الفلاحين وإحداث قانون الحريات النقابية و... إلخ. المهمّ في النهاية أنّ القضية الاقتصادية ــ الاجتماعية فرضت نفسها على السلطة بفعل وجود حامل اجتماعي قوي يقدر على تبنّيها وجعلها أولويّة من بين أولويات أخرى كانت مطروحة على الطاولة (كتابة الدستور، إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية، صياغة قانون للعدالة الانتقالية، محاكمة قتلة شهداء الثورة... إلخ). والمؤسف اليوم أنّ هذا الحامل لم يعد موجوداً بالقدر ذاته، فقد همّشته بعض الشيء الاستقطابات التي شقّت صفوف القاعدة الاجتماعية لموجة يناير، وبالتالي بتنا إزاء انقسامات عمودية لا تساعد فعلياً على بلورة هوية طبقية واضحة للصراع الاجتماعي. هذا لا يعني أنّ ما يحدث الآن بعيد عن فكرة «الصراع بين الطبقات»، فالإخوان يتصرّفون في هجومهم المضاد كطبقة اجتماعية، مثلهم في ذلك مثل تحالف الجيش والشرطة والبيروقراطية الحكومية، ولكنّه صراع يخلو إلى حدّ بعيد من البرامج الاجتماعية المباشرة، ويكاد يقتصر على فكرة الحسم الأهلي، أو «الحسم بالدم» كما عنونت «الأخبار» صفحتها الأولى منذ أيام. ومن تجربتنا في سوريا نعلم أنّ الموارد التي تموّل صراعات كهذه لا تذهب عادة إلّا في اتجاه واحد: من الفقراء إلى الأغنياء وليس العكس. من المبكّر طبعاً الحديث عن اقتصاد نزاع ــ ولا أقول اقتصاد حرب ــ في مصر، فالحالة الاقتصادية هناك ليست جيّدة بما يكفي، ولكنها في الوقت ذاته ليست سيّئة إلى حدّ العجز عن تمويل احتياجات القطاعات الأكثر فقراً داخل المجتمع. ما أقصده بالتحديد أنّ الصراع هنا لا يحصل من أجل الفقراء، بل بواسطتهم، وهذا واضح من خارطة توزّع الاشتباكات داخل المدن والأرياف، إذ تتموضع الاشتباكات الأكثر دمويّة داخل الأحياء الشعبية، وبالتحديد في الأماكن التي لا تتواجد فيها قوّات لتأمين المصالح التي تشاء الدولة اعتبارها. حيويّة وسيادية (منشآت حكومية، بنوك، مراكز تجارية كبرى، مراكز شرطة، مقارّ قيادة تابعة للجيش، مطارات... إلخ). خذوا مثلاً ما حصل في منطقتي بولاق أبو العلا وشبرا الجمعة الماضية. فهناك لا تتواجد مؤسّسات يمكن اعتبارها أهدافاً حقيقية للإخوان، ومع ذلك جرى الاعتداء على المنطقتين من جانب متظاهري الإخوان ومسلّحيهم، وقد تمّ لهم ما أرادوا بالفعل، حيث حصلت المواجهة بمعزل تقريباً عن وجود الجيش والشرطة باستثناء ما وقع في شبرا من تحلّق للأهالي حول مركز الشرطة هناك وحمايته، وهو فعل لا ينمّ عن نزق سلطوي كما تحاول سرديات الإخوان ترويجه (كلامهم المبتذل والوضيع عن «عبدة البيادة» و«لاعقي أحذية العسكر») بقدر ما يعبّر عن خوف الفقراء من زوال الدولة التي يلوذون بها كخيار وحيد وأخير. ربما يغيّرون رأيهم حين تتطوّر المواجهة بين السلطة والإخوان، وتصبح الأموال التي تستخدمها الدولة لتلبية احتياجاتهم مخصّصة في معظمها للمعركة مع هذا الفصيل الفاشي، تماماً كما يحدث في سوريا منذ مدّة. والى أن يحصل ذلك ستبقى المواجهة تخاض بوتيرة منخفضة، وبموارد يمكن الاستفادة منها أكثر في «الشقّ الاجتماعي للمواجهة». لا أحد بالطبع ينكر الحتميّة التاريخية لزوال الإخوان كتنظيم لا يعبأ بالدولة، ولا يستخدمها عند الحاجة إليها إلّا كأداة لتنظيم المجال الاجتماعي الخاصّ به، إلا أنّ ذلك لا ينفي عبثية المواجهة معه، وخصوصاً مع تحوّلها التدريجي إلى «معركة صفرية» لا تحمل مدلولات اجتماعية، ولا تتناسب أصلاً مع شكل انخراط الفقراء فيها.
للدولة طبعاً رأي آخر في الأمر، فهي الآن تحاول «توريط المجتمع» في معركتها ضدّ الإخوان، ومن دون أن يكون لديها القدرة على حمايته. لقد حصل ذلك بالفعل في أكثر من مكان، وبالتحديد داخل الأرياف والنجوع التي «تفكّكت فيها السلطة» تحت وطأة هجمات الإخوان والسلفيين التكفيريين. في المنيا وبني سويف مثلاً(وكلاهما تقعان داخل الصعيد الذي يتمتّع بثقل إخواني وسلفي كبير) استولى الإخوان وحلفاؤهم على كثير من مؤسّسات الدولة، وأحرقوا بعضها الأخر، فضلاً عن إحراقهم وتدميرهم معظم الكنائس والمؤسّسات المدنية القبطية المتواجدة هناك. ما حدث بالضبط هنا أنّ السلطة التي نالت التفويض من الشعب بحمايته نقضت العهد، واكتفت بحماية ما يحفظ سلطتها، أي ما يجعلها قادرة على المزيد من التماسك كسلطة في مواجهة غضب الإخوان وحلفائهم. الصعيد الذي ينتمي إليه بالصدفة فقراء معارضون للإخوان ومؤيّدون لـ30 يونيو لا يتيح لها هذا التماسك، فهو إذا عبء يجب «التخلّص منه» بأيّ طريقة.
لنقل على سبيل التأويل أنّه بعيد عن مركز السلطة المنوي اخضاعها إخوانياً، ومهمّش بما يكفي لغضّ النظر عن إمداده بوسائط التأمين والحماية اللازمة (تأمين مراكز الشرطة على الأقل؟). لذلك بالتحديد ترك للإخوان ومن معهم كي يعربدوا فيه وينتقموا منه على انتفاضه ضدّهم بالشكل الذي تمّ في 30 يونيو، وهو ــ أي الشكل ــ بمثابة معجزة بالنسبة إلى بيئة يسيطر عليها الاسلامويون بالتواطؤ مع السلطة، كلّ سلطة. بالإمكان الحديث هنا عن تقسيم فعلي للعمل رغم الخصومة المعلنة والجاري جعلها على خلاف العادة أيديولوجيا فعلية للسلطة الجديدة.
يمكن أيضاً القول بالاستناد لنموذج الصعيد إنّها أيديولوجيا تستخدم الفقراء على سبيل الدعاية، فتدعمهم حين ينتصرون لها، وتتخلّى عنهم حين يعاقبون اسلامويّاً على انتصارهم ذاك. وهذه بالتعريف أيديولوجيا صوريّة وقائمة على الزيف، أي إنها لا تصلح لبناء سلطة أو لاستكمال ثورة على السلّطة، وإذا شئنا إنصافها لقلنا إنّها نكوص عن التفويض الشعبي، وخصوصاً لجهة فقراء الصعيد. أصلاً لم تقم 11 يناير وبدرجة أقلّ 30 يونيو إلّا من أجل هؤلاء، وفي سبيل أن يصبح تهميشهم واضطهادهم طبقياً جزءاً من الماضي. إذا كانت البيروقراطية الجديدة المتحالفة مع الجيش تدرك ذلك فعليها أن تكسب إضافة إلى طبقتها الوسطى في المدن ولاء أولئك الفقراء، أمّا إذا لم تكن تفعل فالأفضل أن تكفّ عن استخدامهم في صراعها ضدّ الإخوان. عليها قبل ذلك أن تقنعنا بأنّ زجّها لجزء من الشعب في مواجهة الفاشيّة الدينية يستحقّ كلّ هذا الدم. لنبدأ بالاستحقاق الأساسي، والذي قامت 30 يونيو لاستكماله، أو هكذا فهمنا على الأقلّ: حدّان أدنى وأقصى للأجور، وسياسة اقتصادية منحازة للفقراء والمهمّشين داخل المجتمع بمن فيهم فقراء الإخوان. هل تقدر على هذا؟ سنسأل كمال أبو عيطة المناضل العمّالي ووزير القوى العاملة في الحكومة الجديدة، ولكن بعد أن يقنعنا بدوره بأنّ ما يحدث هو صراع من أجل الفقراء وليس بواسطتهم.
* كاتب سوري