ماذا يخبرنا الفكر إذا ما استوقفناه يوماً عند سؤاله هو للآخرين، بم تفكر؟ للمصارحة دور في هذه اللقيا، كما للمفاجأة دورها هي الأخرى. سؤال الفكر عن فكريانته شبيه بسؤال هايديغر عن اسم الفكر: ما اسم الفكر؟ أن تفكر هو غير أن تفكر بالفكر، فالفكر منزاح عن الأمكنة التي تدعي الإمساك بكليته، وهو لا يعرف نفسه، وإن شابته الأفكار كل يوم. هو لا يقبل بنفسه متكثّراً، وقد يستسيغ العلم هذا الخصاص ليعلن يوماً موت الفكر وانتصار العلم، لكن الفكر يعود كيما ينزلق العلم إلى سديم أو فراغ. وكأنه المسترد لكل معرفة من حفاف الجهل، وكأنه جدال المعرفة والجهل سواء، يفسر لكل منهما ما يصفه ويمتلئ به الآخر.
والفكر لا يفكر دائماً في الأبدي، ذلك الجوهر المحتجب في كليّته، فهو مشغول بالحاضر الراهن كلحظة تكثيفية وإن ظل منشداً للكاوس القديم، وقد يكون ذلك مدعى أرسطو في تفكره في الحركة والكينونة، كما يمكن أن يكون مدعى الكندي في بحثه عن الكينونة والعلة. الراهن تمظهر الواحد في الكل، الراهن سؤال لم يلتق جوابه بعد، تعيّن يفاجئ الفكر كي لا يعيد مكروراته، لذا كان سؤال الفكر يستحيل أبداً إلى اللحظة السائلة: بمَ يفكر الفكر اليوم؟
انشغال الفكر باليوم كان سبباً للرواقيين في مدعاتهم مرّة أن كل ما يعتري الجسد جسد هو أيضاً. فالأنفاس والأحاسيس والألم والفرح والحب والكره، كلها أجساد نلتقيها حيثما شئنا أو حيثما شاءت. ما من جسد يتكرر مرتين ولو تشابه جنسه أو فصله. وهذا نفسه ما ينبغي أن يحملنا لملاقاة الجسد الأخير دوماً «السؤال»، فلا سؤال يتشابه مع نفسه وإن تكرر مرتين. السؤال ذاكرة تستردنا قبل أن نستردادها، لذا، ما كان غريباً بعد سقراط أن ينزل السؤال كينونة الذاكرة كميدان أول للمعرفة. (ما هي الذاكرة؟ وكيف نتذكر؟/ أفلاطون).
هو السؤال إذ مرّ بنا يوماً، فهل نستذكره؟ جواب سؤال كهذا يتطلب نوعين من الفهم - الفاهمة، أن نستذكر أسئلتنا، وأن نستحضر النسيان كيما يوازن الذاكرة من الإيغال في غيابنا الحاضر. والغياب الحاضر ليس بعداً شعروياً، إنه تصور الحاضر لشيء غائب، لشيء صار، بحسب أفلاطون. وتحديد العلاقة بما مضى يحتاج لشيء من سيادة الذات الراهن، الآن ــ اليوم، كيما ينزلق العالم إلى انسراح الماضي المتذكَّر. في الفيزياء الحديثة ثمة تحليل لمتراكبات القوى المؤثرة في الأجسام. تشكل حركة الجزئيات المتنقلة في الحقل المغناطيسي مثلاً سبباً لتوازن القوى المؤثرة في الجزيء، وقد يحدث لسبب ما أيضاً أن تتوقف حركة الجزيء، فينجذب دونما قدرة إلى مدار الداخل، العمق، ليفنى في عدم لا يزال العلم يجهله. كذلك تبدو الحضارة، إن الحركة شرط ضروري لتوازن قوى (المعرفة، العقل، الهوية) جزيئات كون الحضارة، فيما الذاكرة تكون مدار الصميم ـــ الداخل، الذي يجذب على الدوام جزيئات الحضارة لتفنى في عدمية ذاتها الخاصة.
ليست الحركة مناط مسألة عقلية خالصة كما أوحت بذلك الزِواجية الأفلاطونية، كذلك فإنها ليست مناط منهج أو فعل سياسي، الحركة مسألة رؤيا يطل منها الإنسان على العالم، هي مسألة انتقال الوجود الإنساني من قمة لأخرى، كأن ينكشف للإنسان مشهد وجود جديد، فتعتري كيانه الدهشة – سيرته الأولى –. «الكيان جسد لغوي يناظر ويحاذي ويخالط الجسد العضوي. فما يُقال عن حياة عقلية ونفسية وانفعالية إنما هي حواف طرفانية للدال اللغوي»1، لذا كانت الدهشة أولاً دهشة لغوية، تحدث تغيراً في الجسد المقول.
لنهر الزمان والمقول لغة منعرجات عند والجات الأحداث، كان صراع اللغة بين البصرة والكوفة ضرورة لتصور منعرجات المدينة الناشئة، كان الإحساس اللغوي فوق الاعتبارات العقلية التي جدّت على المدينة. الجاحظ هو الآخر بذل جهداً غير قليل ليقول إنّ الانضباط الحقيقي انضباط لغوي لا عقلي. بدا المقول في زمنه مجهول الظل، الناس تكتم ما تريد وما لا تريد، لا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه وخليطه، كانت اللغة مخرج العزلة الوحيد من اشتراك المدينة في اللغة. للدكتور مصطفى ناصف دراسة مهمة بهذا الاعتبار قدمها تحت عنوان «محاورات مع النثر العربي»، بدا فيها مذكّراً بالنوى الذي يؤرق الثقافة العربية القديمة، الارتباط المفقود الذي شغل بديع الزمان، فتنة اللغة التي نالت منها العمارة بزعمه، السجع الباحث في الذهن عن عرى الشعر، المقامات التي تتجادل فيها الكلمات والعبارات جدالاً لا يتمايز فيه منتصر ولا مهزوم، وكأن الكلمة تقتفي حداثة لا تلبث أن تنتقم منها فتمحوها بالوزن، ثم تعود وتنمحي هي الأخرى أيضاً.
وقد يسأل سائل عما وراء هذا الكلام من آصرة مقترنة بالحداثة، فالحداثة انقطاع عما أنف، وللحداثة في عالمنا الإسلامي أو العربي اليوم معنى محدد، ينطلق من ضرورة فهم جديد للذات أولاً، قد لا نعبر إليه بغير انهماكية ذلك الإغريقي – الناقد العاقل، المستنير – الواقف عند الطرف المقابل من المتوسط. الحداثة نقد متجاوز في كل آن، يزور الأشياء والمعاني باحثاً عن الضفة الأخرى، وهو غير معني بيباب تلك الأخيرة منذ أن ادعى يوماً احتيازه على السؤال. هل الحداثة سؤال؟ هل كل سؤال نقد؟ من يلد الآخر السؤال أم الحداثة؟ وما علاقتهما بالنقد؟
في رده على دي سوسور عام 1970 كتب ألتوسير مقالة تحت عنوان: هدف رأس المال the object of capital، حاول ألتوسير في مشروعه هذا استرجاع المفهوم العقدي للتزامنية. التزامنية ليست الحضور الزماني للشيء، بل هي البنية الأزلية لموضوع من موضوعات المعرفة. لا يُخفى الحضور الهيجلي في رؤية ألتوسير التزامنية، لكنه قد يسهم في تقديم مساهمة للرؤية الظرفية لسؤال الحداثة العربي. ما هو سؤال حداثتنا نحن وما اسمه؟
إن استعادة اللحظة الغزالية - أو الرشدية - في الخطاب النقدي العربي المعاصر، تميط اللثام عن زمانية سؤال نهضتنا، للسؤال ذاكرة هو أيضاً وقد يكون جوابنا المرجأ بالأمس عاملاً لتصلب هوية السؤال. وكأن سؤال حداثتنا المترحل ذاك بدوي، همه الرحلة والترحال حاملاً معه ما خف وزنه من ذكرياتٍ حادثاتٍ في المكان والزمان. الرحلة – غاوية السؤال – بحث عن معنى غامض أو شخصية غامضة لا تتحقق تحققاً تاماً، الرحلة لا تبحث عن هدف أو مستقَر، الرحلة تخيّل بالسراب، تفاؤل بالطير، وحمل للأوتاد والخيام. لكن الرحلة أيضاً لا تدور في غياب أو سراب بقيعة، هي تبحث عن مستقرها كل آن، لتلقي رحلها لا ذاكرتها، ولتستعدّ لحضور المطلق فيها، المطلق يأخذ نسقاً رمزياً في الخيمة، والنار، والضيافة يقول دريدا، وكذا في ثقافتنا وسؤال حداثتنا المعاصرة، يشكل المطلق نسق تشكل هذا السؤال وارتداداته المتكررة، ربما كان ذلك مدعاة طه عبد الرحمن في تحذّره من لغة السؤال الفلسفي. فالسؤال برأيه ينطوي على معنيين أساسيين هما الطلب والتداعي، الطلب يعني الشرط الضروري لحصول المعرفة، فيما التداعي ناتج من السؤال، كل سؤال يدعو لسؤال آخر مثله أو ضده، ما يجعل السؤال منفتح على اللاجواب – جامع العلم والجهل – وهو ما أوقع الفلسفي في ما هو غير فلسفي.
وقد صدق طه عبد الرحمن مرة أخرى إذ وجد في تأخر الفلسفة عن اللغات الفكرية الإسلامية الأخرى، انئسارها لنص غير أصيل أو غير نموذجي. تنبثق اللغة ومعها السؤال من النص في الوعي الإسلامي، لكنها لا تولد أو يولد من تطويف انغلاقي، السؤال فتح يستعد لملاقاة الكوني، الكوني هو ما يأذن بدخول الفكر حد البَعد، الكوني يعيد للأشياء كينونتها كي لا تبقى وحيدة تتجاسرها الأجساد في صراع المشخص على الحياة والرغبة. الكوني هو المضيف الأبدي والكون ضيافة الله، النص ليس من شيئيات هذا الوجود، هو رغبة الوجود في الامتلاء والحب، وهو رغبة الكوني في ملاقاته أسمائه منزهة عن التجريد. الفتح هو العشق، تكشف للآفاق بعين عابدة، اختصار للطريق بين الحياة والوجود، بين الحقيقي والجمالي لذا وُجب أن يكون أول الفتح تأملاً، ثم تعبّداً، ثم عملاً وعلماً.
من أين نكمل الطريق؟ هل من سبيل لهذا الفتح في حاضرنا المعاصر؟ لقد صدق فضل الرحمن يوماً بحديثه عن إشكالية حداثتنا الراهنة كإشكالية عقل لا منهج أو معرفة. كان يتطلع ربما للاحتياز على الجوهري في وجود حضارتنا الكبرى. العقل، الفكر اللامفكر، بريّة اللغة التي لم يعثر عليها الفكر يوما. مسافة تجسّر الأنا إلى طويات العالم وكينونته. لكن العقل غريباً يبقى ما لم تؤانسه الحرية، حرية تسمّي العقل الذي سمّاها يوماً، فتفعل بأسمائه فعلها بالأشياء. تكوّنه لتتكوّن به. تدربه على نطق الفكر كحقيقة، وعلى الولوج إلى علّية الحقيقة. ليست الحقيقة ضداً على الخطأ، فلربما كانت طريدته قبل أن تصير هاويته. هو مبعثها على التجاوز، وهي تظل تحفة نفسها، فوق العقل وخارجه، لكنها تعيد علينا وعليه اليوم تسآلاً لا يغيب حتى يعود الهنيهة: ماذا يعني أن نفكر اليوم؟
لا يتعلَّق السؤال بأجوبة فحسب، بل ومعها أسئلة أخرى مفترضة. أن نفكر اليوم، يعني أن ننفصل عن الأحداث والأقوال لنسأل عن صِفر الأفكار، قد يكون هذا أقصى ما للفكر في الوصول إليه. ليست مسألة التفكر مسألة تصنيم للأفكار، إنها ذلك الصنم والمعول الذي يحطمه في آن. وحديثنا في الحداثة ينبغي أن يكون دعوة لتفكر الفكر والحرية معاً.
* باحث لبناني
المراجع:
1 مطاع صفدي، ماذا يعني أن نفكر اليوم، فلسفة الحداثة السياسية، مركز الإنماء العربي، 2002، ص 218