تفاجئنا الحروب التي شهدها ويشهدها العالم، في الحقبة الراهنة، بالحجم الهائل من الفتك والتدمير المرافق لها. يحصل ذلك رغم أنّ أسلحة الدمار الشامل لم تُختبر منذ نهايات الحرب العالمية الثانية. وهي، بالتأكيد، لو اختبرت، لحَسد الأحياء الأموات على حد قول منسوب إلى الرئيس السوفياتي المثير للجدل نيكيتا خروتشوف.
والعنف، في الأساس، هو عنف القوي حين يستخدم ما يملكه من قوة أو من فائض قوة ضد الضعيف. الهدف هو دائماً الاخضاع والسيطرة والاستغلال والتوسع والنهب... وفي مواجهة هذا النوع من العنف، برز عنف دفاعي مضاد، استخدمه أفراد واعتمدته جماعات، وأسبغت عليه، طبقاً لطبيعته الدفاعية تلك، صفة المشروعية المثبتة في القانون والأعراف الدوليين.
لقد شاع قول كلاوسيفتش بأنّ الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل جديدة. والأصح القول، خصوصاً بعد تجارب الحروب الكبيرة والصغيرة الراهنة، إنّ الحرب هي السياسة بوسائل أخطر وأقذر. يحضر هذا الاستنتاج بمناسبة ما نشاهده ونسمعه عن صور وأخبار المجازر والمآسي، خصوصاً بعد أن أصبحت الشاشة الصغيرة مرآة حية ومباشرة لما يحصل على أرض الحدث. ويجب أن نلاحظ، وباستعادة لشطر مما قاله المتنبي، فإنه على قدر أهل العزم تأتي الجرائم! صحيح أن «الصغار» يمارسون أيضاً القتل و«يبرعون» في تقديم نماذج وأشكال جديدة منه، إلا أنّ «الفضل» الأول يبقى للقتلة «الكبار»: أولئك الذين يملكون الوسائل الأفعل والأفتك والأكثر قدرة على الانتقال والانتشار: في البحار وفي القارات وفي الأفلاك وبين النجوم!
لقد روى صحافيون أميركيون، وكذلك أكّد رسميون أميركيون أيضاً، أنه كان ممنوعاً على العدسات أن تنقل ما حدث في حرب «عاصفة الصحراء» ضد الجيش العراقي عام 1990. قيل يومها، في تقارير رسمية، إنها لو فعلت لنقلت الأهوال! وفي غزو العراق واحتلاله، مرة ثانية، عام 2003، مارس الأميركيون، قادة وأفراداًَ، هوايات غريبة في القتل والتدمير والتعذيب. شمل ذلك تدمير حضارة وتراث إنسانيين وإذلال بشر (سجن أبو غريب) وممارسة قتل الناس، إبعاداً للضجر وتقطيعاً للوقت؟!
وفي حروب إسرائيل العدوانية، اختبر الطرفان الأميركي والصهيوني (وكانا دائماً شريكين في العدوان) أسلحة جديدة، منها القنابل الفراغية، وكذلك منظومات تكنولوجية حديثة في سلاح الجو، وفي الصواريخ، وفي القنابل الموجهة ضد الأفراد... هذا من دون أن نتحدث عن الاغتصاب والتشريد، وقبل ذلك عن النازية والفاشية وحروب الإبادة العنصرية.
وفي امتداد تاريخ عنف «القوي» نشأ عنف «الضعيف». وهو، كما ذكرنا، عنف دفاعي. غالباً ما استخدم وسائل وأدوات محدودة. ثم هو ارتكز، في محطاته الأساسية، على الفعل الشعبي الواسع من قبل المتضررين. ونقع في التاريخ المعاصر والراهن على ثورات مهمة وضخمة وعظيمة النتائج، ومع ذلك كان ضحاياها وخسائرها محدودين وحمل بعضها اسم الثورة «المخملية» أو البيضاء... وحيث إنّه لكل قاعدة استثناء، ووفقاً لمبدأ النسبية، فإنّ بعض «الثوار» قد جنح نحو العنف ضد ناسه. هذا حصل في التجربة الستالينية حيث نسبت تصفيات فظيعة في الحزب الشيوعي نفسه وعلى أيدي الأجهزة الأمنية لهذا الحزب. وفي كمبوديا، قدّم بول بوت نموذجاً غريباً في الإكراه، ذهب ضحيته مئات الآلاف قتلاً وتشريداً وإذلالاً.
وفي تجارب راهنة نقع على نماذج مخيفة من القتل المجاني. أسوأ تلك النماذج ما يجري باسم نوع غريب من التدين، هو في الواقع استخدام خبيث للدين لأغراض فئوية. يقوم هذا النوع من القتل الذي يبدأ فكرياً وذهنياً، على تصوير الخالق كأنه لا يفتح ملكوته وجنته إلا لمن يقتل أكثر! ضحايا هذا الاتجاه التكفيري هم الناس عموماً، وإن بدرجات وأولويات حتى يأتي موعد «الجهاد» وتصدر قرارات «الأمير».
ونشأ بالتفاعل مع الصراعات السياسية والاجتماعية، عنف من نوع ثالث، هو عنف الحفاظ على السلطة بأي طريقة وثمن. واشتُقّت لتبرير ذلك نظريات وحكايات وأولويات. ولقد اقترن هذا النوع من العنف بأشكال متواصلة من المنع والقمع والاضطهاد والاستبداد. هنا، كما في الحالة التكفيرية، نسبياً، يجري استخدام الشعارات العامة لتبرير السياسات الخاصة، وإطلاق الادعاءات الوطنية والقومية، لإمرار المصالح الفئوية. وحيث إنّ «السياسي» (بما هو اهتمام بالشأن العام وتقديم البرامج من أجل تحقيق التقدم) في تقهقر متواصل، فإن ما يتقدم هو الفوضى وانهيار الأسس وتفشي الأنانيات والفئويات من كل نوع. إنّ الاختلال في التوازن ما بين الأقوياء والضعفاء (خصوصاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومته) قد أغرى ذوي السلطان والسلطات بالمزيد من المكاسب والهيمنة والاخضاع. وكذلك فإن ضعف وتراجع القوى التي رفعت شعارات مواجهة الاستغلال والنهب والاعتداء على الحريات وحقوق أكثرية الناس (وعلى حياتهم حتى)، قد أطلقا آليات وأشكالاً مخيفة لممارسة التعسف غير المقيد بحدود أو روادع.
وتشكّل سوريا، للأسف، اليوم مختبراً لأشكال جامحة ومتطرفة من التعويل على العنف وممارسته بدون ضوابط. إنّ ما يعيشه الشعب السوري هو محنة عظيمة قد تهدد كل مقومات وطنه وعيشه وكرامته ووجوده. وإذا ما استمر الصراع على وتيرته تلك، والأرجح أنه سيستمر ويتصاعد بسبب جملة مصالح خارجية وحسابات خاطئة داخلية، فإن الآتي، للأسف، مرة جديدة، سيكون أفدح وأخطر.
لا تنفع الأمنيات في الصراعات. لكن المصالح نفسها، إذا كانت هي المقياس (وهي مصالح جماعية عامة وفردية خاصة) توجب وقف تدمير سوريا والحيلولة دون مواصلة فجيعة الموت فيها.
لن تأتي المبادرة حتماً من الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل!؟
* كاتب وسياسي لبناني