حين تدفع الفئات الضعيفة والمهمّشة داخل المجتمع فاتورة التغيير في مصر فهذا يعني أنّ المشكلة مع 30 يونيو أكبر ممّا اعتقدنا. لنقل إنّها أكبر من مشكلتنا مع 25 يناير. في الحالتين جرت التضحية بالفقراء والمهمّشين، ولكنّها في حالة يناير بدت مقبولة أكثر لأنّها تأتي في سياق تحلّل السلطة المسؤولة عن تهميشهم، أمّا في يونيو فالأمر اختلف كثيراً. أوّلا لأنّ «السلطة» التي تحلّلت هذه المرّة (سلطة مرسي) لا تزال تمتلك الأدوات التي تجعلها قادرة على الإيذاء والبطش، وثانياً لأنّ تفكّكها لم يكن بمعزل عن نيّة «الدولة العميقة» إيكالها شؤون الأطراف، وبالتالي انغلاق الأفق الذي انفتح في 30 يونيو وأتاح لمنطقة نائية مثل الصعيد أن تنتفض على سلطة الإخوان. الأخبار الواردة من هناك الآن ليست كثيرة، ولكنها تكفي لتكوين صورة عن ماهية السلطة التي تتكوّن حالياً. فهي منذ الآن لا تبدي اهتماماً بالنسيج الاجتماعي الذي يحاول الإخوان والسلفيون تفكيكه بغرض الظهور بمظهر القوي وغير القابل بسهولة للإخضاع.
معظم «ضحايا» الإخوان هناك هم من الشرطة وجهاز الأمن، وهذا «منطقي» بالنظر إلى ما فعله الجهاز بهم قبل وفي أثناء فضّ الاعتصامين، لكنّه لن يستمر كذلك في حال انتقالهم للمسّ بالمدنيين المؤيدين للسلطة الجديدة. في الحالتين يتصرّف الإخوان ومن معهم (الجماعة الإسلامية، الأحزاب السلفية) كسلطة سابقة فقدت صوابها ولا تريد الإقرار بهزيمتها أمام المجتمع. دخول المجتمع على الخطّ مهم هنا، لأنّه صعّب الأمر على الإخوان ونزع منهم ورقة المظلومية أمام السلطة وبطشها. فصرنا بالتالي إزاء مجتمع يواجه الإخوان «بطبقاته المختلفة»، لا أمام سلطة تواجههم وتبطش بفقرائهم وحدها. للعلم فقط فانّ البطش بالفقراء حصل فعلاً وفي أكثر من مناسبة (مجازر المنصّة والحرس الجمهوري وأخيرا رابعة العدوية)، غير أنّه لم يلق استنكار يذكر من جانب المجتمع - سوى من جانب بعض الأصوات الحقوقية واليسارية الشّجاعة -، وهذا دليل إضافي على المشكلة التي تسبّبت بها ممارسات الإخوان للقواعد المفقرة والمعرّضة في أيّ لحظة لبطش الدولة وأجهزتها. كان يمكن أن تكون خسارة الإخوان أقلّ لو عوّضوا فقدانهم للسلطة بكسبهم للمجتمع، أو للفئات التي أبدت استعداداً للتعاطف معهم بعد عمليات القتل التي طالتهم من جانب الجيش والشرطة. حتّى هذا المعطى استكثرته القيادات الإخوانية على قواعدها الفقيرة والمعدمة، فبدلاً من التعامل عنفياً مع السلطة وحدها جرى زجّ المجتمع الكاره للإخوان في الصراع، ومنذ اليوم الأول للخروج تقريباً. بهذا المعنى يصبح استهداف الصعيد بعمليات القتل والإحراق والإذلال اليومي جزءاً من سيرورة بدأت في القاهرة (أحداث المنيل وبين السرايات والدقّي والمقطّم و... إلخ) قبل أن تنتقل إلى المحافظات الطرفية التي تتمتّع بثقل إخواني وسلفي كبير. لطالما كان التعاطي مع المهمّشين هو المفتاح لفهم سلوك السلطة، أيّ سلطة سواء حين تستعرض قوّتها أو حين تخسرها. في حالة الإخوان حصل الاستعراض من موقع الخسارة، إلا أنّ وقعه على الضحايا لم يكن أقلّ من وقع استعراضات الجيش ــ وهو الرابح اليوم ــ على ضحاياه من فقراء الإخوان. لنبتعد عن الصعيد قليلاً رغم مركزيّته في فهم ما يحدث للفقراء، ونأخذ مجزرة أبو زعبل كمثال (سأتطرّق إلى مجزرة رفح الثانية لاحقاً). أبو زعبل هو سجن «مركزي» يتم نقل الموقوفين والمعتقلين منه واليه، ويبدو أنّه استخدم في هذه الفترة أكثر من غيره كمعتقل للموقوفين من الإخوان والجماعات الإسلامية الأخرى. الحادثة بدأت عندما كانت تتوجّه سيارة ترحيلات لنقل المعتقلين ــ ولا أقول المساجين ــ إليه، وإذا بمجموعة مسلّحة توقفها وتجبر عناصر الشرطة التي فيها على النزول. إلى الآن الأمر مفهوم ولكن المشكلة تبدأ عندما نكتشف أنّ أكثر من ثلاثين معتقلاً من هؤلاء قد قتلوا جرّاء... الاختناق بالغاز! هكذا قيل لنا في الإعلام المصري الموالي للسلطة الجديدة بشقّيه الرسمي والخاص. الانشغال بتفاصيل ما حدث (كيف قتل هؤلاء بالغاز وهو لا يستخدم عادة إلّا في تفريق الاحتجاجات؟ لماذا يستخدم الغاز أصلاً في اشتباك بين طرفين يستعملان الأسلحة الآلية؟ هل ما حصل هو نتاج تمرّد داخل عربة الترحيل جرى التعامل معه مباشرة بإطلاق الغازات المسيلة للدموع؟) مهمّ وضروري في ضوء السيطرة المستجدة على مصادر المعلومات، ولكنّ الأهم منه هو مساءلة الآليّة التي تستخدمها السلطة للحطّ من شأن الفقراء، حتّى وهم يقتلون بالغاز! التحقير هنا يتمّ على أكثر من مستوى، والأرجح كذلك أنّه لا يحصل بمعزل عن التركيب الطبقي للتحالف الحاكم حاليّاً. بمعنى أنّ العداء للإخوان كجماعة وكتنظيم دولي لا يصلح وحده لتفسير ما يواجه به فقراؤهم من إذلال وقتل منهجي. لا يمكن أصلاً تفسير ما يصدر عن السلطة الجديدة تجاه ضحاياها من الفقراء خارج السياق الذي أودى بالإخوان وحلفائهم إلى التهلكة.
حينها لم يطردوا لأسباب تتعلّق باخوانيّتهم، أو لأنّ المصريين يكرهونهم بالفطرة (يروق للبعض استخدام المسألة الثقافية في مواجهة الإخوان وهو أمر مؤسف بكلّ المقاييس، ويكاد لا يصلح حتّى كدعابة)، بل لأنّهم كسلطة طبقية همّشوا الآخرين وأجبروهم على النزول إلى الشارع والاحتجاج ضدّهم. من بين هؤلاء المحتجّين في 30 يونيو و3 يوليو فقراء يشبهون فقراءهم الذين يحتجّون اليوم ضدّ حكم العسكر. صحيح أنّهم لم يكونوا أكثرية ضمن موجة يونيو، إلّا أنهم تواجدوا بفاعلية، وازدادت فاعليتهم أكثر حين اقتحم الإخوان بالسلاح الآلي أحياءهم ومناطقهم بعد إسقاط مرسي (أحداث المنيل وبين السرايات تحديداً). إذا فهمنا ذلك جيّداً فيسهل علينا تفكيك الديناميّة التي تتحرّك بموجبها السلطة، أيّ سلطة في مواجهة طبقات بعينها من المصريين، إذ كما قال عبد الحليم قنديل قبل أيّام من على شاشة «أون تي في» المصرية (أصبحت مشاهدتها مرهقة بالنسبة لي بعد إشهارها لوغو «الحرب ضدّ الإرهاب»، تبّاً للفاشيّة حين تصبح شعاراً في مواجهة فاشيين آخرين): الإخوان سقطوا لأنّ مشروعهم الاقتصادي انتهى، لا لأنّهم وظّفوا الدين في خدمة هذا المشروع. الرجل كان واضحاً في تصويبه على الإخوان كرأسماليّة احتكارية تريد الاستحواذ على السلطة، وليس كتنظيم ديني له مريدون وخصوم سياسيّون. وكان واضحاً أكثر في التقليل من شأن الفرضيات التي تهمّش العامل الاقتصادي ولا تعتبره الأساس في ما يحدث. فكما ساعدهم التهميش الاقتصادي والاجتماعي في إسقاط مبارك «إلى جانب الثورييّن» كذلك فعل مع خصومهم حين أصبحوا هم في السلطة. بالأساس يصعب على غير المعتقدين بالتحليل الطبقي تفسير هذا الخروج المليوني إلى الشارع كلّما بلغ الصدام مع السلطة ذروته. الآن بدأت السلطة الجديدة في الصدام مع كتلة الإخوان الاجتماعية، وهؤلاء يضربون موعداً لخروجهم ضدّها في الثلاثين من آب الجاري.
من الصعب علينا توقّع ما سيحدث في هذا اليوم، ولكن التطوّر الطبيعي للفعل الاحتجاجي لا ينبئ حتّى الآن بشبهة انتفاضة. ليس لأنّ القتل هذه المرّة أقلّ وطأة من عهود سابقة (بالأحرى كان هذه المرّة مضاعفاً بحيث تجاوز عدد من قتلوا حاجز الألف مواطن)، وليس لأنّ التهميش والسحق لم يطاولا الفقراء بعد (شاهدنا بأمّ العين كيف تعاملت السلطة مع ضحايا مجزرة أبو زعبل)، بل لنيل الفقراء من الجانب الآخر قسطاً وافراً من عمليات القتل التي باشرها الإخوان في هجومهم المضاد. فقبل يوم واحد من مجزرة أبو زعبل حصلت مجزرة مشابهة تقريبا لجهة عدد الضحايا، ولكنّها فاقتها في الوحشيّة وامتهان كرامة البشر. المجزرة وقعت في رفح أثناء ذهاب مجموعة من المجنّدين الذين انهوا مدّة تجنيدهم الإجباري لتخليص أوراقهم والانتهاء من متعلّقاتهم العسكرية. وفي الطريق إلى رفح استوقفتهم مجموعة مسلّحة وأنزلتهم وحدهم (دون السائق الذي قيل إنّ المسلّحين تركوه لينجو بنفسه وبحافلته!) لتعمل بهم تقتيلاً وتمثيلاً بأجسادهم بعد إعدامهم.
يصعب علينا التكهّن بالفصيل الذي تنتمي إليه هذه المجموعة، ولكن السياق العام لتحرّكها يشير إلى صلة ما تربطها بما فعله الإخوان من قبل في العاصمة وبعض محافظات الصعيد. كلّ أعمال القتل التي أعقبت إسقاط مرسي بدت متزامنة، الأمر الذي يعطي انطباعاً بأنّها كانت منسّقة وذات ترتيب هرمي. ونعلم اليوم أنّ التنسيق ذاك لم يكن لمواجهة النظام أو أجهزة الدولة القمعية وحدها، فلو كان ذلك هو الهدف فحسب لما توسّعت القاعدة الاجتماعية المناوئة للإخوان أفقياً، ووجدت لها أرضاً جديدة. في المنوفية، مثلاً، أتت ردود الفعل على مجزرة رفح الثانية مضاعفة وبما يفوق أيّ قدرة على التوقّع. لنتذكّر معاً أنّ معظم المجنّدين الذين أعدموا في رفح كانوا من المنوفية، وهي بالأساس محافظة معروفة بمناوأتها للإخوان وبخروجها ضدّهم كلّما سنحت لها الفرصة. الأخبار الواردة من هناك تقول بأنّ أهل المنوفية تعاملوا مع الإخوان بنفس طريقة تعامل الجماعة وحلفائها مع أهل الصعيد المعارضين لهم. ففي نزاعات مماثلة يتساوى الفقراء في دفع الأثمان ولا يعود التمييز بينهم أولويّة بالنسبة لمن يقوم بأعمال الحرق أو القتل. كان على الإخوان أن يتوقّعوا ذلك قبل الزجّ بفقرائهم في مواجهة فقراء آخرين. فقد أحرقت محالهم ومنازلهم في المحافظة المفجوعة بأبنائها ولم يسلم منهم إلّا من رفع صور السيسي أو تظاهر بتأييده للجيش والسلطة الجديدة! في الحقيقة لا يمكن الابتهاج بأخبار مماثلة، ولكنّها تأتي كما سبق وذكرنا في سياق الردّ على توريط الإخوان المجتمع المصري في معركتهم ضدّ الجيش وأجهزة الأمن.
لقد خسروا في المرّة السابقة عندما رفعوا السلاح في وجه فقراء القاهرة ومهمّشيها، والآن يعاودون الخسارة في الدلتا بعد جولة اعتبروها رابحة في الصعيد (بني سويف، المنيا، أسيوط). وإذا استمرّوا على هذا المنوال فسيجدون أنفسهم محاصرين بالمجتمع قبل أيّ هجوم يشنّونه على مركز للشرطة أو مديرية للأمن. الأمر في مصر «مختلف» قليلاً عمّا نعيشه نحن في سوريا. فهنا لا تحظى أجهزة الدولة بالإجماع كما هي الحال هناك، ولا تتوافر في الجيش الذي يقاتل «نصف شعبه» عناصر يمكن التعويل عليها لقيادة المرحلة الانتقالية حين يصدر الأمر بتعليق الحرب أو
«إنهائها».
في مصر ثمّة دولة عميقة يكرهها الثوريّون ويستعجلون إن لم يكن القطيعة معها فعلى الأقلّ تحييد الأجهزة الأكثر بطشاً داخلها، ولكنّها في النهاية دولة توفّر سياقاً سياسياً لصراع الأحزاب وطبقات المجتمع. و«الجديد» اليوم أنّها تحظى بدعم قطاع لا بأس به من الفقراء والطبقة الوسطى. وهذا متوقّع في الحالة المصرية، حيث التحلّل الاجتماعي الجاري يجعل من اصطفاف الفئات الضعيفة والمهمّشة خلف مؤسّسات الدولة أمراً ممكناً، لا بل ضرورياً أحياناً. لنقل إنّها سمة من سمات المجتمعات المتجانسة وغير المنقسمة عموديّاً على نفسها. ستستمرّ عملية «التحلّل الاجتماعي» هناك، فنحن في النهاية إزاء صيرورة ثوريّة، ولكن ليس بالضرورة على أساس المواجهة بين الفقراء واستحلال دمائهم. هل من يخبر القتلة داخل الإخوان وأجهزة الأمن (وكذا الجيش) بذلك؟
* كاتب سوري