يمكن القول الآن إنّ الحريق السوري بات يلتهم شيئاً فشيئاً الهشيم اللبناني بعد العملين الارهابيين الأخيرين في الضاحية الجنوبية وطرابلس، ما يشي باحتمالات تفجّر صراع طائفي ومذهبي واسع في البلد الذي كان صاحب السبق في أطول حرب أهلية ــ اقليمية عرفتها بلدان المنطقة، والتي لا تزال تداعياتها ومفاعيلها قائمة إلى الآن لدرجة أن اللبننة غدت على خلفية الحرب اللبنانية تلك كناية عن التفتت والتنازع والتطاحن.
والحال أن الحدث السوري بات بمثابة صاعق تفجير للأوضاع في لبنان، فبعد التدخلات المباشرة والمعلنة لحزب الله وبعض القوى السلفية اللبنانية في الصراع على الأرض في سوريا باتت ترتسم ملامح حرب مذهبية سنية ــ شيعية على امتداد المنطقة يكون البلدان المتجاوران ساحتها الأساسية، وكأنّ تلازم المسارين إيّاه تحوّل إلى تلازم الحربين الأهليتين. وليس خافياً هنا أنّ النظام المتهالك في دمشق لطالما لعب على ورقة الانقسام السني ــ الشيعي منذ اندلاع الثورة الشعبية ضده قبل أكثر من عامين، كما ساهمت قوى المعارضة العربية السورية المسلحة، هي أيضاً، في تكريسه عبر انجرارها مع النظام في أتون حرب طائفية بات العالم كله يتحدث عنها. ولم تعد فقط مجرد مخاوف أو تحذيرات، فما هو قائم الآن في سوريا حرب مذهبية موصوفة تستحضر تاريخاً دموياً من الصراع والتناحر على مدى ألف وأربعمائة عام. الأمر الذي لا يجدي في التغطية عليه التكاذب عن الإخوة والوطن الواحد والدين الواحد، وما هنالك من شعارات وحدوية يثبت واقع الحال في عموم دول منطقتنا تهافتها. فالمنظومات الدولتية المرسومة بفعل مِسطرتيْ سايكس وبيكو ها هي تتداعى بعد طول فشل، كونها لا تعبّر عن واقع التعدد والتنوع داخل حدود هذه الدول الاعتباطية التي دمجت شعوباً وطوائف وأدياناً ومذاهب قسراً، ودونما قوننة ودسترة لتنظيم هذا التعدد المكوناتي. والاكتفاء بأهازيج من خامة كلنا إخوة وأبناء بلد واحد، والتي هي مجرد تجميل لواقع حال نظم استبدادية متسلطة ممثلة لأكثريات أو حتى لأقليات في بلدان مأزومة وفاشلة، ولعل النبرة الشعاراتية المنتفخة بين ظهرانينا حول الوطن والوطنية والمؤامرة السرمدية عليهما تعكس هشاشة أوطاننا وركاكتها لدرجة لا يرقعها التعويض اللفظي السمج ذاك. ما حدث في صيدا وفي القرى على جانبي الحدود السورية ــ اللبنانية واستهداف الأراضي اللبنانية بالقصف من قبل بعض المعارضة السورية، وصولاً إلى تفجيري طرابلس والضاحية الجنوبية برمزيتها المعروفة كمعقل لحزب الله في العاصمة اللبنانية يشي بما هو أخطر. فها هو ما سمي الربيع العربي يتحول إلى مواجهة سنية ــ شيعية تفجر أحقاداً واحتقانات وتراكمات فشل حضاري مزمن تعيشه هذه المجتمعات. فيتم الانغماس في صراع مذهبي تاريخي لا حاجة للإشارة إلى مدى خطورته لو أنفلت من عقاله، فدوماً الحروب المذهبية والدينية عبر التاريخ هي الأشرس والأكثر دموية وديمومة كون الأطراف المتحاربة تنصب نفسها وكيلة الله على الأرض، وتتنازع فيما بينها على شرعية التمثيل السماوي (أحد قادة السلفية الجهادية الأردنية المدعو أبو سياف كشف مؤخراً أنهم سينتصرون في سوريا كونهم على تخاطب واتصال مباشر مع الله). الأمر الذي يغدو معه البشر والحجر والبلاد والعباد مجرد تفصيل ووقود لنيران الحروب «المقدسة» تلك، بدل التطلع إلى المستقبل والتأسيس لمجتمعات وأوطان حرة ومتقدمة وفق مبادئ الحرية والمساواة والعدالة والقطع مع سائر أشكال الوعي الماضوي لا سيما الديني المسيّس.
وهكذا نعود القهقرى إلى نحو ألف وخمسمائة عام خلت، وكأننا ما زلنا في بدايات تفجر هذا الصراع نراوح مكاننا ونجتر تخلفنا على ما شاهدنا مثلاً في مصر قبل أسابيع، حين تم قتل مجموعة مواطنين شيعة بالعصي والسكاكين في إحدى القرى من قبل أهلها ممن هم في غالبيتهم سنة، في جريمة تعكس مدى الانحطاط المتمادي في ربوعنا... هي الهمجية العارية تطل برأسها من مصر إلى لبنان وسوريا والحبل على الجرار مع الأسف.
* كاتب كردي