اتسمت العلاقة بين الإخوان المسلمين وحركة الضباط الأحرار بالتعقيد منذ بداية ثورة يوليو 1952 التي شارك الإخوان المسلمون فيها كضباط في الجيش؛ فالعلاقة بدأت باكراً، ولم يكن تنظيم الضباط الأحرار تنظيماً سياسياً موحد الفكر والأهداف، بل كان يضم مجموعة متباينة من الضباط الوطنيين الذين التقوا على عدد محدد من الأهداف. لا شك في أنّ جماعة الإخوان المسلمين قد أدت دوراً إيجابياً في إنجاح حركة الضباط الأحرار، في وقت اتسمت فيه العلاقة بين الإخوان والضباط بفترة من الجدية والهدوء؛ إذ أقدمت حركة الضباط الأحرار على الإفراج عن جميع المعتقلين من الإخوان في عهد الملك فاروق، وقدمت إلى المحاكمة المتهم الأول بالتخطيط لعملية اغتيال حسن البنا. منذ اللحظات الأولى لحركة الجيش، أعلن الإخوان مراراً الضرورة الملحة لإعادة تأسيس الحكم على أسس إسلامية، وكان هناك اتجاهان داخل «الجماعة»: الأول، يبارك كل خطوات الضباط الأحرار، والثاني يتمركز أساساً في التنظيم السري ويتعامل مع حركة الضباط بكثير من الحذر.
أول أزمة حقيقية بين مجلس قيادة الثورة والإخوان المسلمين كانت بسبب رفض طبيعة نظام الحكم وموقف الإخوان وقرارهم عدم المشاركة بسبب خشيتها من فقدان صفتها الشعبية وتلوثها بالسلطة، وكشف تنظيمها لسلطة لن تقودها.
إن الخوف الذي لمّح إليه محمد نجيب - الذي تولى رئاسة الجمهورية قبل عبد الناصر - من تعريض النظام لمعاداة الأجانب والأقليات في حال اشتراك الإخوان في الوزارة أحدث انقساماً داخل الجماعة بين مجموعة تؤيد الحكومة، ومجموعة أخرى تتخذ موقفاً منها.
لكن هذا الأمر فتح صراعاً على مراحل بين الإخوان والحكومة، حتى تفاقمت الأحداث التي أوصلته إلى نقطة اللاعودة (أحداث الجامعة في يناير/ كانون الثاني 1954، ثم أزمة مارس/ آذار أيضاً، وصولاً إلى حادثة المنشية التي شكلت جميعها بداية عداوة تصاعدت بين عبد الناصر والإخوان بلغت ذروتها ونقطة اللاعودة في حادثة سجن طرة، ودكّ الإخوان في السجون وإعدام سيد قطب الذي قلب معادلة حسن البنا ومنظومته الفكرية، وغدا رمزاً إخوانياً متطرفاً في طروحاته ضد الحكم، وبرزت معه مفاهيم جديدة كالجاهلية والحاكمية.
ما من شك أنّ العداوة استحكمت بين الجيش المصري وقيادته السياسية من جهة والإخوان من جهة أخرى، إضافة إلى تراكم الخلافات التي أحاطت بقيادة عبد الناصر مع الغرب من جهة ومع السعودية من جهة أخرى، التي دعمت الإخوان في وجه نظامه، لا حباً بمبادئ الإخوان، بل لوقوفهم في وجه عبدالناصر ومشروعه، حيث كان التحالف السعودي لصيقاً ببريطانيا، وفي ما بعد بالولايات المتحدة الأميركية. خرجت في بداية السبعينيات حركات جهادية من عباءة الإخوان المسلمين تنظمت فكرياً في السجون، وما لبثت أن انشقت عنها. وبرزت هذه الحركات في عهد أنور السادات الذي دعمها بداية داخلياً من أجل مصالحه، ومن أجل تثبيت دعائم حكمه في وجه الشيوعيين والناصريين بعد أن انسلخ عسكرياً عن الاتحاد السوفياتي وفتح قناة واسعة مع الولايات المتحدة الأميركية، لكن ما لبث أن اختلف مع هذه الحركات الإسلامية، وأدّت الخلافات إلى إعادة اعتقال البعض منهم.
في بداية الحرب الأفغانية، امتثلت دول عربية حليفة للولايات المتحدة الأميركية لدعوة هذه الأخيرة إلى الجهاد بوجه الاتحاد السوفياتي، وانخرطت بالمشروع، وهي المغرب والأردن ومصر والسعودية وتركيا. لكن عند انتهاء الحرب الأفعانية وسقوط المنظومة الاشتراكية، تعرضت مصر في بدايات 1993 لسلسلة من الهجمات التي خاضتها الحركات الإسلامية المتطرفة العائدة من الحرب الأفغانية، وهم الذين سُمّوا الأفغان العرب، لكن الإخوان تنصلوا منهم ومن أعمالهم الإرهابية.
للصراع إذاً بين العسكر والإخوان وبعض الحركات الإسلامية تاريخ لم يمح على مر العهود في مصر. لكن ثورة 25 يناير حتمت على المجلس العسكري تسلماً موقتاً للسلطة إلى حين إجراء انتخابات وكتابة دستور جديد وتسليم السلطة للقوى المنتخبة. عُدَّت مصر في فترة انتقالية، وتولى الجيش إدارة السلطة. لكن لا الجيش ولا الإخوان أرادا إعادة عقارب الزمن إلى 1954، والحذر كان سيد الموقف بين الاثنين، ولكن الغرب خاض حملات تعبيراً عن دعمه المباشر للإخوان في مصر وللإسلام السياسي في المنطقة، كما جيشت بعض منظمات المجتمع المدني بعض الناشطين والأحزاب المدعومة من الولايات المتحدة ضد المجلس العسكري، واتهمت المشير طنطاوي بمحاولة الاستيلاء على السلطة. هذه الحملة شارك فيها، أيضاً، الإخوان عبر انخراط بعض أفرادهم في بعض منظمات المجتمع المدني، حيث انتهت المعارك الإعلامية والسياسية والأمنية بتولي الرئيس محمد مرسي سدة الحكم، وإقصاء المشير طنطاوي وسامي عنان.

فشل السياسة الداخلية للإخوان

ارتكب الإخوان المسلمون أخطاءً متكررة خلال سنة واحدة من وجودهم في السلطة؛ إذ بعد فوزهم ديموقراطياً بالانتخابات اختاروا أسلوب الصدام والاستئثار بالسلطة وإقصاء الشركاء أصحاب الدور الفاعل بالتغيير، وتفاقم الأزمات وهيمنة تعاليم المرشد بدل مشروع بناء الدولة، ومصادرة حريات الشعب، وإلغاء الدور المستقل للقضاء المصري، واختارت التصنيف والثأر، ما أثار عليهم نقمة المعارضة المتنوعة الأهداف والمشارب. لكن الطمأنات الدولية واعتقادهم بأنهم بنيلهم لرضى الأميركيين يمكنهم تجاهل مطالب القوى الشعبية أدّت إلى مزيد من المعارضة لحكمهم. فهم حاولوا السير على هدى تركيا، واختصار السنوات عبر أخونة مفاصل الدولة، وغاب عنهم أنّ أردوغان تمكّن من مفاصل الدولة ونجح اقتصادياً، ما أكسبه رضى الطبقات الاجتماعية الوسطى والدنيا، كذلك إنّ التركيبة الاقتصادية الاجتماعية لتركيا مختلفة عنها في مصر، ما وضعهم ‏في فخ تسرعهم، في الوقت الذي كان عليهم التدرج في الإمساك بالسلطة؛ لأن التسرع حمل فجوات سياسية واستراتيجية واسعة. لقد وقعوا في فخ استنتاجاتهم الخاطئة سياسياً، ما جعلهم يبدون كأنهم أتوا للانقضاض على السلطة والحكم بأدوات قديمة فكرياً وسياسياً.
لا شك في أنّ ترشيح مرسي كان خطأً؛ لأنّه لم يكن فوزاً حقيقياً بالمقاييس الفعلية، ولا سيما أنه لم تجر قراءة المشهد بدقة حين حصل أحمد شفيق على أصوات 12 مليون ناخب. وحصول محمد مرسي على 13 مليون ‏ناخب. أي بفارق بسيط، كان بالإمكان الاستنتاج أنّ نصف الشعب معادٍ للإخوان. ولم يكن جميع من صوتوا لهم من المنتمين إليهم أو المحبذين لمبادئهم، بل إنّ أصوات الناس عبّرت عن عداء لشفيق؛ لأنه كان بنظرهم يمثل حقبة مبارك. لقد تبنى الإخوان سياسة الإقصاء بدل الاستيعاب، ووضعوا أنفسهم في مواجهة مع الجميع، فيما كانت مؤسسات الدولة لا تزال مليئة بعناصر النظام السابق وخبراته، حتى القضاء. أما الإعلام، فوقف ضدهم، وكان مدعوماً خليجياً من السعودية والإمارات. هذه الدول التي عبّرت علناً عن دعمها لمبارك ووقفت ضد الإخوان لأسباب تتعلق بالخوف على أنظمتها من الأخونة. لقد ‏تبارى الإخوان ‏في تخوين المعارضين، فيما كان من الممكن الاتفاق معهم سياسياً. أما إبعاد المشير طنطاوي والفريق سامي عنان، فكان خطأً حمل الجيش على الحذر من نياتهم الاستحواذية.

الأخطاء في السياسة الخارجية

صحيح أنّ الغرب برمته وقف داعماً لانتخابات سريعة في مصر للملمة الوضع خوفاً على مصالحه التي رعاها الرئيس مبارك والاتفاقات الدولية والأمنية، التي كانت تشكل لبّ العلاقات المصرية الغربية والإسرائيلية. لكن لا شك في أنّه كان للأميركيين أهداف ومصالح مهمة من خلال دعم جماعة الإخوان المسلمين.
الهدف الأول هو إعادة الاتكال على الإسلام المعتدل في إدارة المنطقة، ولا سيما في البلدان التي لطالما عُدَّت أنظمتها موالية لأميركا، مثل مصر وتونس، وتمثّلت الأهداف بالسعي إلى تمتين عصب محور سني جديد في المنطقة بديل من محور الاعتدال السابق، بعد الفشل الأميركي بتوجيه ضربة إلى المحور الممانع الذي تقوده إيران، التي امتد نفوذها إلى العراق وسوريا ولبنان. فكان ضرب سوريا واسطة العقد؛ فالمشروع الأميركي يقوم على إشعال الصراع السني ـــ الشيعي في المنطقة، ما قد يجعله سيد اللعبة.
الهدف الثاني هو تأكد الولايات المتحدة من ضمان الإخوان اتفاقية كامب ديفيد والمونة على حركة حماس، حيث برز هذا الأمر جلياً في الحرب الأخيرة على غزة؛ إذ تضامنت إدارة مرسي مع حماس، ولم تحاصر القطاع كما فعل مبارك. في النهاية ضمنت وقف إطلاق النار. لقد كان مطلوباً إبعاد حركة حماس عن المحور الإيراني وإدخالها في محور تركي ـــ مصري والدخول في هدنة طويلة مع إسرائيل. الهدف الثالث هو ربط مصر بالوكيل التركي الذي له مصلحة مباشرة وفرصة مواتية في تولي الإخوان في كل مصر وتونس، والسعي إلى السيطرة على سوريا والعراق. كذلك راهنت إدارة أوباما على مدى نجاح جماعة الإخوان المسلمين في تأدية الخدمات الإقليمية التي عجزت إدارة مبارك عن تقديمها، ولا سيما أنّ التصور الاقتصادي للإخوان المسلمين لا يعادي السياسات النيوليبرالية.

30 يونيو: عود على بدء أم نهج جديد؟

هل يكفي القول إنّ القوى المتضررة من الإخوان وسياساتهم قد أعدّت ثورة جديدة ضدهم في 30 يونيو؟ لقد تشكلت هذه القوى من أربعة أجنحة، هي: المؤسسة العسكرية، السلفيون، الليبراليون الناصرين والثوريون، ومناصرو النظام المباركي. هل كان في الأمر مؤامرة من الجيش على الإخوان؟ لا شك أنّ الجيش توجس من الإخوان، لكن الشعب برمته ثار على الإخوان وسياساتهم العمياء. لقد تصرفوا كما النظام السابق، أي بضمان موافقة الخارج ودعمه لهم، في حين أنّ الثورة على المباركية السياسية حملت في أحشائها نقداً لدفع فواتير للخارج ظناً منها أنها تضمن ديمومتها واستمرارها. صحيح أن أنصار البورجوازية المباركية شكلوا حلقة الوصل ‏بين القوى الإقليمية، أي السعودية والإمارات والكويت الخائفة من الإخوان على أنظمتها، وبين الإعلام الذي قاد حملة على الإخوان ونعتهم بالفاشية منذ توليهم السلطة، لكن المؤسسة العسكرية الخائفة من عزل المؤسسة كما جرى في تركيا توجست، أيضاً، من مصير مشابه.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هو: هل يمكن أن تدعم السعودية التحركات المعادية للإخوان دون دعم أو على الأقل موافقة أميركية؟ ولكن الإخوان مدعومون، أيضاً، من تركيا، وهي من المحور الحليف للأميركيين! إذا كان كذلك، فما الذي جعل الولايات المتحدة تسحب توكيلها لتركيا، ومن الذي حرك أحداث تقسيم؟ ولماذا رفع الغطاء عن الحمديْن في قطر وأوقف قطار الإسلام السياسي في المنطقة؟ وأعاد للسعودية الدور القديم ـــ الجديد، أي إعادة تشكيل دول الاعتدال ووضع حد لمفاعيل الإسلام السياسي في المنطقة؟ أهو الخوف من أن يغيّر هذا الإسلام مواقفه من إسرائيل بعد أن يتمكّن؟ أم أنّ الانقلاب العسكري الذي قاده السيسي متكئاً على إرادة الدفق الشعبي هو نهج مصري جديد؟ أم عود على بدء؟ أسئلة ملحّة في ظل ما يخطط للمنطقة بعد فشل الخطة (أ) الأميركية، فهل نحن أمام الخطة (ب)، أم أنّ مصر تحاول استرجاع دورها العربي؟
* باحثة في علم الاجتماع السياسي