يعكف نشطاء وكتاب ومثقفون سعوديون على نقد الانتماء القبلي في السعودية. فمشكلة الانتماء إلى القبيلة هي أنّه أقوى بكثير من الانتماء الوطني ككل. فقد يولد شخص ما في المدينة ويعيش بها طوال عمره، ولكن يظل انتماؤه إلى قرية آبائه، التي لم يسكنها أو يزرها، أقوى بكثير من انتمائه إلى مدينته، وانتمائه إلى وطنه. وقد يتعاطف مع أفراد قبيلته خارج حدود البلاد ضد أبناء وطنه. في الحقيقة إنّ هذا كله صحيح، ولكن من الخطأ تصوير المشكلة على أنّها نتاج ثقاقة قبلية فقط.
والمشكلة الأكبر هي توظيف تلك الحالة القبلية في وجه أي مطلب شعبي للمشاركة في الحياة السياسية. فالقبيلة أو العامل القبلي في السعودية يصوّر كالعقبة الأكبر في طريق انشاء مؤسسات دستورية تتيح للمواطن المشاركة في اتخاذ القرار. حدث أن التقيت بالصدفة بالناشطة السعودية سعاد الشمري في بيروت، وبعد أن تحدثت طويلاً عن الحريات والحقوق، اقترحت أن يكون نصف مجلس الشورى منتخباً والنصف الآخر معيّناً. فسألتها عن سبب تضحيتها بنصف التمثيل الشعبي بعد الحديث الطويل عن الحقوق، فأجابت «لأننا قبائل»! وكذلك الشيخ عبد المحسن العواجي، يقول في قناة «الجزيرة» إنّ مجتمعنا القبلي في السعودية يحتاج إلى «صمام أمان»... كأنّ القبيلة قنبلة تريد الانفجار.
تلك النخبة، كما تسمى، إما أنّها تمارس التضليل الممنهج أو أنها فعلاً تجهل مجتمعها. فالقبيلة منظومة اجتماعية تنشأ جراء تحالفات سياسية على خلفية مصالح مشتركة وليس على خلفية أواصر الدم كما يعتقد البعض. فالكثير من القبائل الحالية في السعودية كانت قبل مئة أو مئتي عام قبائل عدة، دفعتهم المصلحة إلى التحالف لتكوين قبيلة أكبر وأقوى. فالنسيج القبلي ليس مقدساً، وقد يقوى ويضعف إذا تبدلت أسباب نشوئه في الأساس. فمصالح اليوم تستدعي نظماً اجتماعية أخرى، فمثلاً الوظيفة كمصدر رزق لا تستدعي الشخص للاستعانة بأفراد قبيلته للقيام بمهامها. وهكذا، ظلت القبيلة محافظة على انتماء أبنائها لها على حساب الانتماء الوطني في ظل الدولة الحديثة. فالقبيلة كيان سياسي بامتياز يتطلب ادماجه في كيان سياسي أكبر، خلق آليات تتيح للمواطن الفرصة للمشاركة في صنع القرار. ففي انعدام تلك الآليات، تتيح القبيلة لأبنائها مساحة كبيرة من المشاركة على الصعد الاجتماعية والسياسية. في داخل القبيلة، هناك نواب للقرى والعوائل يقومون بمهمة التمثيل لدى مشائخ القبائل وزعمائها. وكذلك هناك شرع وقضاء قبلي يتساوى أمامه الجميع. استبدل أبناء القبائل أجزاء من ذلك التنظيم الاجتماعي كمحاولة للانخراط في الدولة الحديثة، كالجوء للمحاكم الشرعية الدينية واقسام الشرطة وغيرها من المؤسسات. ولكن يظل الفرد حائراً بين تمثيل شعبي هش في قبيلته، بسبب وجود سلطة مركزية، وبين انعدام ذلك التمثيل ككل في دولة حديثة. وبين الهش والمعدوم، يظل الحنين أبداً لأول منزل، أي القبيلة. شعور المواطنة في الأوساط القبلية أقوى بكثير منه في المجتمع السعودي. فعلى الفرد واجبات وله حقوق مكفولة في وسطه بينما يجد مكرمات ممنوحة كبديل في المجتمع السعودي. يستطيع الفرد معارضة مشايخ القبيلة ونوابها بكل أريحية، بينما قد يسجن لكتابته مقالاً. وإذا كانت له أفكار وآراء دينية غير شائعة، فالقبيلة لا تعاقبه، بينما قد يكفر ويزندق في المجتمع السعودي. وغير ذلك من الأمثلة كثير.
لا أريد هنا أن أصوّر القبيلة على أنها أرقى تجمّع بشري، فلديها من السلبيات داخلها ما يندى له الجبين. ولكنها ليست عائقاً أمام المشاركة الشعبية في السلطة. فجعل الانتماء القبلي وأبناء القبائل ينتمون إلى الوطن أولاً، يتطلب خلق مجتمع حقيقي له قضاء يتساوى أمامه الجميع، له دستور يكفل الحريات والحقوق وينظم المشاركة الشعبية في إدارة البلاد. مجتمع يخلق حالة مواطنة بين مواطن ووطن لا بين راع ورعيّة.
* طالب سعودي