لم يكن قرار نتنياهو رئيس حكومة العدو في الأسبوع الأول من هذا الشهر بتشكيل هيئة مشتركة خلال أسبوعين تضم ممثلين عن الحكومة ومندوبين عن المسيحيين العرب داخل الكيان، لدفع عملية تجنيد الشبان العرب المسيحيين في جيش الغزو والاحتلال، وما يسمى «الخدمة المدنية»، سوى إعادة تنشيط خطة عملت عليها - وما زالت - جميع الحكومات منذ احتلال فلسطين عام 1948، وذلك بالتعامل مع الشعب العربي الفلسطيني بمنطق «التفتيت والتقسيم»، لكونه يتألف من مجموعة من «الطوائف» (الطائفة الإسلامية، والطائفة الدرزية، والطائفة البدوية، والطائفة المسيحية، والطائفة الشركسية)، مع العلم أنّ المسيحيين العرب في فلسطين المحتلة عام 1948 قارب تعدادهم 125 ألفاً، أو نحو 9% من الشعب العربي داخل الكيان /الثكنة، ويتركز معظمهم في مدينة الناصرة، والقرى المحيطة بها.
في الدراسة التي نشرتها في حزيران/ يونيو من هذا العام، توضح لجنة العدل والسلام في مجلس الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة، توجهات حكومات العدو تجاه قضية التجنيد (هناك فئتان لم يفرض عليهما التجنيد الإجباري، هما اليهود المتدينون المتطرفون والعرب. في عام 1956 توصلت السلطات «الإسرائيلية» إلى اتفاق مع القيادة الدينية الدرزية، كان مؤداه أن الشباب الدروز غير المتدينين، أي الذين ما زالوا في مرحلة «الجهال» يمكن أن يجنَّدوا. وأما المتدينون في مرحلة «العقال» فيعفون من التجنيد. بالمقابل، اعترفت السلطات «الإسرائيلية» آنذاك باستقلالية القيادة الدينية الدرزية عن القيادة الدينية الإسلامية. وفي عام 1958 تم أيضاً الاتفاق مع الشركس المسلمين للانضمام إلى الجيش، ومع بعض قبائل البدو في الجليل والنقب. لكن لا يوجد حتى الآن قانون تجنيد عام للبدو. ومنذ عام 1950، طالبت بعض القيادات العسكرية «الإسرائيلية» بتجنيد جميع العرب. وقد ركز البعض على تجنيد المسيحيين العرب. وصدرت أوامر بالتجنيد فعلاً للمسيحيين في بلدة الجش المسيحية في الجليل. لكن السلطات العسكرية لم تتابع الأمر ولم تنفذه. لعل السبب في عدم المتابعة أن العرب المسيحيين كانوا يُعتبَرون هم، أيضاً، خطراً على الأمن، بما أنهم جزء من السكان العرب عامة، وهم على درجة عالية من الثقافة.
موقع صحيفة «هآرتس» الإلكتروني كان قد أعلن أنّ قرار تشكيل الهيئة صدر بعد لقاء نتنياهو مع الأب «جبرائيل نداف» المعروف بتشجيعه لتجنيد المسيحيين العرب، وناجي عبيد، رئيس المجلس الأرثوذكسي في يافا الناصرة، والعقيد احتياط شادي خليل من الناصرة، الذي سلط الإعلام الحكومي الأضواء عليه، وأدلى بمقابلات في التلفزيون أعلن من خلالها أنه عاقد العزم على تجنيد الشباب المسيحي للخدمة في الجيش. وأشارت «هآرتس» إلى أنّ العام الأخير شهد ارتفاعاً ملحوظاً بأعداد المجندين من المسيحيين، وأنّ العدد قد ارتفع من 35 مجنداً مسيحياً قبل عام، إلى 100 مجندٍ مسيحي خلال هذا العام، بالإضافة إلى تأدية أكثر من 500 شاب مسيحي لـ«الخدمة المدنية الوطنية».
تهدف الهيئة التي أمر نتنياهو بتشكيلها إلى دمج أبناء الطوائف المسيحية من فلسطينيي الداخل في قانون «تقاسم العبء» ومعالجة الجوانب الإدارية والقانونية اللازمة لحماية مؤيدي التجنيد والمتجندين من خطر الاعتداء عليهم، وتكثيف فرض القانون وملاحقة من سمّاهم نتنياهو المشاغبين والمحرضين على العنف. ما بين حماية المدافعين عن الخطة، وهم القلة، وتهديد الكتلة الشعبية والرموز الدينية، وهم الأكثرية، تتوضح خطة العمل في المرحلة القادمة. هذه الخطة التي حاول من خلالها نتنياهو، التملق اللفظي لأبناء الطائفة بقوله: «يجب السماح لأبناء الطائفة المسيحية بالانخراط في الجيش الإسرائيلىي والدفاع عن إسرائيل، فأنتم موالون للدولة وأنا أحييكم، ولن نسمح بأي تهديد لكم وسنعمل لتطبيق القانون بقبضة متشددة ضد كل من يلاحقكم. دولة إسرائيل وحكومة إسرائيل تقف إلى جانبكم».
ترجمت حكومة نتنياهو، كما الحكومات السابقة، دعوتها لانخراط الشباب العربي في صفوف جيش العدو من خلال مبادرات/ضغوطات على الطلاب المسيحيين الذين يُنهون المرحلة الثانوية، لحملهم على التسجيل في الجيش، والعمل على كسر موقف غالبية المواطنين العرب المسيحيين، الرافض للخدمة في جيش الاحتلال على مدى السنوات الخمس والستين الماضية. أساليب كسر الرفض تطلبت استدعاء وُجهاء الفلسطينيين الذين عارضوا محاولات التجنيد هذه، من مسيحيين ومسلمين، للتحقيق معهم من قبل جهاز الشرطة السري. حيث اتهموا بـ«التحريض على العنف».
بدأت محاولات التنشيط لتجنيد العرب المسيحيين بالظهور، مع التحضير للمؤتمر الذي نظمته وزارة الحرب الصهيونية بهدوء، في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، بالقرب من مدينة الناصرة، العاصمة الفلسطينية الفعلية في دولة الكيان، لترويج الخدمة العسكرية بين المسيحيين. وقد جاءت مشاركة ثلاثة من رجال الدين المحليين في المؤتمر، لتفجر في صفوف الجماهير العربية بركان غضب، وتُحدث صدمة كبيرة أثارت ردود فعل سلبية لدى تلك الجماهير، وخاصة أنه ترافق ذلك الحراك الطائفي/ التفتيتي مع إعلان تأسيس حزب مسيحي - «إسرائيلي» - للمشاركة في الانتخابات البلدية، من خلال التنسيق مع جماعة يهودية يمينية متطرفة، تُدعى «إمْ تِرْتزو - إنْ رغبتم»، (اسم الجماعة مشتق من تعبير لتيودور هرتزل، يقول: إنْ رغبتم في أمرٍ، فلن يكون حلماً).
في ظل هذه الهجمة المنظمة من الحكومة «أجهزة رسمية وأحزاب ائتلاف» وبعض ضعاف النفوس من المواطنين العرب الباحثين عن حلول فردية ومكتسبات مادية ومعنوية من جراء انخراطهم في الجيش، أكدت التجارب لبعض من راهن على ذلك، أنها لم تجلب لهم سوى العزلة عن مجتمعه العربي، وبالتالي، عدم حصوله على امتيازات المستعمر اليهودي، بل ورفض الأخير، تقبله. إن هدف القيادات الصهيونية من التوجه نحو العرب المسيحيين لإدخالهم الجيش هو تنفيذ لخطة «فرق تسد» من أجل قطف ثمار الفتنة الطائفية «مسلم/ مسيحي» وداخل الطائفة الواحدة أيضاً. فضلاً عن أنّ هذه القيادات تعتقد واهمة أن الجيش كمؤسسة يمكنه أن يذيب/يلغي أية مواقف عدائية بين المحتل، والشعب الواقع تحت الاحتلال، من خلال تقديم الخارج/دول الطوق، وباقي أبناء الشعب الفلسطيني الرافضين لدور الكيان/الثكنة، على أنهم هم العدو للمجتمع/التجمع الجديد. ويحاول البعض أيضاً وضع الشباب الملتحق بتلك المؤسسة داخل تشكيلات «الأسرلة والصهينة» من أجل التناقض/التناحر مع الانتماء القومي العربي.
لكن تجارب مماثلة داخل المجتمع العربي، عكست درجة الانتماء/الارتباط الشعبي الواسع بأبناء الشعب العربي، عبر نسيج مجتمعي موحد في مواجهة المؤسسة الصهيونية. فقد واجه العرب الدروز من خلال لجنة المبادرة الدرزية، الرافضة لانخراط الشباب الدرزي بالجيش، ورفض العرب البدو تطوع أبنائهم بمؤسسة الغزو والاحتلال والقمع، التي تواجه إخوتهم وتهدم قراهم، كل تلك المواقف، تتوحد حولها مواقف القوى القومية والدينية في رفضها لخطة «الصهينة والأسرلة».
إن غالبية/معظم العرب المسيحيين، ومعهم كل أبناء الشعب العربي الفلسطيني، ترفض الحملة الجديدة، بل إن القيادات الروحية، قامت بالرد على أدوات نتنياهو وحكومته في إحدى الكنائس، من خلال القول «إنهم لا يمثلوننا». كذلك أصدر مجلس الروم الأرثوذكس في الناصرة، وهو هيئة منتخبة تمثل مصالح الجالية في المدينة، بياناً على الفور، يشجب مشاركة نداف. وهذا ما أكده عزمي حكيم، رئيس مجلس الطائفة الأرثوذوكسية في الناصرة، بالقول إن «مخطط سلخ المسيحيين عن أبناء وطنهم لن ينجح، وأن المسيحيين لا يحتاجون لحماية من إخوانهم المسلمين، بل يحتاجون لحماية دولية من سياسة التمييز العنصري التي تتبعها إسرائيل ضدهم وضد الشعب الفلسطيني». كذلك إن بطريرك القدس، ثيوفيلوس الثالث، حظر على نداف دخول كنيسة البشارة للروم الأرثوذكس. وقد جاء حديث البطريرك ميشيل صبّاح على شاشة تلفزيون فلسطين، ضمن برنامج «نظرة من الداخل»، متطابقاً مع موقف الرفض القاطع لكل محاولات تجنيد العرب المسيحيين في جيش الاحتلال: «أنا لا أرى ما يبرر انضمام أي شاب عربي فلسطيني، مسيحي أو مسلم على حد سواء إلى هذا الجيش الذي هو لمصلحة طرف واحد في إسرائيل، هو اليهود، ووظيفته الأساسية إدامة الاحتلال ضد شعبنا الفلسطيني وشن الحروب على شعوبنا العربية».
إن جهداً نظرياً «ثقافياً/معرفياً»، جذرياً وثورياً، يعيد تأكيد رفض العمل/الانخراط في المؤسسات الصهيونية، القمعية/العدوانية/الإقصائية، من خلال العمل في صفوف أبناء الشعب مع التركيز على الجيل الجديد، هو الكفيل بتعرية فكرة الالتحاق بتلك المؤسسات، وإسقاط دعاتها المحليين، سياسياً واجتماعياً، وبناء أوسع كتلة جماهيرية صلبة تقف في وجه مخططات حكومات الكيان وأحزابه العنصرية/الفاشية.
* كاتب فلسطيني