في خضمّ الحرب الارهابية المنظمة التي تخوضها دولة العراق والشام الاسلامية/ جبهة النصرة بالتحالف مع كتائب «الجيش الحر» ضد غرب كردستان (كردستان سوريا)، وبغطاء سياسي مباشر من الائتلاف العربي السوري في محاولة لوأد التبلور الكياني في غرب كردستان، بادر المجلس الوطني الكردي إلى توقيع مسودة الانضمام إلى الائتلاف في خطوة تعني مباركة هذا المجلس، أو بالأحرى الأحزاب التي تقف خلف هذا التوقيع الحملات التعريبية التكفيرية الشرسة ضد الكرد في سوريا، حيث ليس خافياً أن ثمة تنسيقاً بين الائتلاف وتلك القوى لدرجة يمكن معها اعتبار الائتلاف جناحاً سياسياً للتحالف العسكري بين الجيش الحر وتنظيم القاعدة، ممثلاً في فرعه السوري جبهة النصرة.
وحسبنا الإشارة إلى تصريحات رموز الائتلاف وخاصة رئيسه الجديد أحمد الجربا، التي أعاد فيها التأكيد على مواقف هذا الائتلاف العنصرية حيال القضية الكردية، حيث نفى صراحة، حاله حال أسلافه في رئاسة الائتلاف، وقبله المجلس الوطني السوري، وجود منطقة كردية في سوريا، فضلاً عن كردستان سوريا أو غرب كردستان. فالرجل لا يقرّ حتى بوجود منطقة سورية بغالبية كردية، مؤكداً أن سوريا عربية أبد الدهر، رافضاً أي شكل من أشكال الحكم الذاتي لكرد سوريا. في ظل هذه الأجواء يأتي هذا الاتفاق كمحاولة للتمويه وخلط الأوراق والتغطية على حقيقة المشروع التعريبي الجديد ضد الكرد، لكن هذه المرة تحت غطاء ما تسمى الثورة بغية حرمان الكرد إحقاق حقوقهم في سوريا المستقبل، وأداء دورهم كمكون رئيسي لها، وكشريك حقيقي فيهاإ إذ إنّ مواقف الائتلاف لا تختلف عن مواقف النظام من القضية الكردية إن لم تكن أسوأ منها حتى. فالائتلاف يقف مباشرة خلف الهجمات المنظمة على المنطقة الكردية بغية ضرب مشروع الإدارة الذاتية الموقتة، الذي أعلنته حركة المجتمع الديموقراطي ومجلس شعب غرب كردستان. المشروع الذي رفضت بعض أحزاب المجلس الكردي المهيمنة عليه، ولا سيما جماعة الاتحاد السياسي وبعض الأحزاب الأخرى التقليدية، الاسهام فيه لكونها تعرف أنه في حال مضي المشروع قدماً وتمهيده للانتخابات فإنها بالنظر إلى ضعف نشاطها وفاعليتها على الأرض ستكون متضرّرة، حسب فهمها الحزبوي القاصر. فخوفها من الاستحقاق الانتخابي هو ما يقف خلف تهربها ورفضها المشاركة في انجاز خطوة تاريخية كهذه، وليس تذرعها بأن الوقت مبكر للخطوة كهذه سوى محاولة للتغطية على هذه الحقيقة. فمنذ بدء الثورة وشروع حركة المجتمع الديموقراطي في التأسيس لأمر واقع الحق الكردي في سوريا، وهذا المجلس وأحزابه تردد أن الوقت لم يحن بعد، لا لفتح المدارس الكردية، ولا لاعتماد تسميات خاصة بالتظاهرات في المناطق الكردية، بدلاً من التسميات القروسطية الماورائية العربية. ولا لرفع الرموز والأعلام الكردية بدلاً من أعلام القاعدة، ولعلنا نتذكر كيف أن هذه الأحزاب كانت ترفض تشكيل وحدات حماية الشعب، وقوات الأسايش التي وفرت لها حركة المجتمع الديموقراطي ومجلس شعب غرب كردستان الغطاء السياسي عند تأسيسها. ولنا تصور مصير الشعب الكردي ومصير مناطقه وأرضه لو أنه جرى الركون إلى رؤى ذاك المجلس الكسيح الاستلابية.
فالأحزاب المهيمنة على المجلس الكردي بدلاً من الاستجابة لدعوة الانضمام إلى مشروع الإدارة الموقتة والتمهيد لتدشين تجربة ديموقراطية في غرب كردستان كتفاً بكتف مع مجلس شعب غرب كردستان، ها هي تلتحق كهامش على الهامش إلى جانب الائتلاف دون أدنى اقرار من هذا الأخير بالحقوق الكردية المشروعة، ودون أن تُذكر كلمة كردستان أو حتى منطقة كردية في مسودة الاتفاق المخزي، الذي لن يقدم ولن يؤخر على الصعيد الكردي، إذ إنّ الأحزاب الموقعة لا تمثل سوى نفسها. فالوثيقة غير ملزمة كردياً لكونها لم توقع من طرف الهيئة الكردية العليا، التي هي وحدها الممثل الشرعي والوحيد للكرد في سوريا. والتنازلات الفادحة في تسفيه الحق الكردي جملة وتفصيلاً عبر اختزاله في بضعة حقوق مواطنية وثقافية، وفق ما ورد في هذا الاتفاق، لن تمرّ، فالكرد الآن بما يمثلونه من قوة وازنة في سوريا والاقليم الشرق أوسطي ككل لن يقبلوا بأقل من مقاربة عادلة وديموقراطية لقضيتهم، بما هي قضية أرض وشعب لا عبر وثيقة استسلامية يحاول الائتلاف العروبي تمريرها خدمة لأجنداته المعادية للقضية الكردية، وتواطؤاً مع تلك الأحزاب الباحثة عن مكاسب فئوية وشخصية تافهة، تصل إلى حد مجرد الحصول على كرسي في الائتلاف، والتمتع بمزايا الراتب الشهري والإقامة المجانية في فنادق إسطنبول.
فهذه الوثيقة الخطيرة التي تنفي تماماً وجود أرض كردستانية، لا تلزم أحداً سوى موقعيها. والحال هذه، ولو أنّه أُجري الآن استفتاء على هذه الوثيقة _ الفضيحة في غرب كردستان، فإنّها ستلقى الرفض المطلق لكونها لا تلبي الحد الأدنى من الحقوق والتطلعات القومية المشروعة للشعب الكردي في سوريا.
وعلاوة على محاولة افشال مبادرة تشكيل الإدارة الموقتة المنوط بها تنظيم الانتخابات، وما ينبثق عنها من برلمان وحكومة اقليميين في غرب كردستان، فإنّ الاتفاق يهدف إلى حرمان الكرد حضور مؤتمر «جنيف 2» تحت مظلة الهيئة الكردية العليا كقوة مستقلة عن المعارضة العربية السورية، ما ينعكس إيجاباً على تعضيد الدور الكردي في معادلات الحلّ والتغيير في البلاد، حيث حققت الهيئة نجاحات دبلوماسية ملحوظة لجهة ضمان تمثيل الكرد في المؤتمر الخاص بحلّ الأزمة السورية، ولا سيما بعد زيارة وفدها موسكو. هذا الاتفاق يمثل ضربة للكيان الكردي المزمع تشكيله في غرب كردستان، وفق نموذج الإدارة الموقتة المنوط بها مأسسة التجربة الديموقراطية في المنطقة الكردية، وشرعنتها عبر الانتخابات، مما يمثل مكسباًَ قومياً وديموقراطياً للكرد كشعب وكقضية، بغض النظر عن الاعتبارات والحسابات الحزبية لبعض الأطراف الكردية ـــ التي ارتمت في أحضان الائتلاف عبر اتفاق ينسف المبادئ والثوابت المؤسِّسة لعدالة القضية الكردية برمتها. هذه القضية بما تمثله من قضية قومية تتعلق بأرض وشعب، وليست قضية خدمية وإدارية تحل عبر لا مركزية إدارية، وفق نمط الإدارة المحلية، كما هو وارد في المسودة. فحل القضية الكردية، كما هو وارد في قرارات الهيئة الكردية العليا، يكون عبر الفدرالية في إطار دولة لامركزية اتحادية، تقوم على توزيع وتقاسم السلطات والثروات بين المركز والأقاليم، وضمنها اقليم غرب كردستان.
والحال أن محاولة إعادة انتاج نمط الدولة المركزية، وانكار وجود جغرافيا خاصة بالشعب الكردي (غرب كردستان) ضمت إلى سوريا المستحدثة بعد انهيار الامبراطورية العثمانية واتفاقية سايكس _ بيكو يمثل تقافزاً خطيراً على جملة الحقائق التاريخية والجغرافية والديموغرافية الناظمة لشرعية الوجود والحق الكرديين في سوريا. فالادارة المحلية في سياق لا مركزية إدارية تصلح ربما للدول الأحادية القومية، كآلية تطوير خدمي وتنموي لا أكثر للمناطق والوحدات الإدارية، ويكون نطاق اختصاصها مثلاً شقّ الترع وأرصفة الطرق وتنظيم شبكات الماء والصرف الصحي، ووضع وتنفيذ الخطط والمشاريع التنموية والخدمية. وتالياً فهي ليست وبأي حال وصفة حل للقضايا القومية في الدول المتعددة القوميات والديانات والطوائف، كما هي حال سوريا. ووحدها الصيغة الفدرالية الديموقراطية تمثل وصفة خلاصها من الأزمة الوجودية التي تحيق بها، بما تضمنه من تمثل لمختلف المكونات والأقاليم في مؤسسات الدولة الاتحادية، وشراكتها في حكم البلد وإدارته، وفق تكامل مقونن وتعاقد بين حكومة المركز والحكومات الإقليمية بما يضمن تشاركاً في مختلف الاختصاصات والفضاءات الوطنية سياسة واقتصاداً واجتماعاً...
الأمر الذي يعاكس سياسات الائتلاف السوري، الذي يسعى إلى إعادة انتاج الاستبداد وسياسات التعريب والتمييز القومي... عبر تمسكه بالدولة المركزية القامعة للتعدد والتنوع. ولعل صفقته المشبوهة مع بعض أطراف المجلس الكردي (ثمة أحزاب عديدة داخل المجلس ليست مع هذه الصفقة المولودة ميتة) خير شاهد على أنه ليس جاداً في اعتماد مقاربات ديموقراطية حقيقية في التعاطي مع واحدة من أهم القضايا الوطنية في سوريا، وبوصفها محكاً للتحول الديموقراطي البنيوي في سوريا، ألا وهي القضية الكردية، فضلاً عن أنه يكشف مدى الدور الخطير، الذي بات يتورط فيه هذا المجلس بدفع خاصة من أحزاب الاتحاد السياسي ومن يلف لفه. الأحزاب التقليدية عفى عليها الزمن، وبات عليها ادراك أنّها تحكم على نفسها بالانتحار المبرم، فضلاً عن أنها تسهم في خدمة الأجندات العروبية والظلامية المعادية للقضية الكردية في سوريا. فالتآمر واضح من وراء هذا الاتفاق على التمثيل الكردي المستقل في أي مؤتمر دولي مزمع للحل، وعلى مشروع مأسسة التجربة الديموقراطية في غرب كردستان. فهذا المجلس العاجز والفاقد الثقة بعدالة القضية الكردية ومشروعيتها، وبقوة الرقم الكردي الصعب في المعادلة السورية والاقليمية ككل، أقصى ما يملك هو ذينك الاستجداء التسولي والتفريط بما لا يملك حق التصرف به على موائد اللئام في المعارضة الطائفية العنصرية العربية السورية.
* كاتب كردي