ماذا تعني الديموقراطية وحقوق المواطنة والحرية في لحظة ينهار فيها الوطن؟
يقف السوريون في اللحظة الراهنة أمام امتحان مصيري، حقوقهم التي اشتغلوا على تحقيقها، يحوّلها الصراع الأعمى، والتدخلات الخارجية، إلى هياكل مفرغة، وفزّاعات.
أما بخصوص وطنية السوريين، فلا أحد يستطيع التشكيك بها. لكنهم يقفون الآن أمام خيارات مصيرية. هل يتمسكون بالتغيير الوطني الديموقراطي أمام قرع طبول الحرب؟ أم يتراجعون، وهم لا يعلمون حقيقةً، أي مستقبلٍ ينتظرهم، أهو استبداد ديني أم سياسي، أم أن الانهيار بات قاب قوسين أو أدنى؟ فهم يدركون أن التدخل لمعاقبة النظام، على ارتكابه (المفترض) للسلاح الكيميائي، سرعان ما سينعكس بنتائجه الكارثية على الوطن بكافة تجلياته وأبعاده ومستوياته.

بالتأكيد إن الاختيار يستوجب التمسك بالمسؤولية الوطنية، وتحديداً في لحظة يشعر فيها المواطن السوري بأنّ ما تريده قوى الاحتلال الغربي يناقض ما تدّعيه.
فادّعاء هذه الدول بالدفاع عن حقوق الإنسان والحريات والديموقراطية، لا يعدو كونه مطية من أجل تحقيق أهداف أكثر خطورة على سوريا والسوريين. وهذا يدركه السوريون بحسّهم العفوي.
لكن بذات الوقت يدركون أن نتائج المراحل السابقة، والأزمة الراهنة، تضعهم على عتبة الانهيار المتناقض بكل ما للكلمة من معنى.
ما العمل إذاً؟ هل يستسلم السوريون لقدرهم، في وقت يثبت فيه التاريخ أنهم أبناء الحرية والدفاع عن الوطن.
فالوطنية، وإن كانت تحمل في أحد مستوياتها حق الإنسان وواجبه في الدفاع عن وطنه، لكنها بذات اللحظة تعني الحفاظ على حقوق المواطنة والعيش الكريم. فهل كان هذا متوافراً للإنسان السوري؟ ماذا تركت سلطة الأزمة والأزمة للسوريين، من كرامة وحرية وعيش كريم. مع علمنا بأن قوى الظلام تتهدد السوريين بمستقبل قاتم الملامح.
فالجميع بات يدرك أنّ الصراع الدائر في سوريا وعليها. هدّم الإنسان والحجر على حدّ سواء.
عن أي شيء يدافع السوريون، وعن أية أهداف يناضلون، في لحظة تفترض منهم جميعاً، ومن منظور الواجب الوطني والمسؤولية، التوحّد أمام خطر خارجي يتهدد وحدة الوطن ومصيره؟ ونتساءل: ماذا تعني الحرية والديموقراطية والعدالة، بعد ضياع الوطن وتحوّله إلى ركام؟ هل سيحكم من ينتصر، بقايا السوريين الذين حولهم الصراع إلى أشلاء وأشباه كائنات بشرية، أم سيحكم ركام سوريا وأنقاضها؟ بالتأكيد لن يكون في سوريا منتصر في حال استمرار الصراع، أو في ما لو تدخلت قوى الظلم العالمي عسكرياً. ولماذا تتدخل هذه القوى؟ لحفظ ماء وجهها ظاهرياً؟ أم لمعاقبة النظام على تجاوزه الخطوط الحمراء التي حددها الرئيس الأميركي؟ فيما الحقيقة تكمن في أهداف ومصالح سياسية واقتصادية أبعد من هذا بكثير.
إذاً، لا بد من الربط بين المهمات الوطنية السيادية والسياسية والاجتماعية. فليس مبرراً لأحد أن يبيع وطنه تحت أي ذريعة كانت. لأن اللحظة التي يتم فيها استهداف مقومات الدولة ومؤسساتها، وليس مؤسسات النظام كما تدعي قوى الغرب الاستعمارية، سيدخل المجتمع بكل مكوناته في صراع لا براء منه. والسبب في ذلك تحويل سوريا إلى موطن للصراعات الدولية والإقليمية. وما نشهده من صراع محمول على أبعاد وأهداف استعمارية وتكفيرية، يشير إلى أن فراغاً في السلطة لن يساهم في الانتقال إلى الديموقراطية، بل سيسرّع من دمار الدولة والمجتمع أمام ضربات الخارج وتناقضات الداخل.
فالعنف في سوريا لم يولّد سوى عنف أعمى موغل في التخلف. وهذا لن يؤدي إلى تحقيق بديل وطني ديموقراطي وحضاري، حتى لو أُسقط النظام بقوى الخارج. بل سيذهب بسوريا والسوريين إلى تفتيت المجتمع، وتفكيك كيانية الدولة وتحويلها إلى حقل للصراعات الطائفية والأهلية... حينها لن يكون في المستقبل شيء اسمه سوريا الديموقراطية، بل أنقاض دولة وبقايا مجتمع منهار يتغذى على دماء السوريين.
وهذا يحيلنا على مقاربة بسيطة:
في عام 1956، تحالفت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل، ومن خلفهم الولايات المتحدة، لضرب مصر. ليس من أجل الحريات. بل من أجل إجهاض قرار الرئيس جمال عبد الناصر في تأميم قناة السويس. وفي عام 2003 حشدت الولايات المتحدة خلفها تحالفاً دولياً من أجل ضرب العراق، ومن جديد ليس من أجل القضاء على الديكتاتورية وتحقيق الحريات للعراقيين، بل من أجل تدمير كيانية الدولة العراقية والمجتمع العراقي، وبالتحديد للقضاء على قوة العراق العسكرية والاقتصادية، مستغلّة ذريعة الأسلحة الكيميائية. ليتبيّن لاحقاً أنها كانت خديعة من أجل غزو العراق. وحتى اللحظة يعاني العراق والعراقيون من غياب الدولة والقانون، بينما يبقى الموت الذي تحمله قوى الظلام يتربص بالعراقيين. وفي عام 2011 جرى غزو ليبيا تحت ذريعة نصرة «الثوار» وتخليص الليبيين من نظام القذافي «الديكتاتوري». بينما كان الهدف الحقيقي، هو تدمير عوامل قوة ليبيا، وإدخالها في حقل صراع داخلي من المؤكد أنه لن ينتهي قريباً. وما يحصل الآن في مصر، لا يبشِّر بالخير، ويشي بأنّ مصير المصريين والدولة المصرية وجيشها في خطر محدق. وقد يكون النَّيل من الجيش المصري من الأهداف التي ينوي الغرب تحقيقها بذرائع مختلفة. وهذا لا يتنافى مع ما يرسمه بعض القادة الخليجيون والأميركيون لمستقبل مصر بما يتلاءم مع توجهاتهم السياسية الجديدة في المنطقة. ودائماً تكمن مصالح الدول الغربية خلف أسباب تدخلها المباشر وغير المباشر في شؤون الدول الأخرى.
إن الاستهداف الغربي لسوريا التي تشكل قلب الوطن العربي وبوابته، يفترض بداهة مواجهة التدخل الخارجي، وتأكيد إيقاف الصراع الدموي، وإخراج القوى الظلامية والتكفيرية من المشهد السوري، والبدء الفوري بحل سياسي يضمن وحدة سوريا وحقوق مواطنيها في الحرية والعدالة.
إذاً، ليس المقصود من حروب الغرب في اللحظة الراهنة، تحقيق أيّ من الأهداف التي يناضل من أجل تحقيقها المواطن العربي، بل للوصول إلى تدمير كيانية الدول العربية وجيوشها وتفتيت مجتمعاتها، ليصار إلى إدخالها في صراعات داخلية بينية، عمادها الدين والمذهب والعشيرة...
ما تقدمنا به يستوجب منا الوقوف أمام دلالات مفهوم الوطنية، وفي أشكال تجلياته الأولية. فهو يستغرق الحفاظ على الوحدة الوطنية أمام التدخلات الخارجية، والحفاظ على وحدة وتماسك مكونات البنية الاجتماعية والسياسية، في إطار الوحدة الوطنية القائمة على الديموقراطية، وضمان حقوق المواطنة، وتوظيف الثروات الوطنية في سياق إنجاز مشروع تنموي وطني ديموقراطي يحقق العدالة الاجتماعية.
يدّعي البعض إمكانية الفصل في مفهوم الوطنية، بين الوطنية في مدلولاتها الهادفة إلى وحدة الكيان الجيوسياسي، وبين أشكال وآليات التغيير الديموقراطي، وتحديداً، عندما يجري تحميل آليات التغيير على الخارج. لكن الأكثر دقة وموضوعية. هو إدراك مفهوم الوطنية بكونه مفهوماً متعدد المستويات، وتجسيده عيانياً يفترض الاشتغال عليه بكونه كلاً واحداً. وهذا يستدعي رفض أي تدخل خارجي.
وبحكم العجز التاريخي للسلط البورجوازية، فإنها وقعت في تناقض بنيوي مع مجتمعاتها. فكان شكل السلطة السياسية الشمولية يعبّر بوضوح عن شكل إنتاج رأسمالي متخلف يتناقض مع المصلحة الوطنية العامة. وقاد هذا، إلى تراجع دور الدولة القومية ذات المشروع الوطني الديموقراطي التنموي، أمام تغوّل السلط الشمولية، وتمكين علاقات إنتاجية رأسمالية محكومة بالتبعية والتخلف والتشوه.
إن ما أوردناه يقودنا إلى نتيجة مفادها أنّ شكل الدولة الراهنة يتعارض مع المنظور الوطني المستند إلى حقوق المواطنة وإطلاق الحريات المدنية والسياسية، ويتعارض أيضاً مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية بمفهومها الديموقراطي الذي يُعتبر مدخلاً إلى التحرر الاجتماعي.
فتغييب المشاركة السياسية الديموقراطية، يقود غالباً، إلى حصول تناقض وتعارض بين مستويات ودلالات مفهوم الوطنية. وهذا يؤكد أنّ تحقيق مهمات التغيير الوطني الديموقراطي، يجب أن تقوده قوى اجتماعية تمثل مصالح القاع الاجتماعي، وفي سياق مشروع اجتماعي يؤسس لفهم وطني شامل يقوم على وحدة وتماسك البنى الاجتماعية من أجل الانتقال إلى نظام سياسي ديموقراطي يكون فيه باب المشاركة السياسية مفتوحاً لجميع القوى السياسية الديموقراطية. وهذا بحدّ ذاته، يشكّل الحلقة المفتاحية في سياق إنجاز مشروع وطني ديموقراطي قادر على مواجهة التدخلات الخارجية، والحفاظ على كيانية الدولة والوحدة الوطنية.
إن العمل على تكريس مفهوم الوطنية لا يتحمّل في اللحظة الراهنة الفصل بين مستوياته. فضرورة تأكيد ترابط مستويات الوطنية، تكمن في تزايد حدة الصراعات الداخلية ذات الميول الأهلية والطائفية، واستعار قوى الغرب للتدخل العسكري المباشر.
وهذا يفترض بداهة، الربط بين المستويين الوطني والديموقراطي، واعتماد الحلول السياسية لكونها تشكّل الضمانة الوحيدة لمواجهة الخطر الخارجي، وبذات الوقت تشكّل مدخلاً للانتقال إلى مجتمع إنساني يتمتع بكامل الحريات والديموقراطية السياسية والاجتماعية، دون أن يعني هذا عدم محاكمة المتورطين في انتهاك حرمة الدم السوري.
* باحث وكاتب سوري