تشبه المملكة العربية السعودية زيّاً تنكريّاً عن «التاريخ البدائي» للمجتمع. ينشئ وزير التعليم «3 لجان تراقب فكر الطلاب»، من بينها «وحدة متخصصة بالانحراف الفكري في الجامعات»1. في تبوك، تتمكن «شعبة مكافحة السحر والشعوذة» في «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» أي الشرطة الدينية، من «إبطال سحر، استخرج من بطن فتاة»2.
كما نجحت «الهيئة» في «تحرير عائلة مجهولة من شعوذة وأنياب رأس الذئب النافق»، بالإضافة إلى «ملابس نسائية مستخدمة»3. إنه التاريخ البدائي يتحكم بالتاريخ الحديث.
في السعودية الحريات السياسية محظورة والحريات الشخصية محظورة. عندما تجرأ مذيع «سعودي» على دعوة المستمعين لبرنامجه الى الاتصال بزوجاتهم وإسماعهن كلاماً رومانسياً على الهواء مباشرة، تم إيقاف برنامجه واستدعائه للتحقيق من قبل لجنة تابعة لوزارة الإعلام، بتهمة تجاوز حدود الآداب العامة ومخالفة تقاليد المجتمع [البدائي] السعودي4. ولكن بعد نحو شهر من الإعلان عن تدريب 100 فرد/ «محتسب» من الشرطة الدينية في الرياض على «مهارات التعامل مع المرأة في الميدان»5، نفذ بعض هؤلاء جريمة التعدي على «فتاة مول النخيل» وهتك سترها، وإجبارها على الهرب في حافلة، علماً بأنها كانت تنتظر سيارة تقلها.

يحتاج النظام القبلي السعودي إلى أدوات من خارج التاريخ


يحتاج النظام القبلي السعودي إلى أدوات من خارج التاريخ، مثل الشرطة الفكرية، أي «مصلحة الأمن الفكري في وزارة الداخلية»، وكذلك الشرطة الدينية، لإجبار المجتمع الفعلي على التزام «حدود الآداب العامة» ومنع «مخالفة التقاليد» التي ترسمها القبيلة. وهذه الممارسة المنهجية تُصدق تلميحات عالم الأنتروبولوجيا الفرنسي موريس غودلييه Godelier عن مكانة السعودية في خريطة الدول البدائية أو دول الجماعات البدائية6.
يشوب نصوص محرري الصحف «السعوديين»، «حول مفهوم المواطنة»7، أو في شأن «إصدار نظام يجرم الطائفية»8، طموح سياسي شجاع. لكن التاريخ لا يسير بقوة النصوص. يشدد الحكم القَبَلي عملية فك وإعادة تركيب المجتمع «السعودي»، على أساس «الانتماءات [البدائية] كلها. بدءاً بالدين، فالقرابة، فالعيش المشترك»9 بين جماعات مضطَّهِدة ومضطَّهَدة. وهذه العملية الاجتماعية التاريخية الجارية، التي تغذي «المجتمع البدائي» بكل أسباب الوجود، تفسر لطخات الوحشية القبلية واستخدام «أساليب القرون الوسطى»10 في فرض إذعان المحكومين للحاكمين بالمجتمعات المحلية في السعودية.
تشجع محاضرات غودلييه حول مكانة السعودية بين الجماعات البدائية والقبائل والدولة والنظام الدولي، وهي ألقيت في عام 2008، على (إعادة) قراءة «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» الذي كتبه «الجنرال» فريدريك إنجلز Engels قبل قرن ونيف. لا سيما وأن كلا المؤلِّفين معجبان بكتاب «المجتمع القديم» الذي ألفه الأميركي هنري لويس مورغان Morgan عام 1877. في أنتروبولوجيا «المجتمع البدائي» الحاكم في السعودية، كما في مثيلاته، تُدغَم السلطة السياسية بالسلطة الدينية، حتى يتماهى التوجيه «السياسي» بالوعد الإلهي، ويتماهى التحذير «الديني» بالوعيد الإلهي.
حبذا لو يميز الباحثون في تاريخ الاجتماع السياسي العربي الحديث، ولادة الدولة البدائية السعودية عن نشوء «الدولة الوطنية» العربية. فقد جاءت السعودية من خارج تاريخ «الموروث الإمبراطوري» في المجتمع العربي وغيره، الذي ارتكز إلى الاقتصاد الخراجي، وتميز بـ«تفلسف» وعقلانية المفكرين والمجتهدين الإمبراطوريين العظام، الذين حاولوا رسم خطوط الفصل بين «السياسي» و«الديني»، ونشدان تحرير «الإنسان» والجماعة من تقاليد وأفكار المجتمع البدائي.
فالدولة الوطنية العربية التي نشأت من رحم الثورات والانتفاضات الشعبية، وحركات التحرر الوطني، ناضلت لطرد الجيوش الكولونيالية، وكذلك الجيوش الإمبريالية، ولنيل الاستقلال وتحقيق التنمية. أما السعودية، فإنها تولدت، فعلياً، عن «الموروث الإمبراطوري» الإنغلوساكسوني.
إن «مراسلات حسين ـ مكماهون» تعبّر بشدة عن احترام نخبة المجتمع البدائي ـ البدوي لسلطة النظام الكولونيالي وخضوعها لها. مثلما يعبر «ميثاق كوينسي» بين عبد العزيز آل سعود وفرانكلين روزفلت، والذي تدعى الأجيال السعودية الجديدة لتبجيله11، عن خضوع النخبة القبلية السعودية البدائي للسلطة الأقوى في العالم، وتعلقها العضوي بمركز النظام الإمبريالي. هذا التعلق هو خيار اجتماعي ـ سياسي رجعي، يستبطن سلطة المجتمع البدائي في كيان المجتمع الفعلي.
إن القبيلة السعودية رجعية بسبب هذا الخيار الاجتماعي ـ السياسي الذي تتمسك به، وليس لأنها قبيلة وحسب. عند منتصف السبعينيات من القرن الماضي كتب فيدل كاسترو: «إن قبائل السكان الأصليين في أميركا الذين قاتلوا الغزاة الإسبان كانوا أشد قومية/ وطنية من بعض الأحزاب الشيوعية في أميركا اللاتينية حالياً»12. مثل هذا المديح الكاستروي كثيراً ما أُسْبِغ على القبائل العربية الشامية التي قاومت العثمانيين الغزاة أو الفرنسيين الغزاة من أجل حماية مجتمعاتها.
تُشابه الدولة البدائية السعودية، برأي غودلييه، دولة قبيلة بارويا (Baruya) في بابواسيا ـ غينيا الجديدة. تعمل السلطة السياسية ـ الدينية القبلية الباروية، مثل نظيرتها في السعودية، من أجل إعادة استيلاد الكيان القبلي، وتُكَيِّف المحلي ـ البدائي مع العالمي ـ الحديث. مع انتباهنا إلى اختلاف وظيفة كل منهما في النظام الدولي.
أصبحت الباروية، وكذلك «المجتمع البدائي» لسكان أميركا الشمالية الأصليين، الذي درسه مورغان، فولكلوراً على حاشية التاريخ الحديث. أما المجتمع البدائي السعودي، الذي يتمسك برفض نشر المنهج العقلاني ومبادئ الحرية في أوساط الجمهور العربي، باعتباره من شروط الاستقلال والتنمية، فأصبح منجم الإرهاب الديني في التاريخ الحديث وفي الحياة الدولية المعاصرة. وللبحث بقية.

الهوامش:


1ـ مكة، الجمعة 01 كانون الثاني/يناير 2016


2_ عطاالله العمراني، الرياض، يوم 21 أيار 2014


3_ أحمد العطوي، عكاظ، 18 تموز/يوليو 2011


4ـ وكالات، الجمعة 30 تشرين الأول 2015


5_ تقرير عبدالله الداني من جدة. عكاظ، 01 كانون/ يناير 2016



6 ـ غودلييه، موريس. القبائل في التاريخ وفي مواجهة الدول. دار الفارابي، بيروت، شباط 2015، الطبعة الأولى.
ـ غودلييه، موريس. الجماعة، المجتمع، الثقافة. دار الفارابي، بيروت، شباط 2015، الطبعة الأولى.


7ـ علي الخبتي، الوطن، 25 أيلول 2015

8ـ محمد آل الشيخ، الجزيرة. 30 تشرين اول 2015


9ـ يوسف الديني، الشرق الأوسط، 1 آذار 2016


10ـ انتقدت وزيرة الخارجية السويدية مارغوت فالستروم السعودية واصفة إياها باستخدام أساليب القرون الوسطى إثر تأكيد حكم السجن والجلد في حق المدون السعودي رائف بدوي. وكالات. الثلاثاء 9 يونيو/حزيران 2015.


11ـ تقرير وكالة الأنباء السعودية : علاقات عميقة وظفتها المملكة لصالح الأمة العربية والإسلامية
ـ من لقاء «كوينسي» إلى قمة العشرين.. صداقة سعودية أمريكية ضد الأنواء. منشور في صحيفة الرياض، 3 حزيران/ يونيو 2009.


12ـ وردت في "مذكرات تشي غيفارا"، مقدمة الطبعة العربية، بقلم فيدل كاسترو. دار الفارابي، 1978، بيروت.

* مدير موقع «الحقول»