كشفت التطورات الأخيرة حول «الكيميائي» السوري حجم تراجع قوة ونفوذ الولايات المتحدة في العالم. وكشفت، أيضاً، تقدّم منافسيها للعب دور يزداد حضوراً وتاثيراً إلى ما يكاد يوازن ويعادل الدور الأميركي. هذا الأمر سيستمر في التحرك ضمن مسار متراجع بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية ومتقدم بالنسبة لمنافسيها السياسيين والاقتصاديين والعسكريين. المعادلة المذكورة هي ثمرة جملة تطورات متواصلة في الحقول كافة.
دور الأشخاص (القادة) في تقرير مصير ومسار المعادلة المذكورة محدود، إلى درجة كبيرة، دون أن يعني ذلك أنه قليل الأهمية دائماً. وهو دور، يبقى أيضاً، وإلى حدّ بعيد، شديد التأثر بالذهنية العامة التي تطبع، بشكل تام تقريباً، أنماط ونماذج سلوك الإدارات الأميركية المتعاقبة والرؤساء الأميركيين، واحداً بعد آخر.
ما كشفته أزمة «الكيميائي» الحالية هو مدى قدرة الإدارة الأميركية، ولو بشكل نسبي، على الاستفادة من الدروس والتجارب. يحصل ذلك، أحياناً، بشكل بطيء ومتأخر. وقد يحصل بشكل سريع أيضاً. يحصل ذلك أحياناً من قبل رؤساء الإدارة أنفسهم، كما قد يُفرض على هؤلاء، على غرار ما حصل بُعيد الغزو الأميركي للعراق. يومها تفاقمت الخسائر الناجمة عن مغامرات «المحافظين الجدد» والرئيس جورج بوش الابن. تشكلت لجنة بيكر ــ هاملتون من الحزبين الجمهوري والديموقراطي. نظرت سريعاً في أسباب «الاخفاقات». أصدرت توصيات عدة مهمة لوقف التدهور ولإحداث انعطاف في مسار الصراع الذي كان دائراً في العراق وحول غزو ذلك البلد. أخذت إدارة بوش بالكثير مما أوصت به اللجنة.
في الوضع الراهن، يتولى الرئيس أوباما نفسه تدوير المواقف والزوايا والقرارات. «ارتباكه» الذي لاحظه الجميع، هو ثمرة تجارب ومتغيرات لا تخلو خطاباته ومواقفه من الإشارة إليها بطريقة مباشرة وبليغة في معظم الأحيان.
لم يتردد أوباما، في مجرى نقاشاته، في ذكر الانقسام حتى بين أفراد أسرته بشأن الحرب وضرورتها أو اشكالاتها أو مخاطرها... هذا أمر يُسجل للرجل الذي يتهمه البعض، من دعاة «الضربة»، بالجبن والعجز، ويأخذ عليه رافضوها بأنه يكرر أخطاء سلفه جورج بوش الابن في ركوب المغامرة واللجوء إلى القوة والقتل والتدمير. لا يتعب أوباما من الإشارة إلى دروس المرحلة السابقة. وفي امتداد ذلك هو يشتق تقاليد جديدة في ضرورة العودة إلى المؤسسات: أي في ضرورة عدم التفرد في الشؤون الكبيرة الخطيرة، حتى ولو كانت الصلاحيات الدستورية تسمح بذلك.
ينطلق أوباما، في الأساس، في كل ذلك، بالطبع، من مصالح حزبه والكتل الاحتكارية الكبيرة المقرِّرة في السياسات الأميركية العامة. ينطلق أيضاً من السياسات التقليدية الأميركية حيال الصراعات الخارجية، ومنها الشرق الأوسط. هنا ينطلق، بالتأكيد، من أولويات الولايات المتحدة في الهيمنة وفي حماية سياسة إسرائيل العدوانية والتوسعية. كل ذلك ماثل في قرارات أوباما. لكن أوباما يضع لمساته الخاصة التي لاحظها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حين أشار إلى «صراحة» أوباما، ويلاحظها العالم بالطبع الذي يراقب «هدوء» أوباما، رغم سخونة المواضيع التي يتحدث عنها ومنها تحريك الأساطيل وإعداد الصواريخ والذهاب إلى الحرب.
في تردده يعكس أوباما ما يطرأ على دور الولايات المتحدة من ضعف، لكنه يعكس أيضاً، قدرة الإدارة على الإفادة من التجارب و«الاخفاقات» والأخطاء.
هذا النوع من التعامل مع الصعوبات، تتقنه أيضاً الحكومات الإسرائيلية دون استثناء تقريباً. ليس نادراً عدد اللجان التي كانت تتشكل اثر الحروب العدوانية الإسرائيلية، للنظر في أسباب الخسائر أو الأخطاء. آخرها ما حصل بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006.
لا يفعل الحكام العرب ذلك بالطبع. فهم رغم خسائرهم وهزائمهم، لا يخطئون! أكثر من ذلك، فالحكام العرب، وخصوصاً «الثوريون» منهم، ذوو قدرة استثنائية على تحويل الهزائم، المُرّة والمدوية، إلى انتصارات باهرة. وحده جمال عبد الناصر تجرأ، بعد نكسة عام 1967، على اعلان تحمل المسؤولية وعلى الاستعداد لـ«التنحي».
آخرون روجوا، في مقابل ذلك، وصفّقنا لهم، بأننا خسرنا الأرض لكننا ربحنا الأنظمة «التقدمية» والثورية التي لم تسقط! كانت السلطة من أجل القضية. أصبحت السلطة قضية قائمة بذاتها، تُسخّر من أجل أولوية الحفاظ عليها، كل قضية وطنية أو قومية. في آخر النماذج «أننا انتصرنا» على أميركا إذا خرج «الكيميائي» من المعادلة، وهو أصلاً أعدّه القائد الراحل حافظ الأسد لإحداث توازن مع النووي الإسرائيلي: إذا استمرت مأساة القتل والدمار والتهجير والاذلال في سوريا، فما هو ذلك الانتصار الذي عنه يتحدثون!
بشكل مشبوه، أو بخطأ إضافي، جرى زج «الكيميائي» في الصراع الداخلي في سوريا. إسرائيل هي المستفيدة الأولى من عملية استخدام «الكيميائي» خارج «التوازن الاستراتيجي» الذي صاغه الأسد الأب. وهي ستصبح مستفيدة وحيدة، مرة جديدة، باخراجه من المعادلة عبر المراقبة أو الاتلاف... فيما ترسانتها النووية خارج المساءلة والمراقبة والتداول أساساً.
قال أحمد فؤاد نجم بعد اتفاقية كامب ديفيد و«عودة» سيناء عام 1978: «يا خوفي من يوم النصر. ترجع سينا وتروح مصر»!
الخوف الآن مثلث: أن لا نستفيد، كالعادة، من تجاربنا. أن نسلم «الكيميائي» فترتاح إسرائيل. وأن يستمر القتال في سوريا حتى تُستكمل في هذا البلد العظيم عناصر نكبة عربية جديدة!
* كاتب وسياسي لبناني