(1)

لقد وضعت كلمة «ديمقراطية» بين مزدوجين في العنوان للتحذير من أنه لدينا هنا استخدام خاص للكلمة غير ما هو معهود ومألوف. ذلك أن موضوعي هو مصر، وإلى حد ما فلسطين، والتفتت الحاصل في كلتا الحالتين، وإن كان لأسباب مختلفة، لكن ما هو مشترك هو فهم خاطئ للديمقراطية يختزلها أولاً بالانتخابات، أو كما يقال «الصندوق»، ثم يعتبرها ثانياً أنها محك الشرعية السياسية. وكلا الافتراضين خاطئ.

ويستغرب المرء كم هو شائع هذا الاعتقاد، في مصر مثلاً، عند من هم في الحكم وعند المعارضة على حد سواء، وفي وسائل الإعلام العربية والغربية أيضاً. فيجري الحديث مثلاً، عن انتخابات ديمقراطية، وعن شرعية الانتخابات، وعن الشرعية السياسية بفعل الانتخابات. وفي السجال الدائر والصخب الإعلامي حول ما إذا كان انقلاباً أو ثورة بعد إقصاء الرئيس السابق محمد مرسي عن الحكم، يكمن جوهر الخلاف على الشرعية السياسية؛ أي ما إذا كانت تأتي من خلال الانتخابات أو من ما سُمِّي «الشرعية الثورية»؛ أي إرادة الجمهور أو أغلبية منه خارج نطاق الانتخابات.
ويبدو هذا جلياً في هذا السجال حول ما إذا كان انقلاباً أو ثورة. فخصوم الرئيس السابق مرسي يقولون إنه ليس انقلاباً، بدليل قبول الإخوان المسلمين أنها ثورة بعد إقصاء حسني مبارك عن الحكم من قبل المجلس الأعلى للقوات المسلحة، فما الفرق بين الإقصاءَين؟ ويجيب مؤيدو مرسي أن مبارك لم يكن منتخباً بصورة نزيهة وحرة وشفافة، وأن هذا هو الفارق الرئيسي بين الحالتين. ويقبل ضمناً الطرف الآخر هذا المنطق، ويجيب أن الديمقراطية ليست فقط الانتخابات، وأن الإرادة الشعبية هي في نهاية الأمر مصدر الشرعية السياسية، وأن هذا تجلى بوضوح في 30 حزيران/ يونيو وما بعد. وهكذا دواليك.

(2)


وخلافاً لهذا السجال والنقاش والافتراضات الصريحة أو المضمرة فيه، فإن جوهر ملاحظاتي هنا يكمن في أن الانتخابات ليست أساس الشرعية السياسية في مرحلة البداية في الثورة على النظام القائم، بل العكس من ذلك تماماً، إذ إنها، في حالة تعدد الأحزاب وتعدد البرامج، عنصر مفسّخ يؤدي إلى التفتت بدلاً من التوحد، وأن مصدر الشرعية السياسية في مرحلة البداية، يكمن في المسعى إلى تحقيق أهداف الثورة، وأن الانتخابات تؤدي إلى الابتعاد عن هذه الأهداف في معظم الحالات.
إن أهداف الثورة في مصر وفي تونس أيضاً مشتركة إلى حد كبير، حتى لو صيغت على شكل شعارات عامة في ميادين التحرير: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية. صحيح أن هذه شعارات عامة لا بد لها أن تترجم إلى برامج سياسية واجتماعية، وصحيح أيضاً أن مطالب عمال مصانع النسيج في مدينة المحلة - الذين كان إضرابهم الكبير في 6 أبريل 2008 مؤشراً على ما هو قادم - تختلف مثلاً عن مطالب متخرجي الجامعات العاطلين من العمل، أو عن مطالب الطبقة الوسطى عامة، لكن ليس من المتعذر ترجمة هذه الشعارات إلى برامج اجتماعية وسياسية، لأن الحاجات الأساسية للناس، وللبشر عامة، معروفة، منها العمل، والصحة، والتعليم، والأمن الشخصي، ودرء العوز، بما في ذلك في الشيخوخة.
والآن أسأل: ماذا تفعل الانتخابات بأهداف الثورة التي تَوحَّدت حولها جميع الأحزاب والحركات إضافة إلى الجمهور العريض؟ ما تفعله الانتخابات هو تحويل هذه الوحدة إلى أحزاب تتنافس مع بعضها بعضاً ببرامج مختلفة، وأحياناً متعارضة ومتنافرة، وتُفتت مصالحهم، وتُجزِّئ أهدافهم، وتُقلِّص اهتماماتهم وتختزلها إلى مصالح أحزابهم، وكلهم يدّعون أنهم سيحققون أهداف الثورة. فيا لها من صفقة خاسرة.
إن الانتخابات تفترض نظاماً سياسياً مستقراً إلى حد كبير، فيه قدر من التوافق بين مراكز القوى الرئيسية في الدولة حول طبيعة الدولة، والعناصر الرئيسية في أمنها القومي وتكوينها الداخلي، من ضمن أهداف أخرى، وهو الأمر الذي ينعكس عادة في دستور الدولة، حتى وإن كان في صيغ عامة، لكنها تسمح بالبناء عليها واشتقاق قوانين وسياسات منبثقة من مواد الدستور. ما حدث في مصر هو العكس تماماً. فقد شكلت الانتخابات بداية الانحدار إلى هاوية الشقاق والاحتراب الداخلي، تبعها دستور افتقر إلى الحد الأدنى من التوافق، الأمر الذي نجم عنه انشقاق داخلي عميق انتهى بالاستقطاب الذي توج بأحداث 30 حزيران/ يونيو وما بعد. هذا بدوره أدى إلى اصطفاف المعارضة السابقة مع «الفلول» «والدولة العميقة» في مواجهة الإخوان. كل ذلك بفعل الانتخابات ونتائجها. وما زال البعض يعتقد أن الانتخابات أساس الشرعية السياسية في بداية ثورة. وأستذكر هنا قول أحد الكتّاب: «إذا أردت أن تجهض ثورة، فابدأ بالانتخابات».

(3)


أشرت سابقاً إلى أن مصدر الشرعية في الثورة؛ أي في المسعى إلى تغيير طبيعة النظام القائم، وليس فقط استبدال مجموعة حاكمة بمجموعة أخرى كما حصل في مصر، أنّ مصدر الشرعية هو المسعى إلى تحقيق أهداف الثورة. وصحيح أن لكل ثورة خصوصيتها، وأنه لا يمكن اعتبار أي واحدة منها نموذجاً لثورات أخرى، لكن لو أخذنا الثورة الفلسطينية مثالاً، لوجدنا أن شرعية فصائل المقاومة التي انضوت لاحقاً في منظمة التحرير الفلسطينية، قامت على مسعاها إلى تحرير الأرض المغتصبة، وإزالة الاحتلال الصهيوني. وقد سلكت حماس الدرب نفسه لاحقاً، وبنت شرعيتها على هذا الأساس قبل أية انتخابات نيابية. وما زالت المقاومة، مهما تعددت أشكالها، مدخل الشرعية السياسية في الحالة الفلسطينية، وبخاصة مع فشل المفاوضات في إنجاز الدولة الفلسطينية المنشودة. وسأعود إلى الحالة الفلسطينية لاحقاً.
لكن، في ما يتعلق بالانتخابات، فهي آلية هدفها التداول السلمي للسلطة، إضافة إلى تمثيل الناخبين والإنابة عنهم. غير أن البدء بالانتخابات قبل تحقيق أي هدف من أهداف الثورة، كما حصل في مصر، أفرز معارضة قوية قوامها النظام القديم بكامل عدته وعتاده، ما عدا عدداً محدوداً من الأشخاص الذين أُودعوا السجون، إضافة إلى جميع من عارض نظام مبارك خارج الحكم بعد الانتخابات.
وقد أدى هذا إلى تحالف موضوعي بين النظام القديم الذي ما زال يمسك بمفاصل الدولة، والمعارضة الجديدة خارج الحكم، انتهى بميادين تحرير جديدة، ومسعى مستمر إلى إفشال حكم مرسي. وقد دفع هذا الرئيسَ السابق محمد مرسي إلى مهادنة النظام القديم، والإحجام عن التغيير المطلوب من قبل ميدان التحرير، من تطهير أجهزة الأمن المختلفة، ووزارة الداخلية، والقضاء، والإعلام الرسمي، التي تضافرت جميعها لغرض إفشاله في الحكم.
ومن الجلي أن تغيير النظام برمته في مصر لم يكن ممكناً دون توحيد جهود كافة القوى والأحزاب والحركات التي شاركت في ميدان التحرير وفي الثورة. ولم يكن التغيير المطلوب في مقدور أي حزب واحد في الحكم حتى لو كان حزب الإخوان المسلمين. هذا ما أدت إليه الانتخابات من نتائج، منعت تحقيق أهداف الثورة. فمن أين يا ترى أتت هذه الشرعية المزعومة للانتخابات؟ من هذا الفشل؟

(4)


في هذا الفهم المغلوط للديمقراطية، وفي غمرة الصراع الداخلي والتراشق الإعلامي، جرى في مصر إضفاء هالة من القداسة على صندوق الاقتراع، وإهمال عناصر أساسية أخرى من النظام الديمقراطي. فلو افترضنا جدلاً، وأقول جدلاً، أن الانتخابات خطوة أولى مناسبة لغرض تأسيس نظام ديمقراطي بعد الثورة، وهو الهدف المعلن لمعظم الأحزاب والحركات في مصر، فإن إهمال العناصر الأخرى الجوهرية المكونة لهذا النظام، قد ينتج نظاماً سلطوياً آخر، لا يختلف كثيراً عن النظام السابق. فمقولة «الأغلبية تقرر»، وأن الاحتكام للشعب «ليقرر ما يريد»، وأن «الصندوق هو الحكم» دون قيد أو شرط، هي مقولة واسعة الانتشار بين مختلف الأحزاب والحركات في مصر، وتجد انعكاساً لها في وسائل الإعلام باختلاف توجهاتها.
وصحيح أن للشعب أن يقرر ما يريد؛ فله أن يقرر، مثلاً، أنه يريد إعادة النظام القديم، أو أنه يريد نظاماً ملكياً وراثياً لا انتخابات فيه، أو أنه يريد نظام الحزب الواحد، أو أنه يريد للجيش أو لقوى الأمن أن تحكم، لكن لا يمكن للشعب أن يقرر ما يريد دون أية قيود على قراره إذا كان يريد هو وقياداته نظاماً ديمقراطياً، كما هو الموقف المعلن في مصر. هذا النظام يضع قيوداً على ما يمكن للشعب أن يختار أو يقرر، تلك القيود التي تمثل مرتكزات هذا النظام السياسي، من بينها الحقوق والحريات المدنية والسياسية والاجتماعية التي يمنحها، وأولها حقوق المواطنة المتساوية.
إضافة، إلى ذلك، فإن العبرة الأساسية التي جرى استخلاصها، وبثمن مرتفع، خلال تطور هذا النظام عبر قرون عديدة تتعلق بطبيعة العلاقة بين الأغلبية والأقلية، وأولها الأقلية العددية، مضافاً إليها «أقليات» أخرى، سواء أكانت عرقية أم إثنية أم قومية أم دينية أم مذهبية. إن العبرة الأساسية هذه تكمن في أن إهمال مطالب الأقلية مهما كان نوعها، والاعتقاد أن الأغلبية لها الحق في أن تحكم كما تشاء دون اعتبار لمواقف الأقلية ومطالبها، إن هذا الإهمال، يؤدي في كثير من الحالات إلى شرخ داخلي كبير، وصدع نازف واحتراب داخلي قد لا تنجو منه الدولة، إلا إذا جرى استخلاص العبر الضرورية قبل فوات الأوان. وهذا ما حصل في مصر حول موضوع الدستور، الذي أقل ما يقال بخصوصه، أن الأغلبية افتقرت إلى الحكمة والخبرة والمعرفة التاريخية والمقارنة، الأمر الذي أدى إلى الاستقطاب الحاد الذي شهدناه طيلة الفترة التي جرى فيها نقاش الدستور الجديد، وما بعد إقراره. وقد دفع هذا بعض الأوساط في المعارضة إلى التحالف الضمني على الأقل، مع بعض فلول النظام السابق، الأمر الذي بدوره أجّج الصراع وعمّق الاستقطاب. هذا كله أنجز بفعل الاعتقاد السائد بأن «الأغلبية تقرر»، وأن «الصندوق يضفي الشرعية»، والاعتقاد المغلوط أن تحقيق أهداف الثورة، وإنشاء نظام ديمقراطي في مرحلة البداية ما بعد الثورة، يبدأ بالانتخابات.

(5)


سأنتقل الآن إلى الحالة الفلسطينية. إن التفتت الحاصل في الحالة الفلسطينية واضح وبيِّنٌ ومعروف للجميع، وغير مقتصر على الافتراق بين غزة والضفة. هذا الافتراق حاصل في الداخل، مضافاً إليه داخل الداخل، ثم الخارج، في الشتات والمنافي، وتكرار مأساة اللجوء والنزوح والتشرد، في العراق وفي سوريا الآن. ثلاثة أجيال نشأت في المنفى تتكلم لغات مختلفة، لا إطار سياسياً يوحدها، ولا وطنَ يوحدها، فقط شعار حق العودة. ومن هنا يمكن أن نفهم كيف رُفع هذا الشعار إلى مرتبة القداسة، فيقال حق مقدس، ذلك أنه لم يعد فقط مطلباً سياسياً أو قانونياً، بل أضحى أيضاً تعبيراً عن الهوية؛ عن من أنا، عن من نحن. وليس مستغرباً أيضاً أن يكون التمسك بحق العودة هو أيضاً تمسك بالهوية.
وعلى الصعيد السياسي الأضيق؛ أي وحدة تمثيل الشعب الفلسطيني، هذا التفتت أمر مدرَك، بدليل أن مطلب إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية كإطار سياسي جامع وموحِّد لكل الفلسطينيين، مُتضمنٌ في الاتفاقيات كافة التي وقعت؛ ابتداءً باتفاقية القاهرة في آذار من عام 2005، مروراً باتفاقية الأسرى، واتفاقية مكة، وانتهاءً باتفاقية القاهرة عام 2011.
هنا تؤدي الانتخابات دوراً بنّاءً، لأننا نتحدث عن نظام سياسي أو هيئة سياسية قائمة لها تاريخ مستقر نسبياً، ووتيرة اجتماعات لهيئاتها ومجالسها فيها قدر من الانتظام، واعتراف عالمي بها، إلى أن هرمت وشاخت منذ اتفاقية أوسلو، وتماهت السلطة مع المنظمة، وأصبح الفرق بينهما يكاد لا يرى.
أما الدعوة إلى الانتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة، التي ما فتئت تظهر بين الحين والآخر، والتي يُزعم أنه يُراد منها تجديد شرعية النظامين السياسيين القائمين في الأرض المحتلة، فلا علاقة لها بالشرعية السياسية من قريب أو بعيد. والواقع هو أن الانتخابات في الضفة وغزة فقط، تؤدي الآن دور عنصر مفتت إضافي ما دام يُنظر إليها، كما هو الحال، كجولة ملاكمة أو مصارعة، يتشوق أحد الأطراف، أو الطرفان معاً، إلى هزم الآخر بالنقاط، إن لم يكن بالضربة القاضية. إضافة إلى ذلك، وهذا هو الأهم، فإن الانتخابات إن عقدت، أو جرت الدعوة إليها، فإنها تموه أزمة الشرعية التي تعانيها كل من حماس وفتح، أو غزة والسلطة الفلسطينية. فمُعضلة حماس تكمن في أنه لا يمكنها أن تكون سلطة علنية ومقاومة في الوقت نفسه، لأن إسرائيل ستستهدفها. وقد كان عدوان إسرائيل على قطاع غزة في نهاية عام 2008 وبداية 2009 يهدف إلى إيصال هذه الرسالة من بين أهداف أخرى. وقد مررنا بتجربة شبيهة في الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية، واستهداف السلطة الفلسطينية، وحصار الرئيس عرفات واستشهاده. ومنذ ذلك الحين، توقفت المقاومة من غزة، التي ما زالت تحت الاحتلال لأنها فاقدة للسيادة على حدودها، وفي الجو وفي البحر.
أما مُعضلة فتح ومعها السلطة الفلسطينية، فتكمن في أن الفلسطينيين لم يتصوروا أن الهدف من إنشاء السلطة الفلسطينية هو أن تعمل كبلدية كبرى لإدارة شؤون السكان المدنيين في الضفة وقطاع غزة، كوضع دائم. وبالتالي، فإن السؤال يدور عن شرعية استمرار وجودها كما هي. وكان الرئيس «أبو مازن» نفسه قد أشار إلى هذه المعضلة في أكثر من مناسبة، أي عدم تحوّل السلطة إلى دولة ذات سيادة بالفهم الفلسطيني للدولة، بسبب فشل مسار أوسلو.
وإذا كان الهدف المنشود في قطاع غزة والضفة هو الانعتاق من الاحتلال، وتحقيق السيادة الوطنية، وحق تقرير المصير على أرض فلسطين، فإن الانتخابات لا علاقة لها بهذا الهدف، وأن الشرعية السياسية تكمن في العمل على تحقيق هذه الأهداف، مهما تعددت الآليات المستخدمة، ما دامت تسعف هذا الغرض بفعالية واضحة وبيّنة.
إن التساؤل الأساسي الآن في الوضع الفلسطيني هو عن شرعية استمرار الوضع الحالي، وشرعية السلطة السياسية في غزة والضفة في ظل استمرار الاحتلال وانسداد الأفق السياسي. ولن تسهم الانتخابات في تغيير هذا الوضع حتى لو عقدت، بل ستؤدي إلى تكرار سيناريو انتخابات المجلس التشريعي عام 2006؛ مجلس نيابي جديد تحت الاحتلال.
(قدمت هذه الورقة في المؤتمر السنوي
التاسع عشر للمؤسسة الفلسطينية
لدراسة الديمقراطية (مواطن))
* أستاذ جامعي ـــــ فلسطين